-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في ضوء أحداث غزة.. ماذا فهمنا من السنة النبوية الشريفة؟

قدي عبد المجيد قدي
  • 278
  • 0
في ضوء أحداث غزة.. ماذا فهمنا من السنة النبوية الشريفة؟

بعث الله الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا للناس ومعلما إياهم أسباب الخير والفلاح، بأقواله وأفعاله وتوجيهاته، فهو قدوة الناس وإسوتُهم. تلقى عنه الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا نعم الناقل لهديه، حتى وإن اختلفت فهومهم للكثير من الأمور. وهي اختلافاتٌ أقرّهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى في حياته، لأنه ما كان ليضيّق الواسع أو يحمل الناس على نفس الفهم كما حدث في الأمر بصلاة العصر في بني قريظة.

هذا ما دفع الإمام مالكا رضي الله عنه إلى نهي أبي جعفر المنصور عن حمل الناس على الالتزام بأحاديث “الموطّأ” دون غيرها، مبررا نهيه بأن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم، وإن ردّهم عما اعتقدوه شديد، فالأفضل ترك الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم.

وعلى مر العصور نجد فئة من الأمة اتخذت من ضرورة المحافظة على السنة النبوية نهجا لها، وهو أمرٌ جيد من ناحية المبدأ؛ لأن الإيمان لا يكتمل إلا باقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به في جميع مناحي الحياة. إلا أن هؤلاء يصطدمون في الغالب بسوء فهم للسنة وعدم التمييز أحيانا بين ما هو تشريعي وغير تشريعي، وتضخيم جوانب على جوانب أخرى، بل إهمال جوانب ذات أثر أكبر ونفع أعمّ للأمة والمجتمع؛ وبالتالي يصبحون كالصائم الذي لا يناله من صيامه إلا الجوع والعطش، أو كالذي يتلو القرآن والقرآن يلعنه، فالسنة هي سلوكٌ وروح ينبغي أن تتخلل جميع معاملاتنا، وهي أبعد ما تكون عن المظاهر، ولا تقتصر على الجوانب الفردية للإنسان كالسواك، والكحل، وشكل اللباس، وإنما تتعدى إلى الاهتمام بالجوانب الاجتماعية كالاهتمام بالفقراء والأرامل والأيتام، وبناء المشافي والطرقات… وتوجيه العلاقات بين الإنسان وغيره كالتسامح وخفض الجناح واصلاح ذات البين، وبين المجتمع وغيره من المجتمعات كفرح المصطفى ببشارة انتصار الروم في بضع سنين، بل حتى في علاقة الإنسان بالكون كعلاقة الحب بين الرسول الكريم وجبل أحُد.. فالإمام مالك رحمه الله لم يفهم قاعدة “ليس على مستكرَهٍ طلاقٌ” الجانبَ الفردي وحده كعلاقة الزوج بالزوجة، وإنما تعدى فهمه إلى شروط إبرام العقد الاجتماعي وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وهو ما أثار حنق والي المدينة العباسي جعفر بن سليمان بن علي، فآذاه ونكّل به حتى انخلعت كتفه.

واعتبر العز بن عبد السلام أنه من السنة تعليم الطلاب مواقف البطولة والشجاعة والغَيْرة على الدين كما يجري تعليمُهم الحلال والحرام لأنه لا قيمة لطالب يحفظ القرآن والصحيحين والسنن وكتب الفقه والحديث ولا يغار على الإسلام وعلى الأمة والمجتمع، ولا يغضب لله ورسوله –صلى الله عليه وسلم– ولا يَتَمَعَّر وجْهُهُ إذا رأى المنكر ويَتَطَلَّعُ إلى منازل الصِّديقين والشهداء.

جاءت أحداث غزة وكشفت مدى عمق فهمنا للسنة وكيفية التعامل معها؛ فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول “ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم”، فهل بعد هذا الحديث نعتبر أنفسنا كاملي الإيمان، خاصة دول جوار غزة، ونحن نرفل في النعيم ويكاد بعضنا يموت من التخمة، ونرمي من فضلات العيش ما يمكن أن تقتات به شعوب، ونغيّر ملابسنا بين الصباح والمساء؟ أليست المبادرة إلى إطعام هؤلاء من إحياء السنة؟ ألنا عذرٌ مع الله بالقول إننا لا نعلم أو لا نستطيع، وهم يستجدوننا عبر قنوات ووسائل الاعلام كل لحظة، وأطفالهم يموتون من الجوع والعطش؟ أليسوا جيرانا لنا، لهم حق علينا وحتى لو افترضنا أنهم غير مسلمين، فما بالك وهم إخواننا في الدين؟

إن فهمنا للجار وقف عند حدود المسكن الملاصق لبيوتنا، وهو فهمٌ لا يستقيم. صحيح أننا نتذرع بعدم القدرة على الوصول إليهم؛ لكن ليت قلوبنا وجوارحنا كانت معهم، بالانتصار لقضيَّتهم، برفعها إلى كل المنابر، بالاستنكار والغضب وفق ما هو متاح، أن نضغط بالوسائل التي نملكها، أن نكشف الظلم الذي يتعرَّضون له في ظل ازدواجية المعايير، أن نستنهض الضمير العالمي، إذا كان هناك ضمير، أن نندد بالتواطؤ القائم ضد إخواننا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبنو إسرائيل ما لعنهم الله إلا لأنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه.

وإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول “مثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فلنسأل أنفسنا عن شعورنا أو على الأقل شعور البعض منا لما اجتاح الغزاة قطاع غزة: هل أصابتنا الحمى من جراء ما وقع لهم؟ هل سهرنا متوجِّهين إلى المولى بالدعاء لينصرهم ويثبتهم “إنما تُنصرون بدعائكم”؟

إن ما يحز في النفس ويتنافى مع أخلاق سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أن البعض منا -وإن شاء الله يكون عدُدهم قليلا- وجد المقام ملائما للتشفِّي في أهل غزة لاعتبارات تنظيمية، ومذهبية، وفئوية… بل ذهب بعضُهم إلى اعتبارهم “منحرفين في اعتقادهم”، وأنهم “غير منضبطين بالسنة”؛ لأنهم لا يرون ما يراه في بعض تطبيقات الإسلام أو في بعض المواقف التي أقلّ ما يقال عنها أنها ضمن الخلاف المشروع، بل ذهبوا إلى تصنيفهم خارج “الفئة الناجية” معتبرين أنفسهم أنهم وحدهم أهلُ الحق، وكأن الجنة سوف تضيق لو دخلها غيرهم، وفي هذا سوء أدب مع الله فهو أعلم بمن اتقى، وفي الوقت ذاته عدم ترك أمر العباد إلى الله، فإليه مرجعهم، فالرسول وبَّخ أسامة بن زيد لما قتل رجلا بعد ان قال لا إله إلا الله: قال لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟! قلتُ: يَا رسولَ اللَّهِ! إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ، قَالَ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟!

إن المنطق الإسلامي والهدي النبوي يؤكدان على ضرورة نصر المسلم ولا يمكن أن يكون المسلمون كالمجرمين.

إن من القصور في فهم السنة اعتبار أن ما أصاب إخواننا هو “بما كسبت أيديهم”، والحقيقة أنهم ما قاموا إلا منافحين عن دينهم ووطنهم؛ وهذا ديدنُ الأحرار في العالم على مر العصور. كما أن الابتلاء هو علامة إيمان؛ ذلك أنَّ أشدَّ الناس ابتلاءً، هم الأنبياء فالصالحون ثم الأمثل فالأمثل. ولقد تعرَّض رسول الله وصحبُه إلى الحصار في شُعب مكة، ثم إنه من غير المقبول اعتبار جهادهم  ودفاعهم عن ديارهم وعرضهم “إلقاء بالنفس إلى التهلكة” وكأنهم لم يقفوا عند قول الله تعالى: “إن الله يدافع عن الذين آمنوا”، وقوله “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين”. وكان من الانصاف تأمُّلُ وضع الرسول المادي والعددي في مواجهة قريش في غزوة بدر. وقراءة متأملة في ثورة الجزائر تجعلنا ندرك أن الايمان بالحق والاقتناع بالقضية هما من أسباب النصر؛ فلم يغنِ فرنسا عدّتُها ولا عددُها ولا حلفاؤها في مواجهة إصرار الجزائريين على افتكاك حريتهم وكسر نير الاستعمار، والذب عن دينهم وشرفهم وهويتهم، فالحرية والأوطان لا تقاس بعدد الأنفس المقدمة ثمنا لهما، ولهذا كان الثمن ملايين الشهداء في سبيل استرجاع سيادة الجزائر، فالوطن ليس مجرد مرتع للأكل والشراب والنوم، وإنما هو قبل ذلك أركان ودعائم تحدد هوية المجتمع وشخصيته.

ومن مظاهر سوء فهم السنة التعامل مع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم “لا يؤمن أحدُكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”. فهل ترانا نرضى لأنفسنا الهوان والله أراد لنا العزة؟ هل من الإيمان غضُّ الطرف عما يلحق بإخواننا، ونرضى أن تداس أعراضُ الفلسطينيات التي هي أعراضنا، وتستباح أرضهم، التي كما قال الابراهيمي: “وديعة محمد صلى الله عليه وسلم عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا”؟

إن ما نتعلمه من السنة هو “أن من مات دون عرضه فهو شهيد”، بالله علينا أتحلو لنا الحياة وإخواننا يعيشون في ظروف يستنكرها كل من يحمل مشاعر الإنسانية، وكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟

لقد دفع الفهم الصحيح لهذا الحديث سكان منطقة المغرب العربي، إلى التوجه بعشرين ألف نحو الأندلس لما لحق من حيفٍ بإخوانهم على عهد الصاحب بن عبّاد على يد ملك قشتالة، فخاضوا معركة الزلاقة الشهيرة، حتى أنهم سموا باسمها بعض مدنهم كأوزلاقن، تكريسا لمعاني الأخوّة.

من غير المقبول اعتبار جهاد الفلسطينيين في غزة  ودفاعهم عن ديارهم وعرضهم “إلقاء بالنفس إلى التهلكة” وكأنهم لم يقفوا عند قول الله تعالى: “إن الله يدافع عن الذين آمنوا”، وقوله “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين”. وكان من الإنصاف تأمُّلُ وضع الرسول المادي والعددي في مواجهة قريش في غزوة بدر.

إن التأمل في الأحاديث الثلاثة السابقة، في ظل ما يعيشه إخواننا بغزة، يتطلب منا مراجعة فهمنا وتعاملنا مع السنة، حتى يكون هذا الفهم جامعا للأمة على كلمة تقوى من الله ورضوان، ويعمل على توحيد مشاعرها، حتى تعيش نفس الهموم وتنتصر على كل صنوف الخذلان التي تتعرَّض لها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!