-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عُدْ إلى قلبك وأيقظه!

سلطان بركاني
  • 517
  • 0
عُدْ إلى قلبك وأيقظه!

تحدّثَ ولا يزال يتحدّث العلماء والدّعاة عن الوسائل المعينة على حسن استقبال واستغلال رمضان، وعرضوا برامج مقترحة لاستثمار فرصه التي لا تعوّض في أيّ شهر آخر، وقد أبدعوا في ذلك ووفّوا -جزاهم الله خيرا- ونصائحهم لا شكّ أنّ فيها النّفع والخير لمن عمل بها. لكنّ الملاحظ أنّ ذات المضامين تتكرّر كلّ عام، وأنّ الصّائمين -في المقابل- يستنسخون روتينهم السنويّ مع رمضان، بل ويستنسخ كثير منهم خيارهم في العودة إلى ما كانوا عليه قبل رمضان في الأيام الأولى من شهر شوال!

أحد الدّعاة -جزاه الله خيرا- عرض -هذا العام- نصائح مختلفة نقلها عن الداعية الملهم حازم صلاح أبو إسماعيل -فرج الله عنه- تُركّز على عمل مهمّ يسبق كلّ برنامج في استغلال رمضان، هو إيقاظ القلب من غفوته، وإزاحة غشاوة القسوة عنه، وفتح أبوابه لتلقّي هداية الله، لأنّ القلب إذا تملّكته الدّنيا بهمومها ومشاغلها، لن يبقى فيه متّسع لهمّ الآخرة، ومن ثمّ ستكون الطّاعات التي يحاول العبد إضافتها إلى حياته حملا ثقيلا على القلب المشغول!

وإيقاظ القلب يحتاج إلى تفريغه من تلك الهموم التي تخللت نياطه وبلغت سويداءه، ليس بتطليق الدّنيا والاعتكاف بعيدا عنها، وإنّما بتخفيف وطأتها على القلب؛ فكلّ هذا الهمّ الذي يستولي على القلب؛ مثل همّ العمل والرّاتب وحاجات المطبخ والأبناء، يتضاءل حين يقوّي العبد اليقين في قلبه بأنّ واهب كلّ هذا هو الله الذي ضمنها لمن بذل الوسع المستطاع من دون حرص يشغله عن الهدف الأوّل من خلقه ووجوده. ففي الحديث القدسي: “يا بن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدُّ فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك” (رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد في مسنده).

لذلك فالعبد الذي يرجو سعادة قلبه وصلاح أمره، يحرص على أن يكون همّ الدّار الآخرة على رأس الهموم التي تشغل قلبه ووقته. يعطي دنياه حقّها من وقته وشغله، لكنّه لا يترك المجال لهمّها أن يستولي على قلبه ويتربّع عليه ويشغله بالليل والنّهار ويصبح ويمسي وهو الهمّ الأوّل والأوحد. يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد، كفاه الله سائر همومه. ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك”، ويقول -كذلك-: “من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له”.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمّل الله -سبحانه- عنه حوائجه كلها، وحمَل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته. وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكَلَه إلى نفسه”.

إيقاظ القلب من سكرته بالدّنيا، يحتاج من العبد إلى التفاتة خاشعة إلى أولئك الذين صاروا على هامش الحياة بعد أن كانوا ملء أسماع النّاس وأبصارهم، من اللاعبين والفنّانين والفنانات والمغنين والمغنيات. الواحد من هؤلاء يتذكّر أيام شهرته بكلّ حسرة، ويبكي أيام سعده بكلّ أسى، ويقول بلسان حاله: “لقد كان الأمر أعجل ممّا كنت أتوقّع”!

والأنفع من النّظر إلى حال هؤلاء أن يتأمّل العبد حال المحرومين من حوله، ممّن لم يعطوا من الدّنيا معشار ما أعطي. ولو أنّ من تملّكت الدّنيا قلبه جعل لنفسه مواعيد أسبوعية أو شهرية -على الأقل- لزيارة المستشفيات، ليقف على أحوال المتوجّعين والمتأوّهين الذين ما عاد همّ المال والرّزق يشغل بال أحدهم، بل أصبحت العافية أغلى أمانيهم، والواحد منهم على استعداد لأن يبذل كلّ ما يملك، وكلّ ما يمكن أن يملكه، لأجل أن يستردّ عافيته، ويستدرك تفريطه في حقّ خالقه؛ لو أنّ العبد المبتلى بعشق الدّنيا جعل له وردا راتبا من النّظر إلى أحوال هؤلاء، لكان ذلك نافعا لقلبه بإذن الله.

والأنفع من هذا أن يقف العبد بقلبه قبل جسده على أحوال المحتضَرين وعلى نظراتهم الكسيرة التي تنطق بما لا تنطق به ألسنتهم من الحسرة على إضاعة الأعمار في اللهث خلف الدّنيا وخنق القلب بهمّها وهي بكلّ هذه الحقارة وإلى هذا الزّوال! ثمّ يقف العبد على المقابر ويتأمّل صورتها وينتقل بقلبه إلى ما تحتها من نعيم مقيم أو عذاب أليم، ويتذكّر أنّ قبرين متجاورين ربّما يكون بينهما من الاختلاف ما لا يخطر على بال، وأنّ غاية أماني أكثر ساكنيها ركعتان خفيفتان ممّا ينفله الأحياء.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!