-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فقه الفقه

فقه الفقه

قال الإمام الفقيه محمّد البشير الإبراهيمي، رضي الله عنه وأرضاه: “إن في الفقه فقها لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهو لباب الدين وروح القرآن، وعصارة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه، وهو الذي ورثه عنه أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين، وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به، وهو الذي يجلب لهم عزّ الدنيا والآخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذه الأمة فتحيا به…(1)”.

لقد جاء هذا الكلام الذي عليه نور الإسلام وفيه روح خير الأنام عليه الصلاة والسلام في مقال للإمام تحت عنوان “كلمتنا عن الأئمة”، وقد ذكرني به ما كتبه الدكتور محمّد الدراجي في جريدة البصائر (ع 608، بتاريخ 15 جويلية 2012) تحت عنوان لافت للأنظار هو “يا لضَيعة الفقه”، علّق فيه على بعض “الفقهاء” الذين يحبون أن يكونوا شيئا مذكورا واسما مشهورا بخروجهم عى الناس بفتاوى غريبة، وآراء شاذة نشأت في ظروف خاصة، كإرضاع الكبير، وما أستحي من ذكره.. وكالفتوى التي أشار إليها الدكتور في كلمته وهي “فتوى ملك اليمين”.

لقد ذكّرتني كلمة الأخ الدراجي أولئك “الفقهاء” الذين يعرفون الفقه أحكاما لا حكما، فلا يضيفون للفقه الإسلامي مثقال ذرة من اجتهاد، الذي يؤجر عليه ولو كان خطأ.

من هؤلاء “الفقهاء” الذين لم يفقهوا “لباب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنّة محمد صلى الله عليه وسلم” أولئك الذين أفتوا في القرن السابع عشر بتحريم إدخال المطبعة إلى العالم الإسلامي، فلما أجبرتهم الحاجة إليها أباحوا إدخالها، مشترطين لذلك شرطا عجيبا هو أن لا يطبع فيها القرآن الكريم، فنزل هذا الشرط بردا وسلاما على صدور أعداء الإسلام وخصومه، وافترصوا فرصة هذا التحريم فأغرقوا المكتبات بالكتب الداعية إلى اللائكية والإلحاد…

إن الباعث على هذا الشرط في رأيهم هو الحفاظ على القرآن الكريم، ولكن الأولى من ذلك هو الإذن بطبع القرآن الكريم مع الحرص الشديد في المراقبة والتصحيح.. ولنتأمل ما قدّمته المطبعة من فوائد عظيمة في نشر القرآن الكريم، وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ورائع قرائح علماء الإسلام في أزهى العصور.

وفي الثلث الأول من القرن التاسع عشر أرادت الدولة العثمانية تحديث نظم الجيش مستفيدة من تنظيمات الجيوش الأوروبية الحديثة فتصدى لها “الفقهاء” الجامدون، واعتبروا ذلك “تقليدا للكفار وتشبّها بهم”.. وكان الإمام محمد بن محمود ابن العنّابي (ت 1851) () ممن فقهوا الإسلام حق الفقه فأجاز ذلك التحديث والتنظيم ضمن مبادىء الإسلام، وبسط القول في ذلك في كتاب قيم سماه “السعي المحمود في نظام الجنود”، وقد حققه الدكتور محمد ابن عبد الكريم – شفاه الله – ونشرفي الجزائر في سنة 1983.

ومنذ عدة سنوات أصدر أحد هؤلاء الفقهاء رسالة سماها “الدستور الإسلامي” قال فيه: تدخل الفتاة المدرسة في سن الخامسة وتغادرها في سن العاشرة دون أن تمتحن أو تعطى شهادة.. وقد يكون هذا الفقيه إن استفتي لمن تؤخذ المرأة إن مرضت ممن يفتي بأخذها إلى طبيبة مسلمة، فإن لم تكن فطبيبة غير مسلمة، فإن لم تكن فطبيب مسلم، فإن لم يكن فطبيب غير مسلم، فالضرورة تبيح المحظورة.. والمفارقة هي أنّى تكون طبيبة مسلمة وقد منعت البنت المسلمة من التعلم بعد سن العاشرة؟ بل ومن قبلها حيث كتب “عالم” كتابا سماه “الإصابة في منع النساء من تعلم الكتابة”.

ومنذ عدة أشهر رأينا على شاشات الفضائيات بعض الإخوة الموريتانيين من ذوي البشرة السوداء يحرقون مجموعة من كتب الفقه احتجاجا على اعتراض بعض “الفقهاء” على إصدار الحكومة الموريتانية قانون “منع الرّق”…

إن كل من له إلمام ولو بسيط بالإسلام يعلم أنه لم يفرض الرّق، وأنه شرع كلّ ما من شأنه أن يجفف منابع الرّق، وجعل مصرفا من مصارف الزكاة – وهي من أركان الإسلام – لتحرير الرقيق، وقصر الرّق الحقيقي على من يقع من الأعداء في أسر المسلمين. و نهى الرسول – عليه الصلاة والسلام- أن يقول المسلم “عبدي وأمتي” وأمره أن يقول “فتاي وفتاتي”.. فكيف يأتي “فقيه” الآن ويمنع تحرير الأرقاء، ويفرض استرقاق الناس الذين كرمهم الله – عز وجل – وجعلهم سواسية، لأنهم جميعا من آدم، وآدم من تراب؟ ولهذا اعتبر الإمام الفقيه محمد الطاهر ابن عاشور “الحرية” أحد مقاصد الإسلام وكلياته..

إن الذي جعل لصوص القلوب من الضالين المضلين ينجحون في تنصير كثير من أبناء جنوب السودان هو تقصير المسلمين في تبليغ دعوة الإسلام إلى أولئك الناس، والاستنكاف عن اعتبارهم بشرا مكرمين وهاهو السودان كله يدفع ثمن ذلك، فقد نجحت قوى الاستكبار العالمي – بسبب سلوكنا غير الإسلامي – في فصل جنوب السودان، وجعل ذلك الجنوب شوكة في جسم الدولة السودانية، التي هي الآن مع مصر مهددتان بقطع الماء عليهما من طرف جنوب السودان بإقامة عدد كبير من السدود على نهر النيل.. وقد يقع انفصال آخر – لا قدر الله – في غرب السودان حيث يدور صراع مهلك للزرع والضرع، ومنشئ للغل والحقد بين “مسلمين عرب” و”مسلمين أفارقة”.

إن الشيطان – الإنسي قد يستغل ما وقع في موريتانيا فيفتن هؤلاء المسلمين “الزنوج” عن دينهم ويعدهم ويمنّيهم بأن كرامتهم في المسيحية، فيرتدون – لاقدر الله – عن الإسلام، ويصيرون “علة” في الجسم الموريتاني وفي منطقتنا المغاربية، ويبوء بإثم أولئك – إن ارتدوا – هؤلاء “الفقهاء” الذين لم يفقهوا دين الله، ولم يفقهوا روح العصر، وكانوا حملا ثقيلا على الإسلام، بدلا من أن يكون محمولا في عقولهم وعلى كواهلهم. وصدق الإمام محمد عبده الذي قال: “إن الإسلام محجوب بالمسلمين”، ولو كان بعضهم “فقهاء”.

.

هوامش:

1) آثار الإمام الإبراهيمي. ج 3 ص 191.

) عن ابن العنابي، أنظر: “رائد التجديد الإسلامي محمد ابن العنابي” للدكترو أبي القاسم سعد الله. وابن العنابي هو أول عالم جزائري نفته فرنسا من الجزائر في سنة 1831، بعدما سجنته، وقد توفاه الله في مدينة الاسكندرية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
22
  • H M

    ياأستاد هذا هو مشكل المسلمين اليوم ..... بإختصار أنت وضعت أصبعك على الجرح وشخصت واقع المسلمين . ... شكرا لك ولأمثالك

  • احمد دحماني

    شكرا يا استاذ دمت ودامت كلماتك في قلوبنا

  • احمد دحماني

    شكرا يا استاذ دمت ودامت كلماتك في قلوبنا

  • mouloud

    السلام عليكم : يقول الشيخ الغزالي رحمه الله في كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه و أهل الحديث"
    (قد نجح بعض الفتيان في قلب شجرة التعاليم الإسلامية فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعها أو جذورا، وجعلوا الأصول المهمة أوراقا تتساقط مع الرياح!.
    وشرف الإسلام أنه يبني النفس على قاعدة «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» وأنه يربط الاستخلاف في الأرض بمبدأ «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر».)
    بارك الله في شيخنا الهادي الحسني على هذا المقال.

  • أحمد الجزائر 47

    بارك الله فيك شيخنا الفاضل، و نفع الله الأمة الإسلامية بأمثالك .

  • فاتح

    شكر الله لك استاذنا الغاضل,واحسن اليك.....ارى ان الازمة عندنا ازمة فهم,ولم نعرف الاسلام على حقيقته,بل لم ندرك بعد مقاصده ومراميه,وان فهمناها,لم نحسن تطبيقها.......الى متى؟؟؟؟؟؟؟

  • بوبكر بن الحاج علي

    في الوقت الذي يتطلب منّا الأمر دعوة الغرب بما سخر الله من الإعجاز العلمي، هناك يركز على زكاة الفطر عينا و دون حتى تبيان الرأي المخالف، و كذا الجمع بين صلاة المغرب و العشاء لقطرات خفيفة من المطر في أعز أحياء المدن الكبرى.
    فروح الفقه لم يشمها هؤلاء حتى من بعيد

  • م.حمدي

    العفو اخي صاحب التعقيب رقم 13 احمد من الجزائر العاصمة ولا شكر على خدمة الوطن والخادم من الرجال سيدهم .

  • احمد

    شكرا جزيلا

  • مذكور حمدي

    سي الهادي عليك مني السلام والتحية والاكرام فمن ذكريات الاكادمية العسكرية لمختلف الاسلحة بشرشال عام 1972 ايام كنا طلبة ضباط احتياط نتدرب تدريبا عسكريا رائعا بعد ان انهينا دراستنا الجامعية والتحقنا بهذه الاخيرة واخترت انت للتدريس بالاكادمية وعينا نحن ببقية الوحدات العسكرية المتواجدة عبر الوطن فالتحقت انا بالفيلق 11 بسكيكدة كمدير للتدريب وبعد الانتهاء من الخدمة الوطنية عدنا للحياة المدنية انت استاذ بالجامعة وانا مستشار قانوني بسونلغاز وها نحن اليوم متقاعدين عن العمل بعد 35 سنة خدمة لهذا الوطن .

  • الأستاذ الطيب

    تقبل الله منا ومنك أستاذنا الفاضل إنه ليصدق فيك قول الشيخ البشير رحمة الله عليه عند تأبينه لأخيه الشيخ بن باديس رحمة الله عليه :لا تخشى ضيعة ما تركت لنا فالوارثون لما تركت كثير............ نحسبك من هؤلاء إن شاء الله ولا نزكي على الله أحدا.

  • حنصالي بن تاشفين

    كبيرا دائما يا شيخ.. هناك مقولة شهيرة للشيخ الابراهيمى لست متاكد ان كانت صحيحة
    كان الشيخ فى باب السوق واتاه شخص يساله عن المكان المخصص للشياه
    فرد عليه الشيخ منهنا او روح كلشى شياه

    موضوع رائع لاكن بعيدين جدا لقد استطاع العدو من قلب دفة الصراع ومن المفروض ان نصارع الافكار والسلوكات فجعلنا من بعضنا نصارع الافراد والدولة

    وهكذا ينشئ صراع متجدد ضنا منا انه الصواب وهو ليس كذالك

    ياتينا رجالا يعرفون ابجديات الصراع لاكن يا خسارة يضربون الريح بالدفة وكل الخلائق ضدهم حتى ضنوا انهم هم العدو.

  • نونو الجزائري

    أظن أن كلمة فقيه كلمة يحلم بها كل عالم أن يصلها لأنها درجة أعلى من العلم ، و هي شدة الذكاء و تحتاج إلى نباغة و تمحيص و شدة الفهم و التفكير الملي الطويل... إذن تحتاج إلى جهد حتى تصل فقيهاً ، في زماننا التعس لا أظن أن هناك فقيهاً بقدر ما يوجد عندنا علماء بالمعنى الأكاديمي الروتني المحض كما يقول المثل عن طلاب الجامعات في الدول الإسلامية : أنتظر دالت و أصبر أربعة سنوات و تتحصل على شهادتك يا عم ! منذ بضعة شهور ردت جامعة الأزهر مجموعة من الأئمة الجزائريين لسبب ضعف مستواهم ! و العجيب أن مستوى الأزهر ي

  • العين تشوف والقلب يت

    الفتوى في هذه الأزمنة ، ككل شأن ، دخل فيه من ليس بأهله.
    و وسائل الإعلام خاصة الفضائيات ساهمت في نشر في هذا النوع المتردي من الفتاوي.

  • محممد

    من قال لكم أن محمد البشير كان فقيها ؟

  • فارس

    بارك الله في عالمنا، أريد أن تكتب عن الاخلاق السيئة المنتشرة في بلادنا و سبل الخلاص منها.

  • م . حمدي .

    السلام عليك ياسي محمد الهادي الحسني وطابت اوقاتك وها انت تتحفنا دائما بمقال رائع كل يوم خميس ومما جادت به قريحتك اليوم :(فقه الفقه) والذي اصبت كثيرا في انتقائه وتقديمه غذاء للعقول وللقلوب . ويقول العلامة المرحوم الشيخ مصباح في هذا المضمار :(غقول الرجال صناديق مقفلة ومفاتحها التجارب ) ويقول قائل آخر : وقل لمن يدعي في العلم فلسفة عرفت شيئا وغابت عنك اشياء . ولا مجال لشبه المقارنة بين البشير الابراهيمي رحمه الله وبعض اشباه الفقهاء الذي يفتون فتاوي لايصح ان نطلق عليها اسم فتوى

  • البشير بوكثير

    للأسف أستاذنا الفاضل لايوجد أحد يسيء للإسلام مثلما يسيء أشباه المسلمين والمتفيهقين له .
    نسأل الله تعالى العفو والعافية.
    طالعوا مقالي في قوقل( علامات ترقيم في فهمنا السقيم).

  • أحمد الصحراوي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بارك الله فيك شيخنا الفاضل وجزاك الله جوار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الجنان.
    أتمنى أن أجمع كل مقالاتك النيرة و أضعها بين دفتي كتاب و أسميه "آثار الأستاذ محمد الهادي الحسني" على شاكلة آثار الشيخان الإمام إبن باديس و الإمام البشير الإبراهيمي رحمهما الله...نمتنى لك التوفيق والسداد في تنوير الأمة بفقهك للفقه و تبصيرها بوحدتها الإسلامية المهددة بتصرفات بعض المسلمين و مكائد أهل الكفر و الطغيان.

  • سليم

    اللهم اهدي علماء المسلمين و عوامهم و إجمعنا على كلمة الحق و نبذ الإختلاف. كلام رائع أستاذنا الحسني جزاك الله خيرا

  • saad

    تحية للاستاذ الحسني وبعد ان ما تعانيه الامة الاسلامية الان وخاصة في مجال الافتاء في الدين الاسلامي الذي هو دين البشرية جمعاء هو عملية تسييس الدين بما يخدم الحكام لذلك نري ان الحاكم العربي يكلف ايمة ماجورين ومتزلفين للافتاء بما يخدم سيدهم وخير مثال علي ذلك حكام السعودية و نوع السلفية التي ينادون بها صباح مساء والتي اصبح بموجبها بعض ابناء الجزائر يمنعون البنت من الدراسة والابن يهجر الجامعة بدعوي الاختلاط وهلم جر

  • نورالدين

    بارك الله فيك يا استاذ