الرأي

عولمة الإسلام أم أسلمة العولمة؟

الطاهر دحماني
  • 1666
  • 13
ح.م

كلُّ تلك الحملات الإعلامية المسعورة، يتم طبخها في مخابر الدراسات الإستراتيجية، بدعم مادي وأدبي من اللوبيات الصهيونية الأمريكية التي تحاول تدنيس المقدسات، مع سبق الإصرار والترصد. ويبدو أن مقاومة الغزو العولمي الاستعماري لرموزنا الدينية، إنما يبدأ بترقية الاعتصام القوي بركائز الإيمان، والتشبث بحبل الله المتين، والتمسك بمواريثنا الثقافية والأخلاقية… حتى لا نكون فريسة سهلة المنال لتجار العولمة الدينية التي تمتد في فراغاتنا، وتتغلغل في أوساطنا، كما تسري النار في الهشيم.

الغرب لا يخشى شبابنا المائع المتهتك أخلاقيا، ولا يقيم وزنا لشاباتنا المتحررات. ولكن لن يغمض له جفن، ولن يرتاح له بال، كلما انتشرت الصحوة الدينية، وأقبل الناس على اعتناق الإسلام. ولن يفرمل زحف العولمة الدينية، ويرد عدوانها السافر، غير المتمسكين بدينهم، الغيورين على سلامة حصون أمنهم الديني، الذي يعدّ قضية موت أو حياة. ويبدو أن طغيان العولمة، وتطاولها على الأديان، لن يقف الند للند في تحجيم زحفه، وفرملة خطره، سوى الإسلام الذي ساهم في قطع دابر الشيوعية، وهو مرشح لتقليم أظافر الوحش العولمي الضاري، ولا يتركه يحطم المنظومة الروحية للمسلمين. والمستقبل لهذا الدين القادر على استنهاض همم المستضعَفين، وإنقاذهم من بطش العولمة، بتعبير المفكر العربي المعاصر عبد الوهاب المسيري. وتطويع العولمة، وأسلمة ما تطرحه، ومقاومة إسترتيجيات عولمة الإسلام، وتشويهه، والإساءة لرموزه، وإقصائه اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا… والصراع بين العولمة والإسلام، مرشح للتصعيد بوتيرة أخطر، وستحتدم المعارك بينهما في عدة جبهات. وسيؤول النصر المؤزر للمؤمنين بالله، ويحل الخزي والهوان بعبيد المادة والمال.

الغارة العولمية على المرأة والأسرة الإسلامية

إن المرأة المسلمة هي مدرسة المدارس في تربية النشء على القيم الرفيعة، وهي أهم محضن لإيقاد شعلة الإيمان، وغرس حب الله في النفوس والعقول، وحسن إعداد رجال الغد ونسائه. وعليه، لم تسلم من طوفان التيارات الغربية التي تخطط بمكر ودهاء لضرب الأنثى، القادرة على تحريك سرير طفلها بيد، وهز العالم بيد أخرى. وهو يستغل قساوة الواقع الصعب للمرأة العربية المسلمة، ويتذرع بما تعانيه من ظلم وسلب لأبسط حقوقها وحرياتها باسم الدين، من بعض المتدينين المزيفين في مجتمعاتنا الشرقية الذكورية، والمرأة المسلمة التي تعاني ويلات التقاليد الجائرة، والعادات الجاهلية الموغلة في التشدد والتطرف، وغيرها من المظالم التي لا سند لها من دين أو مروءة، جعلها الغرب فرصته المواتية لنصب مشانق المحاكمات الجائرة للإسلام، والإجهاز على المسلمين، وشن هجماته لتحرير المرأة المسلمة باستدراجها للسفور والعري والتفسخ والتخلي عن زيها الشرعي، ودعوتها لركوب موجات الموضة، وتصاميم الأزياء، والمكياج، و تصفيف الشعر… لتصبح مجرد دمية جميلة يعبث بمفاتنها العابثون. ولا أدل على إذلال العولمة للمرأة المعاصرة، من رعاية الغرب لمسابقات ملكات الجمال العالمية، وهي فكرة صهيونية ماسونية عالمية، يتم تمويلها بواسطة الشركات العالمية الكبرى، وانتقلت عدواها إلى مجتمعاتنا العربية الإسلامية التي تتهافت لتنظيم هذه المسابقات المشبوهة أخلاقيا، تأسيا بما يحدث في الغرب.

وفي هذا السياق تقول المفكرة فانسيا سيغر: (الرسالة التي تحملها تلك المهرجانات الكبيرة التي تنفق عليها أموال طائلة، وتحظى بتغطيات إعلامية مكثفة، تؤثر سلبا على النساء العاديات من ربات البيوت والعاملات، وخصوصا من لا يستطعن مواكبة الجميلات من ناحية الشكل أو الحجم، فيدخلن في صراع مع برامج تخسيس الوزن، لأن منظمي تلك المسابقات تنصبّ على النساء الرشيقات النحيلات، وإبرازهن كنموذح للمرأة العصرية، مما يدفع غيرهن للكآبة والانهيارات النفسية والعصبية، لعدم قدرتهن على مسايرة النجمات اللاتي كأنهن من كوكب آخر.).

وتلك أعظم إهانة لكرامة المرأة وأنوثتها، وقمة الاستهتار والسلبية والدونية، وكل ما يحط من شأن المرأة العفيفة الطاهرة، وما تصنعه العولمة بالمرأة، يمثل حقيقتها الحالقة للقيم الرفيعة، فهي صناعة مغشوشة يريد أصحابها تذويب نسائنا في محاليلها، وقولبتهن في أنماطها، لترتد عن دينها، وتقطع الصلة بموروثها الأصيل، وتدمن تقليد العولمة كالببغاوات، وتتبع خططها وخطاها شبرا بشبر، وتقتفي أثرها خطوة خطوة..

الإسلام والعولمة: وجها لوجه.. فلمن يحسم التدافع؟

يرى الغرب أن الإسلام هو ذلك (الخطر الأخضر)، وهو العصيُّ على التطويع، فلم تفلح حملات التنصير والتبشير العديدة في تحويل المسلمين إلى المسيحية. والغرب لا يمانع في تنصير العالم، في مقابل إقصاء الإسلام، والعولمة الدينية تعمل لصالح الصهيونية العالمية، ودعم اليهودية ودويلة الكيان الصهيوني، وتخدم المشاريع الصهيو- أمريكية جهارا نهارا، وكل من يقف ضد إسرائيل، فهو ضد المسيحية، وضد الإيمان بالله. وتقف العولمة وجها لوجه مع الإسلام، متأهبة للنزال والصراع، محذرة من رهاب المسلمين، وفوبيا الإسلام. وعلى النقيض من ذلك، يدعو الإسلام إلى حوار جاد ومسؤول بين الأديان والثقافات. ويخالف مضمون نظرية صراع الحضارات، وهي نظرية المفكر الأمريكي المعاصر صمويل هنتغتون، الذي يرى أن الصراع لم يُحسم بعد تاريخيا، والمستقبل يخبئ صراع اختلاف الحضارات والثقافات، حيث تحاول كل حضارة فرض تصورها للإنسان والكون والدين والحياة والتاريخ، وتحدث عن صراع الأيديولوجيات المتناقضة، والدين أكبر معامل في تكوين الحضارات والثقافات، والصدام المرتقب بين العولمة الغربية والديانة الإسلامية، هي خطة أمريكية مكشوفة، لجر العرب والمسلمين إلى صدام غير متكافئ، لفرض العولمة الدينية بمنطق القوة، لا بقوة المنطق. وهو ما دفع المفكر المسلم رجاء غارودي، إلى الدعوة لحوار الحضارات والثقافات والديانات. وليس بالضرورة أن يكون الاختلاف مدعاة للصدام والصراع. والإسلام يدعو للتعارف، وإلتزام التدافع، لعمران الأرض، وإيثار التعايش السلمي، والعيش المشترك، لمنع افتراس القوي للضعيف. وفي خضم هذا الصراع، يسعى الغرب للمحافظة على مركزيته، وتقوية هيمنته على المارد الإسلامي، ومقاومة العملاق الصيني. ويبقى (الخطر الأخضر) شغله الشاغل، وعدوه اللدود كما تجلى ذلك في أحداث سبتمبر 2001..

تقييم المواقف الثلاثة لمقاومة العولمة الدينية

شأن كل القضايا الجدلية الكبرى، يقف الناس من هذه الإشكالية: على ثلاثة مواقف. وهي طرفان، ووسط. وهو ما يمكن توصيفه بدعاة الانغماس، والانكماش، والانغماش.

الموقف الأول: يدافع أصحابه عن العولمة ببسالة وحماس. ويدعو للانغماس التام في اساقها دون تحفظ، ودون قيد أو شرط. ويقبلون كل ما تطرحه. ويمثله الغلاة والمتطرفون من دعاة التغريب، والتطبيع، والإمعية الحضارية الكاملة في عالمنا العربي الإسلامي. وهم ظل الغرب في ديارنا ومجتمعاتنا، تجد حركاتهم وسكناتهم مضبوطة بدقة متناهية، على إيقاع أسيادهم. وتوكل لهم مهمة الدفاع عن أجنداتها المادية والأدبية.

الموقف الثاني: يقف على النقيض التام من الموقف السابق. وهو الرافض للتعاطي مع كل ما تطرحه العولمة، حيث ينكمش على الذات، ويتحصن في صومعته، ويقطع صلات الاحتكاك مع الغرب وعولمته الثقافية والدينية بالمطلق، ويؤثر انتهاج سياسة الهروب، وعدم المواجهة، ويتمسك بموروثه، وهو يتوجس خيفة وقلقا من كل جديد تطرحه أنساق العولمة.

الموقف الثالث: وهذا هو الموقف الوسط الراشد المقبول في تصورنا،. لأنه يجسد الوسطية الراشدة، والاعتدال، والتشبُّث بفضائل الأصالة والمعاصرة والتجدد، فالعولمة ليست بالمطلق خيرا كله، وليست شرا كله. ويمثله ذلك التيار الواسع من الإسلاميين والوطنيين المنصفين. ولا يمكن الفرار من ضغوطها، ولا قبول كافة إكراهاتها. ولا رفضها بالمطلق. ولا ينفعنا مع تحديات هذا الاستعمار العالمي الجديد، سوى التخندق مع أحرار العالم وشرفائه من المستضعفين، لتعزيز تشبثنا بهويتنا الدينية، وفرض تميزنا الثقافي والحضاري. وعدم طأطأة الرؤوس للتماهي والذوبان في طوفان الأمركة، وتسونامي العولمة الدينية الحالقة لمقوماتنا الأخلاقية والدينية.واللائق بالمسلم اليوم، أن ينتفع بإيجابيات العولمة، ويأخذ خير ما فيها ماديا ومعنويا، ويتحصن بقلاع أمنه الفكري والديني.

ويراهن على كسب قوة العلم والتكنولوجيا، وتحرير طاقاته المعطلة فرديا وجماعيا، ويجعل مصيره بيديه، معتمدا على خبرات العقول والزنود. وللغربيين عقدة تاريخية ومعقدة مع الإسلام،. فهم يكرهونه ويحقدون على أهله. والواجب الشرعي يدعونا للتقارب، والتعارف والتحاور بالحسنى لتحقيق السلم والأمن، وقيم العيش المشترك، وإشاعة المحبة والتعاون في هذا الكوكب.

بسط العولمة العادلة

تحقيق حلم العولمة العادلة، لضمان أمننا الديني، يظل صعبا، ما لم يدخل العرب والمسلمون نادي كبار مالكي القنبلة النووية والذرية، لأن حق الإيمان تحميه القوة النووية الرادعة، التي تحد غزو العولمة الدينية الخادعة. مع ضرورة استخدام التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية وطبية واقتصادية. ولن تقوم لنا قائمة في معترك النظام الدولي الجديد، ونحن في منآى عن محاريب العلم والإيمان. والبحث عن مفاتيح تحقيق النهضة الأخلاقية للأمة والدولة.

مقالات ذات صلة