-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عندما يعتمر القمارُ قبَّعة الاستثمار

محمد ذياب
  • 1136
  • 0
عندما يعتمر القمارُ قبَّعة الاستثمار

من منا لم يسمع هذه العبارة من أحدهم وهو يشجعه “حظا موفقا” افعل ذلك الشيء، لكن كم واحدا منا يعلم أن أصل العبارة يرتبط بواحدة من أقدم الرذائل التي عرفها التاريخ، وهي القمار.

في التاريخ الأوروبي الوثني عبد الرومان إلها أنثى تدعى “فورتونا” والكلمة تعني “الحظ والثروة”، واعتقدوا أنها كانت قوية جدًا لدرجة أن الآلهة الكبرى كانت تخشى أهواءها، ولهذا أظهروا لها تبجيلا كبيرا من خلال إقامة المهرجانات على شرفها، ولم يكتفوا بذلك بل أقاموا لها العديد من المعابد. أحد هذه المعابد كان يسمى “فيليسيتاسو” الذي يعني “الحظ السعيد” أو “الحظ مع الثروة”، باسم هذا الإله تم التذرع عند الرومان بشرعنة القمار. ومن هنا يتضح أن عبارة الحظ السعيد الشائعة في اللغة الإنجليزية “may Lady Luck be your companion” أو العبارة المختصرة “good luck”، هي عبارة وثنية ولا تنتمي بتاتا إلى التراث المسيحي.

يصف أندرو شتاينميتز في كتابه “طاولة الألعاب أنصارها وضحاياها” مواصفات الإلهة الزائفة فورتونا بأنها: مخلوقٌ أناني لا يمكن استرضاؤه إلا بالبطاقات والعدادات والنرد، تلد هذه الإلهة طفلا مشوَّها يعرف  باسم “الألعاب” gaming، ثم تلد الألعاب نفسها توأمين شنيعين أطلق عليهما اسم”المبارزة” و”الانتحار” وأصبحا رفيقين دائمين لوالدهما الإله المشوَّه “الألعاب” ومن لفظgaming تولد gambling لينطبق الدال على المدلول كما هي طبيعة الثقافة الحلولية العلمانية في الغرب. هذه الصورة الأسطورية الوثنية التي نقلها لنا شتاينميتز لا تبعد كثيرا عن الصورة الواقعية للمجتمعات العلمانية والمجتمعات المعلمنة في الوقت الحاضر، إذ ترصد التقارير الأمريكية أن ما لا يقل عن ثلثي الأشخاص المدمنين على القمار يتحولون إلى الجريمة لتمويل إدمانهم.

وبالنظر إلى الثقافة السائدة التي تغذيها العولمة يبدو أن ما يتلقفه جيل الشباب الذي وُلد مع الإنترنت والرقمنة ويتطبع عليه بوصفه استثمارا أو توظيفا للأموال، ليس سوى صورةٍ من صور القمار الذي ينتهي في الأخير بضياع أموالهم وجهودهم، بدءا من المضاربات السريعة بالأموال الساخنة في البورصات إلى التداول الرقمي المفرغ للبتكوين والعملات المشفَّرة الأخرى.

لقد قامت الحداثة الغربية على أنقاض المسيحية في الغرب، وكان من بواكير منجزاتها هو عملية الاستبدال والإحلال اللغوي للمفردات الدينية المسيحية بمفردات علمانية تتناسب مع الطبيعة المادية المنفصلة عن الأخلاق لرأسمالية التحديث، فتم انشاء معجم كامل يتوافق وثقافة الحداثة العلمانية الغازية، على سبيل المثال تم استبدال كلمة usury التي تعني الرِّبا في المفهوم المسيحي بكلمة interest التي تعني فائدة، وبهذه الطريقة تم ابعاد الجرس الديني لكلمة الربا عن الآذان وإضفاء تبرير أخلاقي بطريقة أيقونية على المصطلح الجديد فيصبح الربا يساوي تماما الفائدة، ومن مِنَ الناس لا يحب الفائدة؟!

والأمر ذاته مع لفظ الزنا، فحسب قاموس روبار الفرنسي فإن العلاقة الجنسية بين رجل وامرأة خارج إطار الزواج كانت تسمى fornication أو adultère، لكن المعجم العلماني أحل كلمة sex محلهما وهي لفظة بعيدة كل البعد عن أي حُكم أخلاقي، لأن المدلول المعجمي الأصلي لكلمة “سكس” هو “جنس” ولفظ الجنس استُعمل في البداية للتصنيف البيولوجي للحيوان والإنسان والنبات وفق معيار الذكورة والأنوثة، وهذا التصنيف لا يثير أي نزاع أخلاقي لأنه مجرد توصيف لواقع طبيعي، لكن المعجم العلماني حول التوصيف (description) إلى وصفة (prescription) والوصفة معناها الدعوة إلى فعل شيء ما على افتراض أنه أمرٌ محمود وأنَّ أثره نافع، وبخفة يد يتسلل الحكم الأخلاقي الجديد ليحل ما كان محرَّما دون أي قيد أخلاقي ودون تأنيب للضمير. وبالرجوع إلى موضوع المقال، حلت كلمة speculation محل كلمة gambling ليتم محو ارتباطها بأفعال القمار، وتُرجمت إلى العربية على أنها “مضاربة” على اعتبار أن المعنى قد تم تحريفه قبل عملية الترجمة! مع أن المضاربة في القرآن الكريم وردت تعبيرا عن التجارة الحقيقية المبنية على الجهد وتحمُّل الأخطار، كما في قوله تعالى “وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله” أي يسافرون للتجارة لجلب الأرزاق من بعيد، وهو معنى يختلف تماما عن المعنى الجديد الذي أضفاه المترجمون على مصطلح المضاربة الذي يصف تلك الألعاب التي تنتهي بنقل أموال من خسروا اللعبة إلى جيوب من ربحوها.

كان من آثار الثورة المعجمية العلمانية أن شوَّه معنى الاستثمار تشويها بالغا، فمن خلال لعبة اللغة تم تطبيع الناس على آثام كبيرة كانت تعدّ –ولا تزال- من الكبائر في الديانات التوحيدية كلها، فالربا والقمار وبيع الغرر وكل أصناف أكل أموال الناس بالباطل تمت تسويتها معرفيا على أنها “استثمار”، وبالإضافة إلى اللغة كان لعلم الاقتصاد العلماني دورٌ كبير في هذا التحريف، فبضغطٍ من السلطة المعرفية لهذا العلم الكئيب تمت علمنة كل المفردات المتعلقة بالمال والثروة تحت عباءة العلموية، وباسم العلم والموضوعية أزيحت كل الأعباء الأخلاقية وكل ما يؤنِّب الضمير عن أكل أموال الناس بالباطل عن طريق اللعب في المسافة الفاصلة بين الدال والمدلول.

أصبحت قصص الثراء السريع لأولئك الذين يفوزون ويضربون ضربتهم وهم جالسون على كراسيهم هي الخبر الرئيس في عناوين الصحف والمجلات عبر العالم، ولم يعد علم الاقتصاد وحده هو المسؤول عن التبرير العلمي للمقامرات بوصفها “استثمارا”، فقد لحق بالركب “أشباه المعارف” مما كتب في قمته “الأعلى مبيعا في العالم” تارة تحت مسمى “التنمية البشرية” وطورا تحت مسمى “تطوير الذات” وأحيانا تحت مسمى “الحرية المالية”…

أصبح القمار اليوم أكثر شيوعا من أي وقت مضى، ولم يعد مهتما بمسألة التبرير المعرفي والأخلاقي للمقامرة، لأنه فرغ منها وحسمها لصالحه، أما الآن فإن الأجندة الجديدة هي “الانتقال من التبرير إلى الشغف”، فقد أصبحت قصص الثراء السريع لأولئك الذين يفوزون ويضربون ضربتهم وهم جالسون على كراسيهم هي الخبر الرئيس في عناوين الصحف والمجلات عبر العالم، ولم يعد علم الاقتصاد وحده هو المسؤول عن التبرير العلمي للمقامرات بوصفها “استثمارا”، فقد لحق بالركب “أشباه المعارف” مما كتب في قمته “الأعلى مبيعا في العالم” تارة تحت مسمى “التنمية البشرية” وطورا تحت مسمى “تطوير الذات” وأحيانا تحت مسمى “الحرية المالية” وهلم جرا، وشبه المعرفة هذه لا تعتمد على أساليب العلم ولا تحلل الواقع بل تداعب هرمون السعادة وإثارة الخيال بعيدا عن إكراهات السياسة والاقتصاد وأخبار الحروب ومطالبات الحياة اليومية.

ومع ثورة الانترنت ودخول العملات المشفَّرة على الخط تم توسيع طاولة القمار لتسع الجميع عبر العالم، فبعد أن كانت المقامرة في البورصات العالمية حكرا على فئة من المقامرين المحترفين في الدول الرأسمالية، أصبح بمقدور أي شخص يجلس وراء شاشة كمبيوتر مزوَّدا بخدمة الانترنت أن “يجرِّب حظه” مع هذه المقامرات، وقد أصبح من المعتاد أن نسمع في الأخبار اليومية عن “تبخُّر أموال المساهمين” في البورصة الفلانية أو في منصة تداول العملات المشفرة العِلَّانية، مع أن العبارة الأنسب هي “تبخر أموال المقامرين” في كازينوهات القمار، إذ لم تعد البورصة مكانا لبيع وشراء الأسهم من أجل تمويل المشاريع والشركات بقدر ما أصبحت منصَّة للمراهنة على تلك الأسهم هبوطا وصعودا، فقد تحولت الأسهم بالفعل إلى أوراق نرد وتحوَّل المستثمرون إلى مقامرين، وزاد الأمرَ تعقيدا بروزُ منصات تداول العملات المشفَّرة ومنصات الفوركس وما شابهها، فقد أصبحت النقود تدور في حلقة مفرغة وبسرعة رهيبة تتجاوز سرعة ما تصنِّعه المصانع وما تنتجه المزارع وما نبنيه من عقار وما نجنيه من ثمار، أي أن العمل تحوَّل بالفعل من الإنتاج والبيع الحقيقي إلى المقامرة والبيع الافتراضي، وبهذه الطريقة تم الزواج غير المقدس بين الربا والقمار.

وينبغي أن لا يُفهم مما أقوله أنني أقدِّم فتوى بتحريم تداول الأسهم أو التعامل بالعملات المشفَّرة وصرف العملات، لأن ما أهدف إليه هو تحليل الثقافة التي هيمنت على الحياة الاقتصادية والمالية وأصبحت تؤثر في مصيرنا، وليس غرضي بيان الحكم الشرعي في تفاصيل المعاملات المالية، فكثير من تلك المقامرات والتعاملات المحرَّمة لها بدائل جائزة تُعرف بالرجوع إليها في مظانِّها أو بسؤال الراسخين من أهل العلم الموثوقين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!