-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فك الارتباط بالغرب

أحمد بن يغزر
  • 895
  • 1
فك الارتباط بالغرب

مرة أخرى، ككل مرة منذ عقود، يُثبت الغرب بأنظمته السياسية وأدواته الإعلامية والكثير من نخبه، أن كل ما يقوله عن حقوق الإنسان والتحضر والديموقراطية وغيرها، يتعطل بشكل كامل عندما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني، بل إنه مستعد أن يغمض عينيه تماما عن كل التوحش والتجاوز لكل الأعراف الأخلاقية، وما يسمّيه “القواعد” و”القوانين الدولية”… ما دام من يقوم بذلك هو” إسرائيل”، بحجة “حقها في الدفاع عن النفس”، وفي سبيل ذلك من حقها أن تفعل ما تشاء بدون أيِّ قيود، أما الآخرون فلا حق لهم في الدفاع عن أنفسهم، وإن فعلوا ذلك فهم “إرهابيون متطرفون”، بل “حيوانات بشرية” يجب سحقهم.

هل هذا غريب؟
ليس في هذا أيُّ غرابة لمن يعرف تاريخ الغرب، الغرابة هي في وجود من ما زال يصدق هذا الغرب، أو يحاول أن يلوم الغرب بحسن نية على مواقفه، ربما يكون ما يحدث اليوم في غزة فرصة لبعض النخب المتماهية مع ثقافة الغرب ومفاهيمه، والمنخدعة بفلسفته وقوانينه، لمراجعة مواقفهم، والتفكير العميق في جدوى الاستمرار في سردياتهم.
وقبل الحديث عن المقصود بفك الارتباط بالغرب، لابد من توضيح ثلاثة نقاط منهجية:
– من الخطأ التعامل مع الغرب كما لو أنه شيءٌ واحد، ولا كتلة بشرية متجانسة ومتطابقة، فتحتَ هذا العنوان الكبير تنداح شعوبٌ متنوعة لغة وعرقا وثقافة وتاريخا وحتى دينا أحيانا، وفي جغرافيته الممتدة تنتصب كياناتٌ سياسية تختلف في طبيعتها وفي أشكالها، وفي بنيتها، والغرب بهذا المعنى الواسع ليس هو محلّ القطيعة المطلوبة، بل المقصود هو الغرب المؤسسة في تمظهراتها الفلسفية والفكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية…
– الدعوة إلى فك الارتباط لا تعني الانغلاق ولا التقوقع ولا قطع كل حبال التواصل مع هذا الغرب، ففضلا عن أن ذلك اتجاهٌ سلبي يدل على الضعف، ومجانبة لمنطق التدافع والاحتكاك الحضاري المطلوب لإخصاب الذاتية الخاصة، وتقديم إسهامها الإنساني، فهو
أيضا غير ممكن عمليا، كما أنه قد يحرمنا من الاستفادة من تجربة بشرية ثريّة قدّمت إضافة معتبرة للبشرية وما زالت في كثير من الميادين.
– لا تعني القطيعة مع الغرب الارتماء في أحضان أي كتلة حضارية أخرى منافسة، وهي السردية التي تتردد على ألسنة البعض تزامنا مع إرهاصات التحولات الجيوسياسية التي
يشهدها العالم في السنوات الأخيرة، والإشارة هنا للصين أو لروسيا تحديدا، قد تفرض الواقعية السياسية، ومنطق التدافع يفرض التواجد معها أو مع غيرها في دائرة الكلمة السواء
والتعاون على المشترك من المواقف والمصالح، لكن التماهي التام مع استراتيجياتها لن يكون إلا انتقالا من هيمنة ذات لون معين إلى هيمنة ذات لون آخر.

القاعدة التي يمكن أن تحتضن هذا التوجه يجب أن تشمل أوسع مجموعات بشرية ممكنة بغضِّ النظر عن الخلفيات والدوافع، والواقع العالمي لا يعدم هذه الرغبة والإمكانية، فالتململ من سطوة المركزية الغربية في امتدادٍ وتوسع، وتيار الجنوب العالمي هو العنوان الذي يمكن أن نضعه لهذا المسار، كما يمكن استدعاء فكرة مالك بن نبي عن محور طنجة- جاكرتا التي طرحها في منتصف القرن الماضي.

تكون القطيعة أوّلا على مستوى الوعي، بتعميق لا نموذجية الغرب، فهو ليس مثالا، وأنه كمفاهيم وقيم حاكمة، وكمنظومة أخلاقية، وكمؤسسات سياسية وإعلامية وفكرية، يقف في الجهة المقابلة والمعاكسة لمصالح الكثير من الأمم والشعوب، بل يقف حتى في مواجهة القيم المؤسسة التي يدَّعي أن كيانه يقوم عليها.
وأن الشعارات البراقة والمواقف النظرية التي يرفعها من مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والحرية تتحول في لحظات الانكشاف والامتحان إلى مجرد حبر على ورق، وأنها في أحسن الأحوال لا تعني إلا المجال الجغرافي والمكون البشري لهذا الغرب، وأن ما دون ذلك هو مجرد أدغال للتوحش واللاحضارة، وهو ما صرح به في لحظة صراحة مسؤول السياسات الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، أو هو موطن لحيوانات في صورة بشر كما صرح بذلك وزير الحرب في الكيان/ القلعة المتقدمة للغرب في فلسطين.
هذه هي الخلاصة التي كشفت عنها المواقف الغربية إزاء العمل الوحشي الذي تقوم به إلى حد الآن رأس الحربة الغربية اتجاه الشعب الفلسطيني خاصة في غزة، قد لا يكون جديدا ما تقوم به القوات الصهيونية منذ 7 أكتوبر، فتاريخها حافلٌ بالمجازر والتهجير
وانتهاك كل القيم الإنسانية، لكن إسرائيل هذه المرة تفوّقت على نفسها في الهمجية، وتفوّق معها الغرب المسانِد لها على نفسه في احتقار الآخر وفي النفاق وفي إدارة وجهه عن الحقائق الصارخة، وفي تبرير وحشية الكيان الصهيوني ودعمه.
طبعا من المهم ألا ننساق تحت ضغط الوقائع المأساوية الحاصلة في فلسطين، ولا في العواطف المفعمة التي تسكن قلوبنا في هذه الأيام، فنتّجه إلى تعميم أحكامنا على الغرب بالجملة، ولعل ما نلاحظه من فعاليات ومظاهرات شعبية عارمة مستمرّة مؤيدة للحق الفلسطيني في كبرى العواصم الغربية، والتي لم تستطع للأسف أي عاصمة عربية
مضاهاتها أو تجاوزها في أعدادها وفي قوتها وفي زخمها، لعل ذلك ينسف اندفاعنا في وضع الغرب كله في سلة واحدة والتعامل معه هذا الأساس.
ما تكشفه الوقائع اليوم أن أغلبية الشعوب الغربية نفسها هي ضحية لما تروجه العصب والجماعات والنخب التي تشكل الغرب المؤسسة عبر الوسائط الإعلامية، والهيئات المختلفة التي تعمل على قولبة وتأطير وتوجيه الرأي العام الغربي، وربما يقودنا هذا المعطى إلى القول إن الغرب الشعبي هو نفسه في حاجة لمن ينقذه من قبضة وسطوة هذه
العصب، ولعل اليقظة التي تعلنها قطاعاتٌ واسعة من النخب ومن الفئات الاجتماعية في الدول الغربية بسبب ما يحدث في غزة دليلٌ على هذا.
فك الارتباط إذن لا يتجه إلى القطيعة الكاملة والفورية، وهذا يعني أنه ليس قرارا يُنتظر من جهة ما، في وقت ما، في ميدان أو ميادين ما، لكنه نتيجة لمسار بدايته قناعة أن هذا الغرب ليس حتمية لا يمكن تصوّر حاضر أو مستقبل بدونه، وأن نموذجه ليس عالميا كما
يُتوهم، ولا يمثل نهاية التاريخ كما ادّعى أحد مُنظري أطروحات هذا الغرب.
إن فك الارتباط مع الغرب سيكسب زخما مؤثرا ووازنا إذا ما اندرج في سياق رافع يرتكز على قاعدتين هامتين:
– أن القاعدة التي يمكن أن تحتضن هذا التوجه يجب أن تشمل أوسع مجموعات بشرية ممكنة بغضِّ النظر عن الخلفيات والدوافع، والواقع العالمي لا يعدم هذه الرغبة والإمكانية، فالتململ من سطوة المركزية الغربية في امتدادٍ وتوسع، وتيار الجنوب العالمي هو العنوان الذي يمكن أن نضعه لهذا المسار، كما يمكن استدعاء فكرة مالك بن نبي عن
محور طنجة- جاكرتا التي طرحها في منتصف القرن الماضي.
– أن يكون هذا التوجه شاملا ومستداما تتبناه كل الفعاليات النخبوية والشعبية، الرسمية وغير الرسمية، وأن يتجاوز حدود فك الارتباط بالمعنى السياسي والاقتصادي والتجاري، إلى ميادين الثقافة والفكر والمعرفة بأطرها ومفاهيمها إلا ما يخدم منها إبراز التناقضات والتهاوي والتهافت الذي طالما كشفت عنه الأحداث.
يمكن لهذا التوجّه أن يجد أنصارا وداعمين حتى من داخل المنظومة الغربية نفسها، فالأصوات القلقة من سياسات الغطرسة، والتوظيف غير الأخلاقي والانتقائي لما يُسمّى
“القيم الغربية” في تصاعد، وقد فتحت تداعيات “طوفان الأقصى” أعين وأذهان الكثيرين في أوروبا وأمريكا عن حقائق ربما لم تكن بالوضوح اللازم عندهم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • نصرالدين

    تحليل معمق و واقعي لما يحدث اليوم في العالم في مجال حقيقة الهيئات الأممية و المنظمات الإنسانية و خاصة محكمة العدل الدولية الخ .. حبذا لو يتم ترجمة هذه الأفكار الى مناهج و من مناهج الى خطط يمكن تطبيقها على أرض الواقع