-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في أزمة أخلاقيات الصحافة(1/2)

محمد قيراط
  • 3440
  • 0
في أزمة أخلاقيات الصحافة(1/2)

قبل شهر كتبت في هذه الصفحة مقالا موسوما “عندما ينحرف الإعلام عن مساره”، شرحت فيه خروج المؤسسات الإعلامية عن رسالتها النبيلة والدخول في معادلة “فبركة” الواقع والخوض في الفتن والتحريض على القتل ونشر الكراهية والحقد وثقافة إقصاء الآخر.

  •   
  • شرحت في المقال أن هناك صحافيون يلبسون عباءة الصحافة ويتباهون بلقب صحافي، لكن مع الأسف الشديد المهنة بريئة منهم ولا علاقة لهم بها. فمهنة الصحافة، المهنة الشريفة النبيلة، تهدف إلى الكشف عن الحقيقة وتقديمها للرأي العام، المهنة تهدف إلى بناء الإنسان الراشد والعاقل والإيجابي والمنطقي والمفيد لنفسه ومجتمعه وليس العكس. فالصحافة ليست وسيلة لنشر الحقد والكراهية والضغينة وغيرها من الصفات السلبية التي تهدم ولا تبني، والتي تحطم ولا تؤسس. في نهاية المطاف يجب على الصحافي أن يسأل نفسه، ماذا قدم للمجتمع من وراء رسالته الإعلامية؟ هل قدم شيئا يعود بالفائدة على المجتمع أم أنه زرع الحقد والكراهية من خلال الأكاذيب والتلاسن والتطاول على الآخرين، هل قام بالتجريح والقذف والنيل من الآخرين من دون حق؟ أم أنه قدم رسالة نبيلة شريفة هادفة تقوم على الأخلاق والقيم النبيلة والخصال الحميدة وتدعو للمحبة والتآلف والتآخي.  
  •       مرّ شهر على نشر المقال وعشنا واقعا أقل ما يقال عنه أنه كشف المستور عن إفلاس مؤسسات إعلامية وصحافيين لا علاقة لهم بمهنة شريفة اسمها الصحافة. وما سمعناه وقرأناه وشاهدناه كان دجلا ووقاحة وكذبا وتضليلا في ضوء النهار وأمام مرأى ومسمع الجميع. شاهدنا حربا إلكترونية بين دولتين شقيقتين، كنت أنا شخصيا أتمنّاها تصب في إطار التنمية والتطور والممارسة الديمقراطية وتبادل العلم والمعرفة والتجارب الناجحة بدلا من الشتم والتجريح والقذف والتضليل والتشويه. هذه الحرب الإلكترونية عبر الانترنيت ووسائله المختلفة والمتمثلة في الـ»فايس بوك« و»تويتر« و»ماي سبايس« و»يوتوب«…الخ مثلت وسيلة لا مثيل لها لفبركة الرسائل والصور والفيديوهات للنّيل من الآخر وشتمه وإهانته ووصفه بكل الصفات التي تخرج عن الأخلاق والايتيكيت. الغريب في الأمر أن مهنة الصحافة في أيامنا هذه، ومنذ زمن بعيد، دخلها واغتصبها وتطفّل عليها كثيرون ممن لا علاقة لهم بها، لا علميا ولا مهنيا ولا أخلاقيا ولا ميدانيا. لم يدرسوها في الجامعة، بل إنهم في حقيقة الأمر، لم ينهوا الثانوية العامة أصلا. أناس شاءت الأقدار أن تكون لهم برامج في الفضائيات وعلى الهواء يصولون ويجولون في دهاليز الصحافة بدون رقيب ولا حسيب وبدون ضمير ولا مسؤولية ولا التزام ولا احترام ذكاء المشاهد وأخلاقه وقيمه. ما شاهدناه كان عبارة عن شتم وقذف وضغينة وحقد ودعوة للقتال والتخلص من الآخر. وهذا بطبيعة الحال يخرج عن أدبيات وأخلاقيات العمل الإعلامي الهادف والمسئول والنزيه. ما شاهدناه جسّد كيف أن الشارع هو الذي قاد الإعلام وليس العكس، فالشارع بل الحشود وجهت الإعلام في الاتجاه الخطإ؛ في الاتجاه البعيد عن الصدق والحرفية والمهنية والامتثال لأخلاقيات مهنة شريفة تعمل وتكافح وتناضل من أجل البناء والتنمية والتنشئة الاجتماعية والتوعية والحوار والنقاش والتفاهم والتآخي وليس التجريح والشتم ونشر الحقد والضغينة. ففي الوقت الذي كنا ننتظر فيه الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة تقوم بتهدئة الأجواء والدعوة إلى التبصّر والتعقل وتوجيه الشباب المراهق الطائش في الاتجاه السليم والصحيح، لاحظنا فضائيات عديدة وصحفا تتهافت على شحن الشباب المراهق بالحقد والكراهية نحو الآخر. كنا ننتظر من الفضائيات أن تكّذب الإشاعات وتكشف عن التجاوزات وتنحاز للحقيقة لا غير، حتى ولو كانت مُرّةً. مع الأسف الشديد ما شاهدناه هو »بلطجة« و»فهلوة« وتركيب صور وفيديوهات ومشاهد من أجل تأكيد الإشاعات والعمل على نشرها وتبرير الفشل والهزيمة بمبررات لا يصدقها أي عاقل. 
  •      يعتبر علم الأخلاق العلم الخامس المكون للفلسفة بعد الميتافيزيقا، والمنطق، وعلم المعرفة، وعلم الجمال. الأوساط الأكاديمية العلمية التي اهتمت بدراسة الإعلام والاتصال لم تولِ العناية اللازمة لدراسة البعد الأخلاقي للمؤسسة الإعلامية وللعملية الإعلامية في مجتمعنا العربي بصفة خاصة والعالم بصفة عامة. في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، ظهرت مواثيق الشرف وأخلاقيات الصحافة في العشرينيات من القرن الماضي، ورغم هذا فإن المشكلات الأخلاقية والتجاوزات والضغوط التي تعيشها المؤسسات الإعلامية في مختلف أنحاء العالم لا تعد ولا تحصى، والخلافات مازالت قائمة بين الناشرين والممارسين والمعلنين وأصحاب النفوذ المالي والسياسي ومختلف القطاعات في المجتمع.  
  •       تحتل وسائل الإعلام بمختلف أشكالها وأنواعها مكانة استراتيجية وحساسة في المجتمع، وينعم القائم بالاتصال بمكانة لا تقلّ أهمية عن تلك التي تتمتع بها صاحبة الجلالة، ومثله مثل الوسيلة الإعلامية، فإنه يتمتع بمزايا ونفوذ وتسهيلات قد لا تتوفر لمعظم أفراد شرائح المجتمع المختلفة. ويقال عن الوسيلة الإعلامية إنها سلاح ذو حدين، مما يعني أن كل هذه الأمور تحتاج إلى قوانين وتشريعات وتنظيم وتقنين وأسس ومبادئ وأخلاقيات تعمل في إطارها المؤسسة الإعلامية والصحافي والمجتمع. من هنا، إذاً، نرى أن الممارسة الإعلامية بدون هذه القوانين والمبادئ وبدون ميثاق شرف يحمي المؤسسة الإعلامية من الانحراف، سواء الأخلاقي أو المالي التجاري أو السياسي، ويحمي كذلك الصحافي من النزوات النفسية ومن الانحراف ومن استعمال المهنة لتحقيق أغراض شخصية أو مؤسساتية أو حزبية أو غير ذلك، تصبح الممارسة الإعلامية بدون هذه المستلزمات تحت رحمة من يشاء من أصحاب المال والجاه والنفوذ السياسي، وبهذا تصبح المؤسسة الإعلامية في خدمة حفنة من الفاعلين في المجتمع الذين يغتصبون الحقيقة والمعلومة والخبر لخدمة أغراضهم الشخصية فينشرون ما يريدون ويخفون ما يتناقض مع مصالحهم وأفكارهم. 
  •       المؤسسة الإعلامية العربية في غالب الأحيان يُشرع في إنشائها وتمويلها دون النظر في مستلزمات كثيرة يجب توفيرها وتحديدها قبل العمل الإعلامي نفسه. مؤسسات إعلامية عربية كثيرة لا تعرف من ميثاق الشرف إلا الاسم، ومؤسسات إعلامية عربية كثيرة لا تعرف من نقابة الصحافيين إلا الاسم كذلك. وكلنا يعلم أن معظم المهن في عالمنا المعاصر لها قوانينها ومواثيقها الأخلاقية ونقاباتها من أجل صيانتها وحمايتها والذود عنها وحماية من يمارسها ومراقبته حتى لا يستغل المهنة لأغراض بعيدة عن القيم والأخلاق وحتى لا يُظلم أو يُهان. 
  •       في العالم العربي تم وضع العربة قبل الثيران وتم شراء التكنولوجية دون التفكير في الرسالة وفي ما تبثه المؤسسة الإعلامية من خلال التكنولوجية. مارس العرب الإعلام وتفننوا في استعماله دون التفكير في الشروط والمستلزمات والإجراءات التنظيمية والأخلاقية للعمل الإعلامي المسئول والهادف، وهكذا وبعد عقود من الزمن وبعد فوات الأوان وبعد أن وُظفت وسائل الإعلام بطرق غير مهنية وغير احترافية وغير أخلاقية لتحقيق، سواء أهداف سياسية أو مالية أو غيرها على حساب المهنة والضمير والأخلاق والمصلحة العامة، بعد كل هذا وبعد الفوضى الإعلامية المنظمة، يتباكى الكثيرون في هذه الأيام عن ما وصل إليه الإعلام العربي وخاصة الإعلام الفضائي الذي أصبح يهدد النسيج القيمي والأخلاقي للمجتمع.
  •       ميثاق الشرف الإعلامي ضرورة حتمية لابد منها للمؤسسة الإعلامية وأداة من أدوات العمل الإعلامي الناجح. فكل مؤسسة إعلامية مطالبة بأن تحدد بكل وضوح ودقة المحرمات والمباحات، واجبات القائم بالاتصال وحقوقه. وعادة تتحدد المحاور الرئيسية لميثاق الشرف الإعلامي فيما يلي: المسؤولية، الأخلاق، الدقة والموضوعية، احترام شعور وديانات ومقدسات الآخرين، احترام الحياة الخصوصية لأفراد المجتمع، وحق الجمهور في الأخبار والمعرفة والمعلومات وأخيرا الالتزام باحترام المهنة والدفاع عنها وحمايتها من كل من يحاول المتاجرة بها أو استعمالها لأغراض غير المصلحة العامة والكشف عن الحقيقة لا غير. ما شاهدناه مؤخرا في بعض الفضائيات العربية على خلفية مباراة الجزائر ومصر كان جريمة في حق شرف مهنة اسمها الصحافة.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!