-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قراءة في مستقبل قطاع التربية(1)

محمد سليم قلالة
  • 2664
  • 12
قراءة في مستقبل قطاع التربية(1)

-1 فك الحصار عن التعليملماذا تُصرف أموالنا على تعليم لن نحتاجه في حياتنا العملية، ثم نضطر فيما بعد إلى صرف أموال أخرى ـ إذا استطعنا ـ على تعليم آخر لعله يمكننا من أن نكون فعّالين في القطاع الذي نلتحق به، أو نعيد تكوين أنفسنا في القطاعات التي نلتحق بها عن طريق الصواب والخطأ وندفع ثمن ذلك من وقتنا أو أموالنا إن اشتغلنا لدى القطاع الخاص، ومن حُسن وفعالية أداء القطاع الذي ننتمي إليه إذا اشتغلنا في القطاع العام؟

مَن مِن مسؤولي القطاع الخاص من لا يشتكي من الضعف الكبير للإطارات التي يستقبلها في مؤسسته؟ ومَن مِن مسؤولي القطاع العام من لا يسجل نفس الملاحظة؟ بل كم من مسير كفء اضطر إلى القيام بتدريب آخر لمن وظَّفه أو شَغَّله ليكون فعّالا وذا أداء حسن؟ إن الغالبية من المتخرجين يشعرون هم أنفسهم بأنهم في آخر المطاف، بعد أن أضاعوا كم سنة في التعليم وتخرجوا، بدون كفاءات حقيقية يمكن أن يُترجموها في الميدان العملي . منهم من يلوم المكوّن ومنهم من يلوم النظام التربوي ومنهم من يلوم الظروف التي درس فيها والهياكل والوسائل غير الكافية التي سخرت لذلك، وحتى من يلوم الأولياء من قصّروا في حق أبنائهمو قليلون فقط هم أولئك الذين بفضل نبوغهم أو حُسن تكوينهم، أو بفضل جِدِّهم وكَدِّهم الفردي هم ممن تمكنوا من التخرج من الجامعة بكفاءات قابلة إلى أن تتحول مباشرة إلى الميدان العملي سواء في القطاعات التقنية أو في قطاعات العلوم الإنسانية.

هل نقحم أنفسنا في ذلك التحليل العقيم الذي يُحمِّل أبناءنا المسؤولية؟ بأنهم من جيل يرفض التعليم ويرفض الكد والجد كما كنا نحن ومن هم قبلنا؟ أم نُحمِّل أساتذتنا المسؤولية بأنهم لم يعودوا في مستوى التكوين الذي يُقدمونه؟ أم نُحمل هذه النتيجة إلى لغة التكوين فنتهم العربية بالقصور أو ندعو إلى مزيد من الفرنسة؟ أم نُحمِّل المسؤولية للوسائل غير المتوفرة من ميزانيات وهياكل ومراجع وأدوات دعم تربوية؟

إن التحليل الموضوعي لا يستطيع أن يُحمِّل أيا من هؤلاء المسؤولية. ولا أن يَمنع عن نفسه قَبول دفاع كل طرف من موقعه عن وجهة نظره: الأساتذة يشعرون بأنهم لم يقصروا في شيء من أدوارهم، ومنهم من يزيد على ما يقدمه للتلاميذ بعضا من وقته رغم الأجر الزهيد الذي يتقاضاه والظروف الصعبة التي يشتغل فيها، غايته أن يُكوِّن تلامذته أحسن تكوين ويُرضي ضميره المهني ويقدم أفضل ما عليه أن يقدمه. ومن المؤطرين للقطاع من يقوم بذات الدور، لا يُقصر في معاقبة المتهاونين من إدارة أو مكونين ويحس هو أيضا بأنه يبذل في جهد أكثر مما يطيق وليس بإمكانه أن يُحسِّن أكثر مما هو يفعل، وإذا كان من ضرورة للبحث عن سبب ما نحن فيه ينبغي البحث في مستوى آخر. ومعدو البرامج، لا يترددون في التأكيد أن برامجنا وإن لم تكن في أرقى مستوى فهي ليست في أدناه، إنها تتوفر على الحد المتعارف عليه من المعارف إن لم يكن أكثر من ذلك. أما تلامذتنا فلا يمكن إلا أن نلاحظ ذلك الضغط الذي يعانونه من كثافة الدروس وتلك المواد الثقيلة التي يتلقونها لندرك أنهم أيضا ليسوا المتسببين في الخلل الذي تعرفه منظومتنا التربوية والجامعية.

 أين الخلل إذن؟

الخلل ليس في الوسائل البشرية ولا المادية التي نملك منها أكثر من الحد الأدنى، أي ليس في الإمكانات ولا في في القدرات العقلية التي تؤهل كل من هؤلاء لأن يكون فاعلا أكثر مما هو عليه، إنما الخلل هو في انعدام الرؤية، في ضيق الأفق لدى المسؤولين عن إستراتجية القطاع التي جعلت من الجميع يعجز عن أداء مهامه على أحسن وجه.

هؤلاء لا يعرفون الوجهة ولا يعرفون الغاية ولا يعرفون وسائل تحقيق الغاية، وليس لديهم منظور متكامل لما يقومون به يضع كلا في مكانه، ويستفيدون من أدنى الإمكانات. وعندما يكونون بهذا الشكل يُصبح الأفق لديهم أسير النظرة الضيقة أو الشخصية أو مصالح البقاء والإبقاء، أي البقاء في مناصبهم والإبقاء على الآخرين كما هم في مناصبهم بمن في ذلك الأساتذة والتلاميذ والإداريون ومن والاهم من حاشية ومن عاداهم من نقابات. كل يبقى في مكانه المهم أن لا يضطرب الوضع وألا يُعكر صفو من هم في الأعلى.

عندما يصبح الأفق مسدودا على هذا النحو في أعلى مستوى يُصبح العمل وكأنه يجري ضمن غرفة بلا أكسجين، محنط غير قابل للتطويروبمرور الزمن تنعكس ظاهرة التحنيط هذه على المربين والمكونين والأساتذة فيصبح التعليم عندهم محاصرا من كل مكان، عملا روتينيا ساكنا لا يقدم ولا يؤخر، لا يساعد على الترقية ولا تغيير المكانة الاجتماعية أو حتى التأثير في الحد الأدنى من سلم القيم. وتصبح تبعا لذلك المعرفة غير منتجة ولا مؤثرة في تغيير الوضع المادي للشخص ولا في ترتيبه الاجتماعي ولا في المكانة المعنوية التي عادة ما يحظى من انتسب إليها.

في ذات الوقت تكون المادة من الجهة الأخرى حاضرة بكل ما تحمل من خصائص وصفات، ولا تتردد في أن تأتي مسرعة لا لتحتل مكان المعرفة المحاصرة فحسب إنما لتحطمها تحطيما. ويطل علينا أثرياء غير متعلمين يسيطرون ويتحكمون في رقاب من أفنوا حياتهم في العلم يُثبتون بالدليل القاطع لمن يحدوهم الأمل أن ينتقلوا بالمعرفة التي سيحصلون عليها من مكانة إلى أعلى منها، بأنه لا بديل لديهم عن العودة إلى طريقهم هم، طريق البحث عن المادة بكل الطرق عدا المعرفة والعلم، فتنغلق الدائرة على القائمين عليه: منهم من يسارع لتدارك ما فاته من عالم المال والأعمال فيترك قطاعه غير آسف يُصيب حينا ويخطئ أحيانا كثيرة ذلك أنه لم يكن مهيأ من البداية لسلوك هذا الطريق، وآخرون وهم الغالبية يُصرون على البقاء ضمن الدائرة التي صنعوها لأنفسهم،رافضين إغراءات السوق ومتحملين نتائج هذا الرفض أحيانا في صمت قاتل وأخرى في تفتح غير مسبوق على تلامذتهم بمزيد من العطاء غير المحدود وبلا مقابل نكاية في المنتصرين عليهم بالمال الذين أرادوا أن يضعوهم كما كل شيء صادفهم أمامهم في سوق البيع والشراء مثلهم مثل الأغنام التي يتاجرون بها والسلع التي يبيعونها من غير رقيب ولا حسيب.

ويتسبب انحصار الأفق هذا في ما نراه اليوم من هدر لطاقات لا يوجد أثمن منها، شباب في مقتل العمر يكد ويجتهد من غير أمل، وإطارات تحمل هَمَّ صناعة جيل بأكمله تحس بتناسي دورها، وأولياء ينظرون بحسرة لفلذات أكبادهم يفقدون تدريجيا الذكاء التي أنعم الله به على أبنائهم بسبب تعليم من غير سياسة وسياسة بلا تعليم ووسط مناوئ لكل متعلم وكل من آمن بقواعد التربية المدنية والخلقية التي كاد يحفظها عن ظهر قلب منذ أن التحق لأول مرة بالمدرسة.

ويستدعي منا ذلك البحث عن بدائل لتحرير هذه الآفاق وفك الحصار عن تعليمنا المحاصر منذ عقود. ويطرح بإلحاح أمامنا السؤال الجوهري التالي: ما السبيل لفك هذا الحصار؟ وما هي المنهجية التي ينبغي أن نتّبع؟ ذلك ما نأمل مناقشته معا في الأسابيع القادمة بإذن الله

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
12
  • المطيش

    أن أفنيت أكثر من ثلاثين سنة، بين صفوف الأقسام، ولم يتجرأ طالبا في يوم ـ ماـ ويقول أنني لم أطلع على النظرية، أو داك الموضوع الفلسي ، أو تلك المدرسة الآ دبية، أو تلك المرحلة التاريخية، بل كان الطالب ، على أهبة الإستعداد، لخوض معركة الإمتحان ، مهما كانت أسئلتها، ومهما أغر قت في الإبهام، لإن جدوة التعلم متقدة في داخله، وأنت عبرة هدا الجسر، وتعرفه حق المعرفة، ولكن من قتل الحرارة المعرفية، في قلوب المتمدرسين، هو النظام التربوي الحالي، والهدف من وراء دلك، قتل الإرادةالتلميد في البحث والجهد

  • خ

    نعم التربية في حاجة إلى اتفاق كل الفاعلين في المجتمع على تحديد النموذج التربوي الذي نريد (الناتج الإنساني للجهاز التربوي )،وبما أن التربية عملية معقدة تتبادل الثأثر والتأثير مع المحيط السياسي والإقتصادي والثقافي والتطوّر التكنلوجي المعيش في سياق تاريخي واجتماعي معين ،فالحل يكمن في تعميق النقاش بين كل الفاعلين داخل وخارج التربية لبناء النموذج الذي نريد أي مواطن المستقبل الحر المنتج المبدع في واقعه المحلي الذي يعيش عصره ويوظف خبرته التاريخية ويتمسك بعناصر أصالته القابلة للإستثمار في المستقبل .

  • السفنكري

    أستاذي المحترم، أبناؤنا يتعلمون وحدهم ويتواصلون مع الآخر بعيدا عن رقابتنا، ومناهجنا ومدارسنا وقد تركوا لنا عالمنا وذهبوا يبنون في العالم الافتراضي عوالمهم وفق رؤيتهم، أو رؤية الآخر ، المشكلة أنها ليست رؤيتنا.

  • السفنكري

    التي لم تخضع للدراسة المتأنية ما تسبب في اضطراب عميق مس جميع المستويات واضطر المشرع التربوي الى امتصاص غضب النقابات الأقوى ومنحها امتيازات على حساب فئات أخرى أقل تمثيلا.
    تعاني التربية من شيخوخة إطاراتها حتى صرنا نتهكم في الميدان عليها أنها دار للعجزة والبيروقراطية المقيتة ففي الوقت الذي نتحدث عن الحكومة الالكترونية نجدها غارقة في الأوراق التي لا طائل من ورائها سوى أنها حولت الفعل التربوي إلى فعل بيروقراطي وذاك فشل ذريع لمجتمع بأكمله.

  • السفنكري

    إلا أن نتائجه ضامن للحفاظ على المكتسبات وتحقيق التطور . والمنظومة التربوية عماد التنشئة الاجتماعية في إطار رؤية شاملة لمشروع مجتمع الغد . غير أن واقع الحال يثبت أنه من المحال تحقيق ذلك في المدى المنظور على الأقل لاعتبارات عديدة هي:
    - سرعة التغير الاجتماعي الدولي والجمود والنمطية الداخلية
    - عدم حسم الخيارات
    - غياب إطار تشريعي متناسق
    - نقص الحوار بين فواعل القطاع واقتصاره على القضايا الاجتماعية
    ويتجلى ذلك فيما أوردتموه من أمثلة في مقالكم ، ضف إليه الترقيعات في النصوص التشريعية

  • السفنكري

    وأشاعوا أن المدرسة الأساسية هي حاضنة للتطرف وقد لقي طرحهم تجاوبا من خلال الاصلاحات التي تمت والتي قضت على المدرسة الأساسية وعوضت بأنموذج مشوه غير قابل للاستمرار دون أجهزة التنفس الاصطناعي. وقد أثبت الواقع حاجته للإصلاح وإصلاح الإصلاح في عملية عبثية تهدر المال والوقت والأهم من ذلك فرص أجيال كاملة في التقدم والتحكم في ناصية العلوم بدل الغرق في ترهات ايديولوجية عفى عنها الزمن.
    أستاذي المحترم، يعد الاستثمار في الانسان مكلفا ومعقدا وبدون فائدة آنية إلا أن نتائجه تظهر بعد زمن

  • السفنكري

    وكان هؤلاء وسيلة دعاية ايديولوجية داخل المدارس لأحد أراف الصراع في ظل غياب مناهج علمية وموضوعية . وجاءت اصلاحات أمرية 16 أفريل 1976 التي أقامت مشروع المدرسة الأساسية والذي اعتبر نكسة للتيار التغريبي في الجزائر لأن حسم المسألة اللغوية والدينية في المدرسة معززا ذلك بوجود التعليم الأصلي . واستمر المشروع مع بعض المطبات الاصطناعية التي وضعها الفريق المناوئ إلى غاية 1992 تاريخ تنحية الوزير بن محمد (معرب) إثر تسريب أسئلة الباكالوريا. ومع التحولات السياسية التي شهدتها البلاد وجد التغريبيون فرصتهم

  • السفنكري

    أستاذي المحترم اسمح لي أن أضيء شمعة أخرى إلى جوارك علّنا نجد سبيلا ، المشكلة التربوية في الجزائر نتيجة تراكمات لصراعات قائمة منذ الاستعمار بين المدارس الدينية لجمعيةالعلماء المسلمين والكتاتيب والزوايا والزيتونة من جهة والمدرسة الفرنسية من جهة أخرى وتأزم الوضع بعد الاستقلال بوصول خريجي كل من المنهلين إلى سدة الحكم واحتدم الصراع بإدخال المتعاونين الأجانب بأعداد كبيرة من مشارب متضاربة من الشيوعي القادم من يوغسلافيا إلى البعثي والإخواني القادمين من المشرق العربي

  • رشيد

    شكرا أستاذنا الجليل على فتح هذا الموضوع الهام والاستراتيجي للنقاش ، لأن المنظومة التربية ترتبط بمستقبل البلاد فكم هدرنا من امكانات وطاقات دون تحقيق النتائج المرجوة مع أنها غير مرجوة بالنسبة للمسؤولين حيث طغت الارتجالية وغابت الكفاءة فكيف يتم ترقية اطارات في الادارة أو سلك التفتيش ليس على أساس الكفاءة وانما على أساس ذوي الحقوق ونحن نعرف أن فاقد الشئ لا يعطيه ، كما نلاحظ تعطل دور الأولياء في متابعة وتحفيز أبنائهم الذين طغت عليهم العولمة في جانبها السلبي والهدام .

  • دوادي

    تحية لك أستاذ فعلا القضية ليست مشكلة امكانيات و لا كفاءات بقدر ماهي في استغلالها و توجيه الجهد و توحيده و الاجابة عن سؤال أي مواطن نريد ؟ و ارتقاء المعنيين بالعملية التربوية و التعليمية بمستوى النقاش لإيجاد إجابات للأسئلة المطروحة و التي ستطرح بدل تقاذف المسؤلية .

  • متأملة

    أعجبني كثيرا هذا التحليل الموضوعي لأنماط التكوين الحالي وغاياته ومدى تأقلمه مع متطلبات الواقع ، ولنناقش هذا الامر، علنا ننهض بمنظومة التعليم في الجزائر،
    بعد التخرج من الجامعة وحتى بعد التوظيف اصطدمنا بواقع مرير، يهمش الكفاءات ويقتل فيها كل مجال للإبداع والتغيير، ويجعلها تدور في دوامة اسمها المشاكل التافهة الملهية اللتي يختلقها بعض المسؤولين ليحطموا إحساسه بالمستوى الدراسي العالي الذي هو حقه. والسؤال المطروح: لماذا كنا نكد ونجتهد في مشوارنا الدراسي، ويقال لنا :"ممتاز واصل على هذا المنوال"

  • midoc

    مشكور دكتور على المقالة الا انك حصرت مشاكل التربية في ضيق الافق هذا صحيح لكن اضيف البرامج المفروضة لاتلبي الغايات لانها ليست اصيلة