-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“فقهُ الفقه”

التهامي مجوري
  • 704
  • 0
“فقهُ الفقه”

فقهُ الفقه، عبارة استعرتها من علّامة الجزائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، ويقصد بها مستوى عال في الفهم والإدراك لأمورالحياة في علاقة الدنيا بالآخرة وعلاقة الدين بالدنيا، وذلك في قوله: “إن في الفقه فقهًا لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهو لُباب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه؛ وهو الذي ورثه عنه أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين؛ وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به؛ وهو الذي يجلب لهم عز الدنيا والآخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذ الأمّة فتحيا به، ونصحّح به عقائدها، ونقوّم به فهومها، فتصحّ عباداتها وأعمالها، فإن العبادات هي أثر العقائد، كما أن الأعمال هي أثر الإرادات، وما يُبنى منها على الصحيح يكون صحيحًا، وما يُبنى على الفاسد فهو فاسد… إن الإسلام إنما شرّع العبادات لتكون شواهدَ وبيّنات على العقائد الإيمانية، ثم جعل المسجد بيته ليكون مظهرًا لتلك الشهادة، فكل ما يقع فيه من صلاة واجتماع لها، ومجالس مدارسة وخطب، فهو إعلان لتلك الشهادة، وكل ما يتصل به من محراب ومنبر ومئذنة وإمام فهو مؤدّ لتلك الشهادة، فيجب أن تتظاهر هذه الأشياء كلها على الحق، وأن يكون بناؤها على أساس الحق، حتى تكون شهادتها حقًّا على عقائد الحق. وإن كل ما يؤدّيه المسجد -في حكمته الإسلامية- هو إقامةٌ لدولة القرآن، وتشييد لمدرسة القرآن، ورفع لمنارة القرآن” [أثار محمد البشير الإبراهيمي].

يُروى عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه كان مع جماعة من تلاميذه بضواحي دمشق، وشاهدوا مجموعة رجال من التتار سكارى، فأرادوا النيل منهم بسبب السُّكْر، فقال لهم: “اتركوهم.. إن الله نهي عن الخمر لأنها تصرف الناس عن الطاعات، وهؤلاء يصرفهم سكرُهم عن قتل الناس”، وعلى ذلك سارت الأمة وقياداتُها العلمية، حتى إنهم وازنوا بين حقوق الله وحقوق العباد عند التعارض، فرجّحوا أداء حقوق العباد على أداء حق الله.

ومدار فقه الفقه هذا على إقامة العبادة، وتحقيق المصلحة واستبعاد المفسدة في جميع المجالات… وقد وضع سلف هذه الأمة لذلك ضوابط في غاية الدقة والإنصاف مراعاة لكرامة الإنسان وضمان الحقوق والواجبات التي على عاتق الأفراد.

ومن العلوم التي انشئت لذاك، علم الفقه نفسه الذي هو “العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية”، فالأحكام الشرعية العملية، وهي الأحكام المعروفة بالإيجاب والاستحباب والحرمة والكراهية والإباحة، وما يرتبط بها مما ينبني عليها من شروط وموانع وأسباب وغير ذلك، أما الأدلة التفصيلية فهي النصوص المتعلقة بكل فعل على حدة، (أقيموا الصلاة) دلّ على الأمر بها، (وافعلوا الخير)، دل على الأمر به، (لا تقربوا الزنا) دلّ على النهي عنه… وهكذا في جميع النصوص وعلاقتها بالأعمال المطلوبة والمنهي عنها، ولوضع ضوابط لذلك في هذه الأمور، وُضع علم يُسمَّى علم أصول الفقه، الذي وُضع لمعرفة دلالة هذا الأمر وذاك النهي وغيره من الترغيبات والترهيبات الواردة في نصوص الوحي، فالأمر يفيد الوجوب والنهي يفيد التحريم، والأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، وهل الأمر للفور أم للتراخي؟ وهل يفيد المرة أو يفيد التكرار؟ ولذلك تفاصيل كثيرة موجودة في كتب الأصول لمن يريد التوسُّع، ثم كان علم المقاصد الذي ينظر في مقاصد نصوص الشرع الكلية ولا يكتفي بالنظر في دلالات الألفاظ وحسب، وإنما يغوص في الغاية من الأمر والنهي، باستقراء النصوص واستخراج المراد الإلهي من مجموع نصوص الوحي، كما كان علم القواعد الفقهية جانبا من جوانب التعمُّق في نصوص الوحي تلمُّسا لمراد الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعلى الرغم من هذا الحرص الشديد في البحث عن مراد الله في تتبع النصوص ومقاصدها، فإن تفاعل الناس مع هذه المفاهيم الأولية في التعامل مع نصوص الوحي، يوحي بأن الفقه بهذا المعنى، خاص بالأمور التعبدية، إذ لا يراعى فيه إلا فكرة الحق الإلهي في ذلك، خوفا من الوقوع في الحرام الذي يعاقَب عليه المرء يوم القيامة، وليس الحرام الذي يتأذى منه البشر، فَعُطِّلت الكثير من المعاني التي تخرج عن هذا المسار، ومن ثم ربما استساغوا إقامة عبادة مقابل تفويت مصلحة دنيوية، أو التمسك بشعيرة تعبدية، على حساب معاملة لتحقيق حقوق إنسانية؛ بل ربما فُهم الفقه وحُصر في معان قاصرة على مفاهيم تعبدية، من دون العلاقات الإنسانية، فبدت تلك العلاقات وكأنها لا علاقة لها بحقيقة الفقه. وربما ذهب البعض الآخر فأعطى للقضايا الدنيوية أكثر من حقها فكانت على حساب العبادة التي هي مطلبٌ شرعي وإن كانت ذات خصوصية فردية.

والفقه ليس بهذا المستوى من القصور، من حيث هو عبادة ومعاملة وليس عبادة وحسب ولا معاملة فحسب، لأن العبادة في أبعادها الكلية تشمل كل معنى مطلوب لذاته ولما يحقق من مصالح من غير اعتبار لأمر آخر، بما في ذلك المصالح الشخصية التي ينبغي أن لا تكون على حساب مصلحة الجماعة، مثل الصلاة والصيام والدعاء والأذكار… إلخ، فهذه الأعمال كلها ذات طابع تعبُّدي، والفقه فيها يعني تتبع النصوص الواردة في ذلك وتطبيقها، أما المعاملة فشرِّعت من أجل تحقيق مصلحة معتبرة لها علاقة مباشرة بمسألة عمارة الأرض التي كُلِّف بها الإنسان، ومن ثمَّ فإن مجرد النظر في النصوص يتجاوز الاقتصار على مدلول ظاهر النص ذي البعد التعبدي ابتداء (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص 77]؛ بل إن العبادات التي شرّعها الله لها وظائف اجتماعية كثيرة، فشعيرة الصلاة على سبيل المثال تنهى عن الفحشاء والمنكر (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت 45].

ومَهمَّةُ الفقه هي النظر في تطبيق النص لتحقيق المصلحة المقصودة، وليس مجرد مراعاة البعد التعبدي على أهميته، فإذا كان المعنى لا يحقق المصلحة، فليس ذلك من الفقه، وهنا يدخل واقع الناس مصالح ومفاسد، كطرف في فهم النصوص الواردة في تحقيق المصالح ودرء المفاسد، يُروى عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه كان مع جماعة من تلاميذه بضواحي دمشق، وشاهدوا مجموعة رجال من التتار سكارى، فأرادوا النيل منهم بسبب السُّكْر، فقال لهم: “اتركوهم.. إن الله نهي عن الخمر لأنها تصرف الناس عن الطاعات، وهؤلاء يصرفهم سكرُهم عن قتل الناس”، وعلى ذلك سارت الأمة وقياداتُها العلمية، حتى إنهم وازنوا بين حقوق الله وحقوق العباد عند التعارض، فرجّحوا أداء حقوق العباد على أداء حق الله، ووضعوا قاعدة فقهية لذلك فقالوا [حقوق الله مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة].

ثم يأتي أمرٌ آخر وهو الاستشراف، إذ تشمل أحكام الفقه الأمور المتوقعة انطلاقا من النص والتعليل والواقع الذي نعيش، إذ يقرّر الحكم وفقا للمتوقع وليس لما هو واقع فحسب، مثل مبدأ الاحتياط المعروف في الكثير من القواعد الأصولية والفقهية.

لا شك أن عبادة الله هي الأصل الذي خُلق لأجله البشر (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) [الذاريات 56-57]، ولكن مفهوم العبادة في الإسلام له مدلولٌ أوسع وأشمل من مفهومه في الشرائع الأخرى إذ أخذ معنى الخلافة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ) [البقرة 30]، أي  لإقامة ما يريد الله من صلاح في دنيا الناس وعمارة في الأرض (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود 61]، أي جعلكم عمّارا لها، بما أمدكم من قوة وقدرة وإرادة وسخر لكم ما في السماوات والأرض حميعا منه، ومكّنكم من كل ما يحيط بكم من أدوات وآليات، تعينكم على تحقيق المراد منكم.

فقهُ الفقهِ إذن ليس مستوى معينا جامدا على معنى واحد محنَّط، وإنما هو فهمٌ متحرك وفق مراد الله ومصلحة الإنسان، باستثناء الأمور التعبدية المحضة التي شُرِّعت وكيفية إقامتها بنصوص الوحي غير القابلة للتأويل؛ بل إن ما يحيط بهذه العبادات من واقع بشري متقلِّب، يكون متغيِّرا وفق ما يحقِّق تلك العبادات المطلوبة لذاتها ابتداء.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!