-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فتاوى على الهوى!

سلطان بركاني
  • 866
  • 0
فتاوى على الهوى!

نشرت دار الإفتاء المصرية في السابع والعشرين من شهر جويلية المنصرم، فتوى غريبة تبيح الاستغاثة بالأموات، وتنفي أن يكون هذا العمل شركا بالله على اعتبار أنّ الدّاعي لا يؤمن باستقلال الأموات من الأولياء والأنبياء بالنّفع والضرّ، إنّما يعتقد أنّ النّفع والضرّ بيد الله، وأنّ الميّت سبب في جلب النّفع أو دفع الضرّ.. وهي الفتوى التي تأتي في سياق توجّه رسميّ عامّ في جلّ الدول العربيّة لدعم العقائد القبورية اتّساقا مع رغبة غربية في توظيف هذا التوجّه لمجابهة ما يصطلح عليه بـ”الإسلام الحركيّ” الذي يتطلّع إلى صبغ الحياة العامّة بالإسلام، والذي اكتسح دعاته مختلف الميادين وأبلوا بلاءً حسنا في مقارعة الإلحاد والعلمانية.. وبناءً عليه فإنّ محصّلة دعم الخرافة والترويج لها وتقديمها على أنّها الإسلام الصّحيح، ستكون جرّ شباب المسلمين إلى الإلحاد، بعد أن يشعروا بالحرج من مصادمة الدّين الرّسميّ للعقل والعلم.

جرأة غريبة أبدتها دار إفتاءٍ تنتسب إلى بلد يعرف ببلد الأزهر، في مخالفة نصوص صريحة من كتاب الله تعالى تنكر أشدّ الإنكار على من يتّخذون من دون الله شفعاء يدعونهم مع الله أو من دونه، ويزعمون أنّ المدعوين يقرّبونهم إلى الله زلفى، مثل قول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (النحل: 19- 20)، وقوله سبحانه: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ (فاطر: 13- 14).

كما تحلّت دار الإفتاء المصرية بالجرأة في مخالفة أقوال أئمّة الإسلام الذين وإن اختلفوا في التوسّل إلى الله بالمخلوقين، غلا أنّهم أجمعوا على أنّ الاستغاثة بالأموات مباشرة وطلب الحاجات منهم، شرك بالله تعالى:

فهذا مثلا الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي (ت: 520هـ، رحمه الله) يقول في تعليقه على حديث أبي واقد اللّيثي الذي قال فيه: خرجنا مع النبي –صلى الله عليه وسلّم- قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط؛ فمررنا بالسدرة فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. لتركبن سنن من قبلكم”، يقول الطّرطوشي: “فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها” (الحوادث والبدع).

ويقول الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-: “قال ابن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالألواح [بالحوائج] وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ التراب تبركا وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، ولا تجد في هؤلاء من يحقق مسألة في زكاة فيسأل عن حكم يلزمه، والويل عندهم لمن لم يقبّل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرة مسجد المأمونية يوم الأربعاء…” (تلبيس إبليس).

ولعلّ ما هو أغرب من هذا وذاك، ويدلّ على أنّ فتوى دار الإفتاء لم يكن ضمن أولويات من أصدرها موافقة نصوص الشّرع، إنّما موافقة هوى معينا سائدا في مناكفة ومخالفة الوهابيين الذين ينسب إليهم تحريم الاستغاثة بالأموات (!)، أنّ دار الإفتاء المصريّة، كانت قد أصدرت فتاوى سابقة تحرّم الاستغاثة بالأموات، منها الفتوى التي أصدرها الشيخ حسن مأمون -رحمه الله- مفتي مصر الأسبق، سنة 1957م، ووصف فيها التوسل بالأضرحة والموتى بأنّه أحد مزالق الشّرك بالله، وأنّه من رواسب الجاهلية، وأنّ الحجّة التي ساقها المشركون الذين خالفوا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حينما برّروا عكوفهم على الأصنام التي ترمز للصّالحين بقولهم: “مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى”، هي نفس الحجة التي يسوقها اليوم الداعون إلى التوسل بالأولياء لقضاء حاجة عند الله أو التقرب منه.

لم تكن فتوى الاستغاثة هذه هي الفتوى الوحيدة التي نكصت فيها الدّار المشار إليها عن عقبيها، وبدّلت فيها وغيّرت، فقد سبق لها أن أصدرت قبل ذلك فتاوى تخالف فيها المعلوم من الدّين بالضّرورة، وتنقض الإجماع الحاصل في أكثر من مسألة، من ذلك إباحتها فوائد البنوك الربوية، إذعانا لقرارات سياسية معروفة!

هذه الفتاوى النّاكصة، سيكثر تواردها في الأيام والسّنوات القادمة، وهي وإن كانت ستلقى الاستهجان في الوسط الإسلاميّ العامّ، في البداية، إلا أنّها مع الوقت ستصبح ذريعة لكثير من المسلمين الذين ما عاد يربطهم بدينهم سوى خيط رفيع، وربّما تصبح الفتاوى التي تتشبّث بنصوص الشّرع وإجماعات العلماء فتاوى متطرّفة في منظور الإعلام، يُجلب عليها بخيله ورجله، بأوامر فوقية رسمية، ويحارب من يتشبّثون بها، ويكيل لهم التّهم، ويلصق بهم الأوصاف المنفّرة! وقد ورد في بعض الأحاديث الضّعيفة أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: “كيف أنتم إذا طغى نساؤكم وفسق شبابكم وتركتم جهادكم؟” قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟ قال: “نعم، والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون!” قالوا: وما أشد منه يا رسول الله؟ قال: “كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر؟!”، قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: “نعم، والذي نفسي بيده، وأشد منه سيكون” قالوا: وما أشد منه؟ قال: “كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا؟!” قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال:” نعم، والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون”، قالوا: وما أشد منه؟ قال: “كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟!” قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟! قال: “نعم، والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون؛ يقول الله تعالى: بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران”!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!