-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

.. في ذكرى الإســراء والمعـراج

خير الدين هني
  • 813
  • 0
.. في ذكرى الإســراء والمعـراج

كان الإسراء والمعراج كرامة كبرى أكرم بها الحق سبحانه نبيه، على ما أصابه من ضيم واضطهاد ومكروه من قبل المشركين، فلقد كان يثقل عليه ما كان يكابده من أئمة الشرك في مكة وغيرها من القبائل التي عرض نفسه عليها؛ فكانت هذه الأحداث الجسام تثقل كاهله، وزاده ثقلا وشعورا بالضيق وحشة فراق عمه أبي طالب وزوجه خديجة اللذين رزئ بهما في عام واحد؛ فكانت هذه المعجزة مما يسريّ عنه شدة ما أصابه من حزن وألم وصعوبة في التبليغ، ويجعله يثق في خالقه الذي وعده بالنصر المؤزر، إن  صبر على المكاره والبلاء.

وستكون ابتلاء حقيقيا للمؤمنين، تمتحن قلوبهم امتحانا عسيرا، فَيُعرف الصادق المتثبت من حقيقة ما آمن به، من المتشكك المرتاب الذي لم يتجاوز الإسلام حلقه؛ ولتكون فتنة للذين كفروا كي يزدادوا كفرا وجحودا، وهذا ما حدث؛ إذ ارتجت مكة وأشيع بين الناس أن محمدًا أخذ يُحدِّث الناس بأمور لا يصدِّقها عقل.

وقصة الإسراء والمعراج حيرت العلماء والمفسرين وكتّاب السيرة، لاختلافهم في الهيئة التي أسرى بها النبي (ص)، وفي الكيفية التي عرج بها إلى السماوات العلا؛ لأن النبي مخلوق على هيئة البشر تخضع حياته لظروف البيئة الأرضية، وأي خروج عن تلك الأجواء يقتضي التغيير في تركيبته البشرية؛ بما يتوافق مع الظروف المناخية للأجواء العليا التي اخترقها عبر عروجه إلى سدرة المنتهى؛ كان الخلاف كبيرا حول الوضعية التي عرج بها إلى السماوات العلا، وهل عرج به جسديا وروحيا أم عرج به روحيا فقط؟

والذي أجمع عليه جمهور العلماء؛ أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد، ويذهب العقلانيون إلى أنه كان بالروح فقط؛ لكونها وقعت في رؤيـا أُريَها النبي (ص)، في المنام، وبذلك لا يمكن اعتبارها معجزة خارقة.

وهذا الرأي من آثار الاستشراق، وقد تأثر به بعض  المسلمين المعاصرين؛ لأنهم وجدوا فيه ما يبرر دفاعهم عن النبي بالمناهج العقلية، والنظر في هذه المعجزة ليس يسيرا على العقل؛ لأن موضوع الإسراء والمعراج من المسائل الغيبية التي لا يستطيع العلم كشف حقائقه؛ ثمّ إن مناهج العقل التي يراد اعتمادها في البرهنة على معجزة الإسراء والمعراج؛ ليس بوسعها أن تقدم لنا البرهان على حقيقة النبوة التي تحتل قمة الأسرار الغيبية التي نؤمن بها تسليما لتجاوزها قدرات العقل وقياساته.

وإذا كانت النبوة معجزة؛ فيلزم الإيمان بكل ما يتصل بها من خوارق دون أن نُتعب أنفسنا في البحث عن البرهان، وروايات الصحابة التي وردت إلينا بالتواتر، هي مقياسنا التاريخي في إثبات هذه المعجزات؛ لأن أخبار النبي (ص)، طوال حياته قبل البعثة وبعدها؛ كلها انتقلت إلينا من طريق الرواية، وليس معقولا أن نعتمد  الرواية التاريخية في إثبات سيرته (ص)، ولا نعتبر المعجزات جزءا من سيرته.

وحياة الأنبياء والمرسلين جزء من التاريخ، وسيرهم المفصلة في هذا السجل العريض، هي عين الحقيقة التي أجمع عقلاء الناس على وقوعها، والتصديق بها؛ وحادثة الإسراء والمعراج، من ضمن الحوادث المشهورة التي وصلت إلينا من طريق القرآن الكريم والسنة النبوية،  والقرآن الكريم يعتبر قصة الإسراء من المعجزات الخارقة التي ظهرت على يد النبي الكريم، ولو كانت معجزة غير حسية؛ لما أعارها اهتماما كبيرا، ولغفل عن ذكرها، كما غفل عن ذكر المعجزات الحسية الأخرى؛ ولكن البشر ارتبطوا  بقوانين الأرض ومقاييس علومهم، مما جعلهم يجدون صعوبة في قبول وقوع هذه الحادثة؛ لأنها خرجت عن حدود معاييرهم.

من أجل ذلك، تعسَّر على قريش التصديق بحادثة الإسراء والمعراج التي حدَّثهم عنها النبي (ص)، فلقد ازداد المشركون عنادا وجحودا، وارتدَّ بعض ضعاف الإيمان من الذين أسلموا، ووقف البعض الآخر مبهوتا لأنهم اعتبروا ما حدّث به الرسول، أمرا لا يقبله عقل، مهما كانت قوةُ إيمانه؛ لأنه تجاوز حدود المعقول في ذلك الزمان، وما وقع للنبي من قطعه لمسافة شهر ركوبا على الدواب ومثلها إيابا، قطع هذه المسافة في ليلة واحدة هو خروجٌ عن المألوف، وأمرٌ لا يصدّقه العقل.

ورمى أبو بكر محدِّثَه بالكذب حين روى له قصة الإسراء؛ فلما أكد له الخبرَ آمن من غير عناء كبير، وقال: “إذا كان يحدِّث بذلك فهو صادق”، لإيمانه بما ينـزل عليه من السماء في لحظة من نهار أو ليل، لذلك لقبه النبي بالصديق، لأن فطرته السليمة جعلته يدرك بأن مسألة الإيمان بالنبوة، أشدّ تعقيدا من الإيمان بحقائق المعجزات المتصلة بها، وهذا هو الرشد في أعلى مراتبه. ومسألة الإيمان بمعجزة الإسراء والمعراج، لا تختلف عن الإيمـان بالغيب مطلــقا، كالإيمان بالله والملائكة، والبعث والنشور، والجزاء والخلود.

وتدقيق النظر في معجزة الإسراء والمعراج، وما أحاطها الإخباريون وكتّاب السيرة، وارتباطها بمعجزة النبوّة تجعلنا لا نجد عسرا في الحكم على وقوعها بالجسد والروح، وهو ما تؤيده الأحداث التي وقعت بعد الحادثة، وتدل عليه السياق القرآني: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)  [الإسراء:1]، فالحق سبحانه بعد أن أثنى على ذاته بالتنـزيه عن أي نقصان؛ أخبر بأنه أسرى بعبده، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ليريه من عظام الأمور ما يزيد في يقينه بعظمة خالقه، وقدرته على فعل كل شيء، وابتداء الحق سبحانه بتنزيه ذاته يعطينا البرهان على أن عملية الإسراء والمعراج كانت ثنائية، لأن القسم العظيم لا يدلّ إلا على الحدث العظيم.

والانتقال من مكان إلى آخره، يقتضي أن يستعمل فيه الإنسان الوسائل المناسبة، والنبي (ص)، لم ينتقل بتلك الوسائل المعتادة، وإنما حدث بوسيلة أخرى لم يألفها البشر، ولم يكن الانتقال روحيًّا فلو كان كذلك لما وجد المشركون عُسرا في قبوله، ولما اعتبرها السياق العام لفواتح سورة الإسراء شيئا ذا أهمية، لأنه لا يُنكر على أي إنسان إن حدّث الناس بأنه  رأى في المنام انتقاله إلى أقصى بلد في العالم وتجوّل في أرجائه، ورأى عجائبه وغرائبه.

القرآن الكريم يعتبر قصة الإسراء من المعجزات الخارقة التي ظهرت على يد النبي الكريم، ولو كانت معجزة غير حسية؛ لما أعارها اهتماما كبيرا، ولغفل عن ذكرها، كما غفل عن ذكر المعجزات الحسية الأخرى؛ ولكن البشر ارتبطوا  بقوانين الأرض ومقاييس علومهم، مما جعلهم يجدون صعوبة في قبول وقوع هذه الحادثة؛ لأنها خرجت عن حدود معاييرهم.

فلو حدّث النبي (ص) الناس، بأنه رأى في المنام انتقاله على دابة مجنّحة إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماوات العلا، والتقى الأنبياء والمرسلين وأَمَّهم في الصلاة؛ لما أنكر عليه أحد، ولما عجب الناس من قصته، ولما ارتدّ بعض المسلمين، ولما اندهش أبو بكر في أول الأمر عند سماعه القصة، ولما حذّرته أم هانئ من أن يقص حادثة إسرائه على المشركين، طبقا للرواية التي ذكرها ابن إسحاق عن أم هانئ: “ما أسري برسول الله، إلا وهو ببيتي نائم، خشية تكذيبه وإيذائه، ولما أصرّ الرسول، على التحدث إلى الناس، فهذه الأحداث كلها تدل على أن الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد وليس بالروح فقط.

وأثار المعارضون للإسراء والمعراج بالروح والجسد؛ الحالة التي وجد عليها النبي الأنبياء والمرسلين في بيت المقدس، فهل رآهم على الصورة الآدمية الحقيقة؟ أم وجدهم على غير ذلك؟ وأمرٌ مثل هذا لا يفيد فيه الجدل؛ لأنه يرتبط بأسرار النبوّة التي تعتبر معجزة في حد ذاتها.

كما أثار أصحابُ المدرسة العقلية من المسلمين، مسألة المعراج إلى السماوات العلا؛ وهي قصة معقدة تتجاوز قدراتِ العقل ومستويات إدراكه؛ إلا أنه لا يسع المؤمنين إلا التصديق بها تسليما، لأنها تتلاءم مع أسرار النبوّة التي أشــرنا إليها من أنـها تعتبر أمّ المعجزات الحسية.

ولقد رأينا كيف أن الوحي ينـزل من السماء في لحظات وجيزة؛ مما يستدعي سرعة فائقة لم تعرفها قياساتُ البشر، وجبريل عليه السلام، كان يتلبّس في صورة البشر ويأتي رسولَ الله أمام المؤمنين، ويسأله عن أمور الإسلام أمام مرأى الصحابة، وسرعة جبريل تتكافأ مع سرعة البُراق، وقد يكون النبي في حد ذاته معجزة كمعجزة ميلاد عيسى، ومعجزة عُزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، ومعجزة الطعام الذي أوقف الله الزمان عليه فلم يتسنّه، أي: لم يتغيّر لونه وطعمه وريحه، ومعجزة أصحاب الكهف الذين ناموا ثلاثمائة عام وازدادوا تسعا، ومعجزة تكليم الله لموسى مباشرة ومن غير واسطة، ومعجزة التكليم أعسرُ تعقّلا  من معجزة الإسراء والمعراج؛ لأن العقل يَكِلّ في البرهنة على إمكان تحيّز الحق سبحانه في شعلة بجبل الطور.

وقوله تعالى: “لنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا”، تدل على عظيم ما رآه النبي، في عالمه العلوي، من رؤيته للأنبياء والملائكة، وما شاهده من آيات خارقة في السماوات، وما أكرم به من انتهائه إلى رحاب التجليات الربانية؛ فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، كما أكرم في العالم السفلي برؤية البُراق وامتطائه، ومن رؤية الأنبياء والمرسلين، والذي يمكن أن يُفهم من السياق القرآني هو الرؤية البصرية الحقيقة؛ لأن الإنسان بطبعه لا يأنس إلا لما يدركه بحواسّه؛ وما يُرى في المنام لا يترك أثرا كبيرا في نفسه، والاحتجاج الذي ساقه المؤيدون للإسراء بالروح فقط، مستدلين بالآية الكريمة من سورة الإسراء من أنها تدل على أن الإسراء والمعراج، كان بالروح فقط، لم يكن إلا استنتاجا لا غير، وابن عباس  يفسر هذه الرؤيا بأنها رؤيا عين أريَها رسول الله، وهذا ما يؤيده الواقع المكي المرتجّ.

وخلاصة هذه القصة، أنها حدثت بالروح والجسد، وليس من المفيد إخضاعها لمقاييس العقل، لأنها قضية غيبية وتتجاوز حدود العقل.

المرجع: “في رحاب السيرة النبوية”، بتصرف، خير الدين هني.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!