-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عندما يُصبح العقل أسيرا للهوى

سلطان بركاني
  • 1196
  • 0
عندما يُصبح العقل أسيرا للهوى

يزعم العلمانيون أنّ “العلمانية” تمثّل خلاصة تطوّر الفكر البشري في نظرته إلى علاقة الدين بالواقع والحياة، وهم وإن كانوا يعترفون بأنّ جذورها ترجع إلى الفلسفة اليونانية القديمة، إلا أنّهم يُرجعون بداية تبلور مفاهيمها الحديثة إلى عصر التنوير الأوروبّي، لكنّنا لو نظرنا إلى كثير من المبادئ التي تقوم عليها هذه “العلمانية الحديثة”، فإنّنا سنجد أنّها في حقيقة أمرها فكر جاهليّ قديم قدم البشريّة، جُوبه به المرسلون والأنبياء، ووُوجهت به رسالات السّماء؛ تدعو إليه نوازع النّفوس الجامحة وتزيّنه الأهواء، ويُدعى إلى غير أبيه وينسب إلى العقول والآراء.

إذا نظرنا مثلا إلى الحرية الاقتصادية التي ينادي بها دعاة العلمانية والليبرالية، فإنّنا سنجد أنّها هي ذاتها الحرية طالب بها قوم شعيب في القرن الـ15 قبل الميلاد، عندما خاطبوا نبيّ الله شعيبًا عليه السّلام بقولهم: ((يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ))، أنكَروا أن يتدخّل الدّين في الأموال والتّجارات، وزعموا أنّ العقل يأبى ذلك “إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيد”.

حرية المعتقد، هي الأخرى، مبدأ جاهليّ جوبه به الأنبياء جميعا، وجوبه به خاتمهمّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، حينما سعى المشركون إلى ثنيه عن التدخّل في عباداتهم ومعبوداتهم، وعرضوا عليه أن يعبدوا معه الله وحده مدّة من الزّمن، ثمّ يعبد هو معهم أصنامهم، فأنزل الله عليه قوله: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِين))..

كما أنّ إصرار العلمانيين على الاستهزاء بأهل الدّين، واتّهامهم بالتخلّف وتجميد العقول، هي نزعة جاهلية ضاربة في القدم، لجأ إليها الجاهليون، وواجهوا بها أتباع الأنبياء والرّسل، ((فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ))؛ وصفوا أتباع الأنبياء بأنّهم أراذل وأصحاب عقول ضعيفة، يتّبعون من أوّل دعوة “بادئ الرّأي”، ولا يستخدمون عقولهم! وهكذا العلمانيون، يظنّون أنّ رفض بعض حقائق الدّين، هو قمّة العقلانية والتحرّر، في حين أنّ مثل هذا السّلوك لا يعدو أن يكون رضوخا لأهواء النّفس ونوازعها؛ فالهوى الذي يتشكّل بفعل المؤثّرات الخارجية كالمنصب والمكانة والشّهوة، يزاحم العقل ويخالطه، حتى يتمكّن منه ويغدو صاحبُه يتحدّث بهواه ونوازع نفسه، وينسب ذلك إلى عقله، وهذه واحدة من أهمّ الحقائق التي يكابر العلمانيون عن الاعتراف بها، حين يذهبون إلى حدّ التّكذيب بوجود الهوى والوساوس، ويرون أنّه لا وجود إلا لعقل وخرافة، ويرفضون محاكمة دعاواهم أمام مبادئ العقل المجمع عليها، بل يصرّون على محاكمتها إلى ما يحلو لهم نسبته إلى العقل، ممّا لا يمكن أن يكون محلّ إجماع بين العقول، ولا يعدو في حقيقته أن يكون أذواقا وأمزجة.. فلا غرابة والحال هذه أن ينادي الهوى العلمانيّ –مثلا- بالحرية في إشباع شهوات لبدن دون حدّ أو قيد، ودون مراعاة للمآل ولمصلحة المجتمع، خلافا للشّرع الذي يشبعها بقدر معتدل لا يجعلها تطغى على العقل، ويراعي المآل والمصلحة العامّة التي لا تتحقّق إلا بوضع بعض القيود للمصالح الشّخصية.. ولا غرابة بعد هذا حين نجد الهوى العلمانيّ لا يقف عند حدّ المطالبة بفصل الدّين عن الحياة الاجتماعية، ومنعه التدخّلَ في الخيارات الشخصية، بل يذهب بعيدا إلى حدّ المطالبة بفصل شؤون الآخرة عن شؤون الدّنيا؛ فعلى النّقيض من المتديّنين الذين يرون الوجود مرحلتين متكاملتين، أولاهما قصيرة، وثانيهما طويلة خالدة، ويعملون على إصلاح أمر المرحلتين معا، لتتحقّق السّعادة الكاملة والأبدية، فإنّ العلمانيين يُهملون أمر الآخرة، ويقلّلون من شأنها ويتحدّث بعضهم عنها بازدراء واستعلاء، لأنّ ما يصلحها يتعارض في بعض الأحيان مع نوازع النّفس ويحول بينها وبين انطلاقها، وإهمالُ أمر الآخرة وأمر الثّواب والعقاب يتوافق مع نوازع النّفس وشهواتها، فالنّفس تحبّ الحرية والانطلاق وتكره القيود، وحديث الآخرة يؤطّر ويوجّه حريتها ضمن الطّريق الصّحيح الذي يحقّق سعادة الدّارين، على خلاف الهوى العلمانيّ الذي ينشد اللّذّة الآنية، ولا يهتمّ بالمآلات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!