-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فرنسا والأقدام السوداء.. إذا لم تستح فأطلب ما شئت!

فرنسا والأقدام السوداء.. إذا لم تستح فأطلب ما شئت!

لا تزال فرنسا تمنّي النفس بالتسلية عن هزيمتها النكراء في الجزائر بالحصول على تعويضات عن ما تعتبره كذبا وزورا بـ”الأملاك العقارية” للأقدام السوداء الفارّين من أرض الشهداء صيف 1962، وهي لعمرك من منتهى الوقاحة والصلافة التي تطبع وجوه الفرنسيين.

وآخر ما طالعتنا به باريس هو إعلان وزارتها للخارجية، في رد لها على مساءلة كتابية بالجمعية الوطنية (البرلمان)، مؤرخة في 29 أوت 2023، أنها “تتابع باهتمام بالغ موضوع الممتلكات العقارية للفرنسيين في الجزائر، بهدف التوصل إلى تسوية نهائية لهذا الملف”.

في الحقيقة أنّ الاستعمار الفرنسي للجزائر كان استيطانيّا بالأساس، ومكمن خطورته الرئيسية تمثّل في سعيه الماكر بكل الوسائل للقضاء على كيان الأمة الجزائرية، لإدماجها دينيا ولغويا وثقافيا في الأمة الفرنسية حتى يسهل عليهم لاحقا تطويعُ كل مقدراتها الماديّة، بقتل روح المقاومة لدى الإنسان المدجّن، وهي السياسة الجهنمية التي لا نزال نعاني آثارها إلى اليوم، حتى وإن فشل الاستدمار في تحقيقها كاملة، ما جعل بلادنا تتخلف عن ركب الإنسانية بقرون، وكل ما يمكن أن تقدمه لها فرنسا اليوم لن يكافئ ما خسرته في ميزان التاريخ.

غير أننا سنضطر مؤقتا لمجاراة السّفه الفرنسي، لنقول للفرنسيين تعالوا نعوّض بعضنا بعضا، ولنبدأ بإحصاء جرائم الاستعمار التي تنكرونها منذ وطئت أقدام أجدادكم النجسة أرضنا عام 1830، ونوثق كل ما نهبتموه من كنوز ومجوهرات وأموال ومعادن وخيرات طبيعية تقدر حاليا بآلاف الملايير من اليوروات، عليكم أن تدفعوها الآن صاغرين.

لكن قبل ذلك، من يعوضّ ذوي الضحايا الجزائريين عن سقوط 6 ملايين شهيد، أبادتهم فرنسا الإرهابية على مدار 132 سنة من البطش والقتل بدم بارد؟

من يعوّض ملايين الأرامل والأيتام الذين حُرموا الأزواج والأبوّة والأمومة بفعل القتل الوحشي؟ من يعوّض العزل الأبرياء من شهداء 8 ماي 1945 و20 أوت 1955 و17 أكتوبر 1961 و11 ديسمبر 1960 وشهداء الكهوف والغيران والجرائم النووية الذين أحرقتهم الهمجية الفرنسية مثل الفئران؟

من يعوّض عائلات وأقارب وجيران قادة المقاومة الشرفاء وجنودها عن ممارسات التنكيل والانتقام التي فاقت كل الخيال الحربي لجيوش الغزو عبر التاريخ؟

من يعوّض الجزائريين الذين قطعت فرنسا أوصالهم العائلية والوطنية، وجرّدتهم من أملاكهم الشاسعة، ونفتهم إلى أصقاع العالم، بجريرة الثورات الشعبية ضد عدوانها الغاصب، ولا يزال أحفادهم إلى اليوم يعيشون الشتات؟

من يعوّض الجزائريين الذين حرمتهم القوانين الفرنسية التجهيلية الشيطانية من التعليم القاعدي البسيط، حتى أن الاحتلال حين دخل البلاد لم يكد يجد فيها أميّا واحدًا، لكنه يوم خرج منها منكسرا تركها تغرق في أوحال الأميّة التي تجاوزت 90 بالمائة من عموم السكان؟

من يعوّض الجزائريين عن هدم البيوت وتخريب الممتلكات وحرق الغابات وقطع الطرقات وكسر مجاري المياه وغلق المساجد، بل تحويلها إلى كنائس واسطبلات؟

من يعوّض الجزائريين عن نبش القبور وسرقة عظام الأموات وتحويلها إلى مصانع مرسيليا لإنتاج الصابون، من دون أدنى شعور للقلوب الفرنسية الحيوانية بالخجل الإنساني؟

من يعوّض الجزائريين عن عقود كالحة من المجاعات والعراء والجهل والأمية والأوبئة الفتاكة والضيم السافر وأبشع صور المعاناة الآدمية؟

باختصار: من يعوّض الجزائريين عن توقف عجلة الحياة في مسارهم الإنساني والحضاري لأزيد من قرن وثلث قرن، بل تلغيم مستقبلهم بقنابل موقوتة غرسها الاستدمار الخبيث بعناية؟

عندما يعترف الفرنسيون بتلك الجرائم التي تُدمي جراحها الغائرة أعماق ذاكرتنا الوطنية، ويقدّمون الاعتذار الصريح عنها، ثم التعويض المكافئ ماديّا، سنجيبهم بوضوح أن “الأقدام السوداء” ليسوا سوى جزء من الاحتلال وإحدى أدواته الباطشة (باستثناء قلة قليلة عاشوا وتعايشوا مع السكان).

إن هؤلاء المخربين، وليسوا معمرين، لم يكونوا في الواقع إلا سجناء من ذوي السوابق القضائية ومشردين من شذاذ الآفاق، جاء بهم جيش الاحتلال إلى الجزائر عراة حفاة، لإسناد المهمة الاستيطانية والمساعدة على تنفيذها، قبل أن يغتصب أراضي السكان الأصليين ويسلمها لهؤلاء الغرباء.

وليتهم اكتفوا بالسطو على ملك الجزائريين الموهوب لهم، بل إنهم وقفوا لاحقا بكل شراسة ضد الثورة التحريرية، ومن صلبهم نشأت المنظمة السرية الإرهابية لترتكب أبشع الجرائم خلال الأشهر الأخيرة من عام 1962، ما اضطرّهم للفرار بجلودهم حين دقت ساعة النصر المبين، تاركين وراءهم ما سرقوه وشيدوه بثروات الجزائر وعرق أبنائها المضطهدين آنذاك، فأيّ أملاك وعقارات يتحدث عنها ساسة باريس اليوم طمعًا في التعويض؟

إن ما تثيره السلطات الفرنسية لا صلة له بالواقع التاريخي على الإطلاق، لكنها تتعمَّد المناورة المكشوفة به، للابتزاز في ملف الذاكرة المطموس، عشيَّة كل استحقاق تفاوضي، للهروب من المطالب الجزائرية السياديّة.

إذا كانت مبادرات باريس التكريمية المتوالية لقدامى “الحركى” استفزازا صارخًا لمشاعر الجزائريين، فإنها في النهاية شأنٌ فرنسيّ خالص بالنسبة للوطنيين، ولا تعنينا في شيء، أما قصة الأقدام السوداء المفتعلة فستبقى وإلى الأبد من أحلام السراب التي لن يبلغها الفرنسيون حتى يلج الجمل في سمّ الخياط.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!