-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في صحبة موسى والخضر

أبو جرة سلطاني
  • 1133
  • 1
في صحبة موسى والخضر

سورة الكهف، يقرؤها المسلمون صبيحة كلّ جمعة، طمعًا في تنوير كهوف قلوبهم ببركات ما فيها من أنوار، ومنهم من يتأمّل في كثافة الدّروس التي حملتها القصص الخمس الواردة فيها: قصّة أهل الكهف، وقصّة صاحب الجنّتيْن، وقصّة فسوق إبليس عن أمر ربّه برفض السّجود لآدم (عليه السّلام)، وقصّة موسى (عليه السّلام) مع الخضر (رضي الله عنه)، وقصّة ذي القرنيْن؛ ففي كلّ قصّة أسرار ودروس وعبر ومواعظ وتجليّات..

في صحبة موسى (عليه السّلام) للخضْر (رضي الله عنه)، تذكيرٌ بأدب طلب العلم وما يحتاجه المتعلّم من صبر وأناة وإلمام بفقه زكاة الاتّعاظ؛ فمقام تحصيل العلم اتّباعٌ صابرٌ قبل أن يكون تلقينًا سابغًا.. والسّعي لتحصيل العلم – بنيّة نفع البشريّة بثماره- عبادة تستشرف قمم صناعة القدوة ومكارم الأخلاق قبل حرص طالب العلم على جمع العلوم وتوسيع المعارف وتكديسها للتّظاهر والتّفاخر والجدل وقلّة العمل. فالعلم إخلاص نيّة، وتواضع نفس، وتوخّي مقاصد، وأخذ بالأسباب، وتفكّر في ملكوت السّموات والأرض، واقتضاء الصّراط المستقيم.. لتنوير القلب بمعرفة الله -جل جلاله- قبل تنوير العقل بالاستدلال عليه وهو النّور المستَدَلّ به على غيره، وليس الأداة التي نبحث بها عن وجود واجب الوجود (جل جلاله).

 الغاية الأولى من سرد هذه القصّة هي تعليم طالب العلم أدب الصّبرَ والأناة وعدم الاستعجال بالسّؤال.. لاستكمال أدوات الدّعوة وتنويع وسائلها حتّى لو كان السّاعي لطلبه نبيّا من أولي العزم. وهي قصّة لم تُذكر في القرآن المجيد كلّه سوى مرّة واحدة في سورة الكهف، استغرق عرضها اثنتيْن وعشرين آية بدأت بخروج موسى (عليه السّلام) مع فتاهُ للبحث عن الخضر في مكان مجهول يسمى “مجمع البحريْن” وانتهت بفراق بعد تأويل رموز ما رأى موسى من تصرّف الخضر، ولم يعلّق عليها بشيء يوضح غموضها ليكون الغموض دافعا للبحث والتجديد والإشراق. فإبهام بعض ما جاء فيها هو عمقُ إعجازها؛ إعجاز التقت فيه النّبوّة بالعلم اللّدني: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)) (الكهف: 60)، وإيجاز انتهى بتأويل الأحداث الثّلاثة الغامضة التي لم يستطع موسى (عليه السّلام) عليها صبرا. ولو أنه صبر لكشف الله -جل جلاله- لنا من هذا العلم ما يجعل الحقيقة والشّريعة والغيب أكثرَ تقاربا وتجاورًا وتماسّا في عقل الإنسان مما نقلته لنا المشاهد الثلاثة التي تمّ تأويلها قبل الفراق: ((ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)) (الكهف: 82).

 التقاء عارفيْن أحدهما رسول يوحى إليه؛ فهو أعلم بالوحي والرّسالة من جميع أهل زمانه مهما علا كعبُهم وذاع صيتُهم. والآخر وهبه الله من لدنه علما. فموسى (عليه السّلام) أوتي الوحي الذي هو المَنفذ الوحيد لصلة السّماء بالأرض، وهو طريق الهداية. أما الخضر (رضي الله عنه) فحاز “علم الكشْف” الذي لم يشأ ربّنا -جل جلاله- جعْله سبيلا للمعرفة لتظلّ حركة الحياة محكومة بالسّتر وليس بتخطّي أفق الغيب؛ فحياة الناس متحرّكة بظاهر السّنن المسخّرة من خالقها المنضبطة بضوابط الشّريعة وليست محكومة بالكواشف المستترة وراء الحجُب.. فعلم موسى (عليه السّلام) اصطفاء بوحي واجب البلاغ والبيان لجميع من يستطيع توصيل القول اليهم، وعلم الخضر -رضي الله عنه- لدُنّي لا يحكم حركة الحياة الدّنيا وإنما يستشرف ما وراء الحُجب.

 من لطف الله بالناس أنه لم يكلّفهم بما جاء به الخضْر ولم يطالبهم بمعرفته لأنّ استكناهه فوق الوسع والطّاقة. والله لم يكلّف نفسا إلاّ وسعها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • عمر

    روح اخطينا الله يرحم والديك