الرأي

عن مشروع السُّننية الشاملة للطيب برغوث

التهامي مجوري
  • 967
  • 0

الدكتور الطيب برغوث مفكرٌ جزائري، من مواليد سنة 1951 برأس لعيون ولاية باتنة، أكمل تعليمه بجميع مراحله بالجزائر، وعمل بمؤسسات الدولة الجزائرية، في مصالح مختلفة بوزارتي: الشؤون الدينية والتعليم العالي، وهو الآن مقيمٌ بمملكة النرويج.

مشروعه هذا كان ولا يزال يشتغل عليه منذ ما يقارب نصف قرن من الزمان، وقد صدر له نحو ثلاثين كتابا كلها تدور حول المشروع وتفاصيل أبوابه وفصوله، ولا يزال بين يديه عددٌ من المخطوطات تنتظر دورها للخروج إلى القراء، قد جاوزت العشرين دراسة.

وقبل عرض المشروع في هذا المقال، أرى من الضروري الكلام عن مدى أهميته في إطار المشاريع الفكرية المطروحة في العالم قاطبة، وفي العالم الإسلامي خصوصا، لاسيما فيما يتعلق منها بالواقع الثقافي والحضاري الدولي، الذي تحكمه قيم الحداثة وما قبل الحداثة وما بعدها بما لها وما عليها، ويقابلها ما يعرف بالطروحات التقليدية المعروفة بالمدرسة المحافظة، التي لا تريد الخروج عن المألوف من تراثها ومفاهيمه الموروثة، وقد عبَّرت عن ذلك الجدلية القائمة بين الحداثة وما يقابلها، معارك القديم والجديد والأصالة والمعاصرة في مطلع القرن العشرين، ولا تزال جدلياتها تجرُّ ذيولها إلى اليوم.

وموقع هذا المشروع الفكري من المنظومات الفكرية بشقيها الحداثي والمحافظ أنه تجاوز المعارك التجزيئية للموضوع، كما تجاوز الجدل والصراع حول الأولى والأفضل والأجدر، إلى ما ينبغي أن تكون عليه الإنسانية بعد تجاربها المريرة عبر طول الزمان وعرضه، وهو المنظور الذي يخضع إليه الجميع، طوعا وكرها، كمنظومة سننية أودعها اللهُ حركة الحياة والتاريخ والحضارة، باسطة سلطانها على حركة الكون والحياة والإنسان، ومن ثمَّ فالمشروع يمثل نظرة جديدة تضاف إلى المبادرات الموجودة والمعتمَدة في الفكر الإنساني، سواء فيما يعرف بالفكر اليساري واليميني والإسلامي، أو ما يعرف بالفكر المادي وغير المادي، أو الفكر التقدمي والفكر الرجعي، أو الحداثي والمحافظ؛ مستدركا على هذه الأطراف المحكومة بمنظومة تجزيئية، حرمتها من رؤية فضائل غيرها من التجارب والخبرات في الفكر أو المنهج أو السلوك، كما حرمتها بالضرورة ثمار ذلك بالضرورة.

ومن ثـمّ حرمت تلك التجارب إدراك الحقائق كما هي بجوانبها المتعددة بعيدا عن الذاتية المضللة، التي تقود الفكر الإنساني اليوم.

وما يقال في موقف المنظور وإضافاته من المدارس الحداثية الفكرية والعقدية المتنافرة، يقال أيضا في الموقف من المدارس الإسلامية المذهبية في داخل المنظومة الإسلامية، مع الفارق النوعي بين التوجُّهين، إذ إن الخلافات بين المدارس الإسلامية العقدية والفقهية والسلوكية والحركية، كلها أُخْضِعت هي الأخرى للتجزيء الذي لا يسمح للرأي برؤية فضائل غيره من المختلفين عنه من الأفكار والآراء، فيحرم نفسه من فضائل هذا الغير، ويحرم غيره من فضائله التي توصل إليها ويتمتع بها، بسبب ما يرى في نفسه من فضل وقوة إدراك وكمالات، قد لا يقدِّرها غيرُه حق قدرها.

والمنشغلون بقضايا الأمة منذ أكثر من قرنين من الزمان كثيرون، ولهم الكثير من الطروحات والمشاريع الفكرية، سواء في الإطار الإسلامي فيما يُعرف بحركة الإصلاح أو عند من يُعرفون بقادة الإسلام السياسي، أو التيار الحداثي بمدارسه القومية واللبيرالية واليسارية، أو في إطار المبادرات السياسية الرسمية، في ما يعرف بقيادات تيارات الحركة الوطنية والقومية والشرعية التاريخية.

ومع تلك المبادرات جميعا، توجد الكثير من المشاريع الفكرية في العالم العربي والإسلامي، بتياراتها الفكرية المعروفة: محمد عابد الجابري والطيب تيزيني وطه عبد الرحمن، ومركز الدراسات العربية القومي، ومشروع جورج طرابيشي، والمشاريع الفكرية كطروحات اليساريين حسين مروة وعبد العزيز العروي، وغيرهم كثير.

وهذه المبادرات الفكرية التي تنطلق من أن المشكلة ثقافية قبل أن تكون أي شيء آخر، وكذلك الحركات الجمعوية والحزبية التي ركزت على الجانب السياسي، وُلد من رحم هذه المعاناة والصراعات الأيديولوجية، تيار آخر جديد يعتني بتركيز أكثر على نقل خلاصات تنظير المنظرين إلى مشاريع اجتماعية فكرية، والدعوة إلى تجاوز التنظيمات وتحويل أنشطتها إلى تيار عامّ في الأمة، تتحول بواسطة مشاريعه إلى سلوكات مبنية على القيم التي آمن بها الجميع فتتحول المشاريعُ المعرفية لتصبح ثقافة دارجة بين الناس.

ويتمثل هذا التيار في برامج توجيهية وتدريبية على معالجة الضعف الإداري وتنمية الطاقة البشرية، وذلك بالاستثمار في التنمية البشرية والبرمجة والتخطيط… إلخ. ويمثل هذا التيار مبادرة عمرو خالد بفكرة “صناع الحياة” في مصر، وجاسم سلطان بمشروع النهضة في قطر، وصلاح الراشد وطارق سويدان في برامجهما في صناعة القادة والتنمية البشرية من الكويت وتركيا، وقبل هؤلاء جميعا الأستاذ ابراهيم الفقي الذي بعث فكرة التنمية البشرية في العالم العربي، وغير هؤلاء من المدربين المعروفين كثير، تحولت مبادراتهم إلى تيار عامّ غزا الساحة الثقافية والاجتماعية في العالم الإسلامي.

تلتقي جميع هذه المبادرات في محاولة الانتقال من التنظير الفكري الذي كان على يد طروحات الجابري والطيب تيزيني وطه عبد الرحمن وغيرهما إلى مشاريع عملية تنفيذية يلمسها المواطن في حركة عملية تعود على حياته بالإضافة والتأثير.

وربما كانت مبادرات فكرية أخرى مثل: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومجلة المسلم المعاصر لجمال الدين عطية، وعبد الكريم بكار، تمثل المشاريع الوسيطة بين التنظير الفكري الذي كان يتلمس المشكلة ويحاول التنبيه إلى ضرورة الاهتمام بها، والتيار العملي البراغماتي الذي يشعر بضرورة الانتقال إلى التنفيذ، بعد قرنين من الاجتهاد الذي لم يُثمر القدر المنتظر منه.

إن عرضنا لهذه المبادرات ليس بغرض تقييمها أو نقدها، وإنما عرضناها للتأكيد على أن الأمة لم تتوقف عن القيام بالواجب، في البحث عن جذور أزمتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وإنما كانت حاضرة ومتفاعلة دائما، ولكنها كانت في أطر ضيقة لم تبلغ تغطية الأزمة من جميع جوانبها، في حين أن الأزمة كانت تتطلب جهود دول، ولكن الدول لم تنشغل بذلك، وإذا كُتب لها أن تتبنى مشروعا فإنها تقزّمه إلى أدنى مستوياته، بسبب ربطه بالحدث السياسي الآني المؤدلج، لتبقى الأفكار معلقة، وتحل محلها الانتهازية والقصور المفرط.

وتصوروا معي لو أن المشاريع التي ذكرنا وغيرها تبنتها دول!

في تقديري لو أن الأنظمة تبنت رجال الفكر والمشاريع التي طرحوها، لكان أمرنا غير الذي نحن عليه، وأقلّ ما تجنيه الأمة أنها تكتشف نواقصها وتعمل على تكميلها، لا أن تبقى تعلق إخفاقاتها المتتالية على الاستعمار حينا، وعلى الشعوب حينا آخر، وعلى الأنظمة حينا ثالثا… ومن ثم لم تستطع النفاذ إلى ما تبحث عنه الأمة.

وهنا تظهر أهمية مشروع “منظور السُّننية الشاملة” للدكتور الطيب برغوث في إطاره الزماني والمكاني والفكري، وذلك ليس بغرض مقارنته بهذا الطرح أو ذاك، أو بتفضيله عن هذا المسعى أو ذاك؛ لأن هذا المشروع ليس غرضه تقديم برامج عملية تنفيذية من اختصاص المجتمعات ومؤسساتها، كما أنه ليس مبادرة منطلقة من الصفر، وإنما هو نَفَسٌ تراكمي غرضه تقديم منهجية جامعة للفكر الإنساني متجاوزا بذلك الطروحات التجزيئية المؤدلجة، بعيدا عن إكراهات الحداثيين وضغوط المحافظين؛ لأن المشترك بين الاتجاهين وهم غافلون عن أثره السلبي، هو عدم التسليم بالخضوع لنظام سُنني واحد، وهو النظام الكوني كما خلقه الله والانتظام الوجودي بأوسع معانيه.

المنظور السنني إذن ليس مشروعا استئنافيا، ولا بديلا كليا لما هو موجود، وإنما هو جهدٌ استدراكي لما فات أهل المبادرات المطروحة، لتجاوز المعوقات الكثيرة والإسراع بالمبادرات إلى الأمام، وذلك بإعادة الأمور إلى أصولها الكلية، ثم الارتقاء بها إلى تفاصيل جامعة تخدم الإنسان في عاجله وآجله.

ينطلق هذا المنظور من مسلَّمة هي أن الحياة تحكمها جملة من القوانين مقررة في منظومة لتجربة بشرية مبناها على الخبرة التاريخية والخبرة النبوية.

أما الخبرة التاريخية فتشمل تجربة الإنسان عبر التاريخ في تفاعله مع الطبيعة، باكتشاف القوانين الناظمة للكون والعلاقات الإنسانية، وبذلك نشأت العلومُ الدقيقة المتعلقة بالكون وحركته، والعلوم الإنسانية المتعلقة بقضايا الإنسان ونُظمه وإنشاء مؤسساته وإدارتها، فاستثمرت وأثبتت جدارَتها وسلطانها على الواقع البشري.

وأما الخبرة النبوية فمنطلقُها أن التاريخ البشري لم تخلُ مرحلة من مراحل عمره، بل لم تخل الكرة الأرضية من وجود نبي، وآخر هؤلاء الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) [فاطر 24]، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم “إن مَثلي ومَثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين” (البخاري، عن أبي هريرة).

مشروع منظور السننية الشاملة هو ثمرة أكثر من أربعة عقود من الفكر والتدبر والتأمل والممارسة الحركية؛ فالدكتور الطيب لم يكن مجرد فيلسوف قابع في بيته أو متأمل في برجه العاجي، وإنما كان مثقفا نشطا متحركا مع حركة التاريخ، متتبعا للحركة الإنسانية، دارسا لفلسفة التاريخ والحضارة، متابعا فاعلا لتجارب الأمة الفكرية والحركية، باستقلالية وحرية ومسؤولية ناضجة.

وكل إهمالٍ لجانب من هذين الجانبين أو طرف من أطرافه المنبثقة عنه، ينعكس سلبا على حياة البشر، ولذلك كان التفوق الغربي وما حققته الحداثة في حياة البشر رغم فضائله الكبيرة، بقي منقوصا بسبب إهماله للخبرة النبوية، وللدين وأثره كجزء أصيل في الحياة البشرية… وكذلك استغناء المحافظين بتديُّـنهم عن حقائق الوجود الثابتة، لم يمكّنهم من تحقيق ما يريدون، بسبب إهمالهم للخبرة البشرية وقوانينها ومنتجاتها الفاضلة مخالفين بذلك قوله تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص 77].

وقد لخص الدكتور الطيب برغوث الطريقة الجامعة لما تفرّق عند غيره في منظومات جامعة وناظمة لحركة الإنسان في أربع كليات سننية، أطلق عليها مصطلح “ميزانية التسخير” وهي:

كلية سنن الآفاق: وهي القوانين الناظمة لكل ما يتعلق بالكون والمادة المتشكل منها، والقوانين المنظمة لها في علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجية وغير ذلك من العلوم الدقيقة.

لو أن الأنظمة تبنت رجال الفكر والمشاريع التي طرحوها، لكان أمرنا غير الذي نحن عليه، وأقلّ ما تجنيه الأمة أنها تكتشف نواقصها وتعمل على تكميلها، لا أن تبقى تعلق إخفاقاتها المتتالية على الاستعمار حينا، وعلى الشعوب حينا آخر، وعلى الأنظمة حينا ثالثا… ومن ثم لم تستطع النفاذ إلى ما تبحث عنه الأمة.

كلية سنن الأنفس: وهي القوانين الناظمة للعلاقات الإنسانية ونظم الحياة، وتشمل جميع القوانين المستخرَجة من خبرة الإنسان عبر التاريخ فيما يعرف بالعلوم الإنسانية، من علم اجتماع واقتصاد وسياسة وتربية وعلم النفس… إلخ.

كلية سنن الهداية: وهي القوانين المتعلقة بالأمور التي يعجز عن إدراكها العقلُ البشري، وهي الأمور التي لا يحسم فيها إلا الوحي، فكانت مهمة النبوة عبر التاريخ هي التي تقرر المطلوب بما ينزل عليها من وحي فتبلِّغه للبشر؛ لأن قدرات العقل محدودة فيما يدرك من حركة الوجود، أما عالم الغيب والروح ومتطلباتهما والطموحات البشرية وغير ذلك من الغيبيات التي يشعر بها كل إنسان ويعجز العقل عن الحسم فيها، فكانت مهمة الوحي سد هذه الفجوة التي لا يسدها غيرُه، ولذلك كانت النبوة وكان الدين ضرورة عبر التاريخ.

المنظور السنني إذن ليس مشروعا استئنافيا، ولا بديلا كليا لما هو موجود، وإنما هو جهدٌ استدراكي لما فات أهل المبادرات المطروحة، لتجاوز المعوقات الكثيرة والإسراع بالمبادرات إلى الأمام، وذلك بإعادة الأمور إلى أصولها الكلية، ثم الارتقاء بها إلى تفاصيل جامعة تخدم الإنسان في عاجله وآجله.

كلية سنن التأييد: وهي القوانين المنظمة لعلاقة الإنسان بربه مباشرة بلا وساطة، لأن ما يقوم به الإنسان من أنشطة وتطبيق للقوانين الناظمة للحياة، تبقى دائما في حاجة إلى التأييد الإلهي (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء 20]، وفي حاجة إلى التوكل والدعاء وإلى ما هنالك من الأمور التي بين الخالق والمخلوق مباشرة.

وفي النهاية فإن مشروع منظور السننية الشاملة هو ثمرة أكثر من أربعة عقود كما أسلفنا من الفكر والتدبر والتأمل والممارسة الحركية؛ فالدكتور الطيب لم يكن مجرد فيلسوف قابع في بيته أو متأمل في برجه العاجي، وإنما كان مثقفا نشطا متحركا مع حركة التاريخ، متتبعا للحركة الإنسانية، دارسا لفلسفة التاريخ والحضارة، متابعا فاعلا لتجارب الأمة الفكرية والحركية، باستقلالية وحرية ومسؤولية ناضجة.

مقالات ذات صلة