-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عودة التاريخ

أحمد بن يغزر
  • 536
  • 0
عودة التاريخ

عنوان هذا المقال هو نفسه عنوانُ كتاب صدر سنة 2005 ليوشكا فيشر نائب مستشار ألمانيا الأسبق ووزير خارجيتها في حكومة غيرهارد شرودر من 1998 إلى 2005 ونقل الكتاب إلى اللغة العربية الدكتور هاني صالح سنة 2009.

تصدّرت الكتابَ مقولة لعالم الاجتماع الأمريكي دانيال بل صاحب عدة كتب ومن أشهرها “نهاية الأيديولوجيا” ونص المقولة هو: “لقد كثُر الحديث بأن نهاية التاريخ تعلن عن نفسها هنا، أما أنا فلا أعدّ هذا القول صحيحا، فنهاية التاريخ كما فهمها هيجل ذات يوم تكون في خلق مجتمع عالمي، لكننا لن نشهد كيف سينتهي التاريخ، بل كيف سيبدأ من جديد”.

ورغم ذكر إسم الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل (1770- 1831) في هذه الفقرة باعتباره أول من استعمل مصطلح “نهاية التاريخ”، فإن الكاتب كان يقصد الرد على الأطروحة التي راجت في التسعينيات من القرن الماضي عقب نهاية الحرب الباردة عن “نهاية التاريخ” والتي كان وراءها عالمُ السياسة الأمريكي والأكاديمي المعروف فرانسيس فوكوياما، بدأت الفكرة بمقالة سنة 1989 في مجلة “ناشيونال إنترست” (The National Interest)، ثم صارت كتابا سنة 1992، فنظرية سياسية في تفسير الأحداث واستشراف المستقبل آنذاك رغم تراجع صاحبها عنها لاحقا.

حاولت مقولة “نهاية التاريخ” هذه أن تُرسِّم انتصار النموذج الغربي الليبرالي، وانتصابه نموذجا نهائيا للبشرية لا يُمكن توقع ظهور نموذج آخر قادر على منافسته أو إزاحته، وكأنه المحصلة الأخيرة للتطور البشري في صورته النهائية والمثالية، وكان هذا الانطباع مدفوعا بنشوة الانتصار على النموذج الاشتراكي الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي سابقا بعد عقود من التدافع بينهما على جبهات عديدة.

إن الحديث عن عودة التاريخ هو نقيض فكرة نهاية التاريخ، وكل الأحداث والتحوّلات التي وقعت خلال الثلاثين السنة الماضية وما يزيد قليلا (1990- 2022)، وهي المدة التي تفصلنا عن الحدود الأخيرة لما عُرف إعلاميا وسياسيا بالحرب الباردة، تُثبت أن التاريخ لم يتوقف حتى ينتهي إلى صورة أخيرة ثابتة، بل هو في صيرورة وتجددٍ مستمرين، وعندما تنتهي مرحلة من مراحله أو تغيب بعض وجوهه ورموزه ومعالمه فإن ذلك علامةَ بداية لمرحلة جديدة ليس إلا، وكل حديث عن النهايات هو بالضرورة حديثٌ عن البدايات.

عودة التاريخ ينبغي أن لا تُفهم أنها عودة طارئة بعد غياب، وقد يكون هذا ما يتبادر لأذهان البعض لأول وهلة فيستغربون الأمر، فالتاريخ لم يغب يوما، لكن ما استجد أن مساحة حضوره صارت أوسع، ودرجة تأثيره في بناء استراتيجيات الدول، وإثارة خيال الشعوب وطموحاتها، وتحريك اتجاهات الأحداث صارت أعمق، بل إن الاستغناء عن مُعطى التاريخ في قراءة وتفسير الحاضر قد يزيد من التعمية عن حقيقة ما يحدث.

قد يكون الحدث الأبرز الذي يهزّ العالم هذه الأيام والمتمثل في الغزو الروسي لأوكرانيا أحدثُ دليل على هذا التقدير بالعودة القوية للتاريخ؛ فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يقود هذه الحرب لا يُمكن اعتباره مجرد رئيس بل هو عنوانٌ مشروع كامل تتداخل في هندسته مكوِّناتٌ عديدة كقيم الأرثوذكسية المسيحية، وأشواق القومية السلافية، وطموحات المشروع الأُوراسي، وخلف كل هذه العناوين تبدو ظِلال التاريخ حاضرة بوضوح.

قد يكون الحدث الأبرز الذي يهزّ العالم هذه الأيام والمتمثل في الغزو الروسي لأوكرانيا أحدثُ دليل – وإن كان ليس الأول والأكيد أنه لن يكون الأخير- على هذا التقدير بالعودة القوية للتاريخ؛ فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يقود هذه الحرب لا يُمكن اعتباره مجرد رئيس بل هو عنوانٌ مشروع كامل تتداخل في هندسته مكوِّناتٌ عديدة كقيم الأرثوذكسية المسيحية، وأشواق القومية السلافية، وطموحات المشروع الأُوراسي، وخلف كل هذه العناوين تبدو ظِلال التاريخ حاضرة بوضوح.

وكما لاحظ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنريكيسنجر فإن الرئيس الروسي بوتين “يتمتع بإحساس كبير بالارتباط والاتصال الداخلي بالتاريخ الروسي”، ومما يؤكد هذا الانطباع أن التفسير الأدق (لنَقُل الأوسع) لما يحدث اليوم في أوكرانيا يتجاوز تهديد انضمامها المحتمل للحلف الأطلسي، وهو تحدي حقيقي وواقعي بدون شك، لكنه أيضا مرتبط بتطلع عميق لروسيا إلى تسوية ما تراه “خطأ تاريخيا”.

عبّر عن هذا الاعتقاد فلاديمير بوتين في مقال نشره صيف 2021 على الموقع الرسمي للكرملين، مما جاء فيه أن: “الروس والأُوكرانيين والبيلاروس ورثة روسيا القديمة، كبرى الدول الأوروبية في حينها، عندما كانت القبائل السلافية وغيرها تربط بينها لغة واحدة وأواصر اقتصادية وثيقة وسلطة الأمراء من سلالة واحدة، وبعد تبنِّي روسيا الديانة المسيحية انضمت إلى عناصر الوحدة المذكورة وحدةُ الدين الأرثوذكسي”.

ولذلك فهو يعتبر في نفس المقال أن: “الجدار الذي ظهر في السنوات الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، بين جزئين لهما نفس الفضاء التاريخي والروحي هو مصيبة كبيرة ومأساة”، وهو ما يُؤكِّد دور “الحافز التاريخي” في الحركة الروسية الأخيرة في هذا البلد، وهو ليس إلا جزءا في صيرورة حلم “روسيا التاريخية” التي تحرِّك خيال القيصر بوتين والنخبة الفكرية والسياسية والعسكرية المحيطة به.

لا تقتصر هذه “العودة للتاريخ” على روسيا فقط، ففي نفس المنطقة (الأوراسية) يبرز التطلع التركي بقيادة رجب طيب أردوغان للعب دور تحرِّكه الدوافع التاريخية أيضا، فهذه الدولة هي وريثة الدولة العثمانية، وهي تعتبر أن الترتيبات التي وضعتها الدول الأوروبية وفرضتها على تركيا مستغلة ضعفها وتراجعها في ما يُعرف بمعاهدة لوزان في 24 جويلية 1923، والتي أنهت فترة دامت ستة قرون من المجد العثماني الممتدّ على ثلاثة قارات.

تعتبر النخبة التركية، وخصوصا المقرّبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، أن وضعية تركيا اليوم لا تتناسب ودورها التاريخي، وأهمية موقعها الاستراتيجي، ولذلك فهي تستدعي التاريخ بشكل مكثف، وبصيغ متعددة لتُنعش هذا الطموح للحضور بشكل أكبر على الساحة الإقليمية والعالمية، وهي تضع هذا العمق ضمن كل توجُّهاتها الإستراتيجية، وتعتبر سنة 2023 -ذكرى مرور مئة سنة على معاهدة لوزان- محطة للتخلص من كل القيود التي فرضتها الدولُ الغربية على حركتها منذ قرن.

يُحاول خصوم تركيا مواجهة طموحها باستدعاء التاريخ أيضا، فهُم يصفون كل سياساتها في الإقليم بأنها “عثمانية جديدة”، كما يعملون على إحراجها بملفّ ما يسمونه بإبادة الأرمن (1915-1916)، ويُثيرون مخاوف بعض الأنظمة والشعوب العربية خاصة في المشرق ببعض السرديات التاريخية عن المعاملة السيئة للعرب التي قام به الولاة العثمانيون في الولايات العربية خاصة في الفترة الأخيرة من الخلافة العثمانية.

في السياق ذاته يُمكن إدراج الصعود السياسي والانتخابي لليمين المتطرف في الغرب عموما، وخطابات الشعبوية والنفور من الأجانب، والنداءات التي تدعو إلى مراجعة التاريخ  –حركة “حياة السود مهمّة” مثلا- والتي بلغت ذروتها بالعمل على إزالة بعض التماثيل لشخصيات تاريخية في المدن والساحات الكبرى في الغرب (نيويورك، لندن…) بحجة ممارستها لتجارة العبيد والتمييز العنصري في فترات سابقة.. كل هذه الأمثلة -وهي مجرد أمثلة-  تُبين بوضوح عودة التاريخ لصناعة المشهد في الحاضر، ولتحريك الاتجاهات الكبرى للأحداث.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!