-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قراءة نقدية لمقاربات الإصلاح التربوي

محمد بوالروايح
  • 1406
  • 0
قراءة نقدية لمقاربات الإصلاح التربوي

سمعنا الكثير عن الإصلاح التربوي منذ كنا تلاميذ في المرحلة الابتدائية في بداية السبعينيات، ولكن هذا الإصلاح لم يأخذ شكلا منظما إلا في فترة متأخرة؛ إذ طغت إصلاحات بن زاغو على المشهد، واستمرت سنوات عديدة، وكنا نتمنى أن تُسفر عن نتيجة، ولكنها ظلت تراوح مكانها، والأسباب في ذلك كثيرة ومتعددة تختلف بشأنها القراءات والمقاربات، ولكن ما يمثل إجماعا مشتركا لا يقبل الاختلاف هو أن هذه الإصلاحات لم تصل بعد إلى غايتها ولم تحقق أغلب أهدافها.

قرأتُ مقالاتٍ كثيرة عن الإصلاح التربوي والثغرات التي تركها المشتغلون في هذا الاتجاه، وقد لفتت انتباهي بعض المقالات التي اشتملت على مقاربات مدروسة ومؤسسة كتلك التي كتبها أخي الأستاذ الدكتور أحمد محمود عيساوي على صفحات “الشروق اليومي” والتي تمثل مقارباتٍ وإضاءات لا غنى عنها لأن الرجل الذي أعرف مكانته العلمية يتحدّث فيها من وحي التجربة وبموضوعية متجردة لا تهدف سوى لتطوير المنظومة التربوية التي نُعَدُّ جميعا ثمرتَها وحراسها، فنجاحها هو نجاحٌ لنا وفشلها هو فشل لنا، فهي نحن ونحن هي هكذا بلغة المنطق الفلسفي.

من الدراسات التي استوقفتني بشأن نقد الإصلاح التربوي دراسة بعنوان: (الإصلاحات التربوية في الجزائر: أيُّ مفهوم للإصلاح) للباحثين: نصيرة سالم من جامعة الجلفة وتالي جمال من جامعة المسيلة، وما يهمني من هذه الدراسة هو تحليلهما ونقدهما للمقاربات النظرية التي مرت بها المنظومة التربوية الجزائرية وهي: المقاربة التقليدية أو المقاربة بالمضامين والمقاربة بالأهداف أو بيداغوجية الأهداف والمقاربة بالكفاءات.

ويبدو أن إصرار الباحثين على وصف هذه المقاربات بأنها “مقاربات نظرية” يكفي لترجيح عدم اقتناعهما بهذه المقاربات وعدم جدواها بالأحرى لأنها مقارباتٌ نظرية شكلية لم تلامس الواقع وظل أصحابها يسبحون في فلك العمل النظري ولم يرتفعوا بها إلى المقامات العملية، وهي نظرة نتقاسمها معا لاقتناعنا بأن النظري قد طغى على العملي، ليس في مجال الإصلاح التربوي فحسب، بل في كل المجالات، وهذه هي أمّ المشاكل التي حالت دون تطور المنظومة التربوية وغيرها من المنظومات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

لا تمثل المقاربة التقليدية والمقارنة بالأهداف شيئا في ميزان الإصلاح التربوي إذا خلتا من مقاربة ثالثة ومهمة وهي المقاربة بالكفاءات، ولا ينكر الباحثان نصيرة سالم وتالي جمال كما لا ننكر نحن وكل منصف أن وزارة التربية قد أولت أهمية قصوى لهذا النوع من المقاربات، وفي هذا يقول الباحثان: (إن المقاربة بالكفاءات تقترح تعلما اندماجيا غير مجزإ مع إعطاء معنى للمعارف الدراسية واكتساب كفاءات مستديمة تضمن للمتعلم التعامل مع الوضعيات المختلفة، إذ ينتقل المتعلم من منطق التعليم وتلقي المعارف إلى منطق التعلم أي ممارسة مدلول المعارف، إذ يوضع في وضعيات ومواقف مماثلة لفحوى التعليم بنفسه مما يدفع به إلى التكيف وتوظيف المعارف قصد إيجاد حل لهذه الإشكاليات).

لا خلاف حول أهمية المقاربة بالكفاءات، وهي مقاربة معتدٌّ بها ومعتمَدة في كل المنظومات الاقتصادية والسياسية وغيرها، ولكنَّ السؤال المُلحّ الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل شكّلت المعرفة التربوية مادّة أساسية في هذه المقاربة؟ وهل نجحنا في جلب واستقطاب الكفاءات التي تتوقف عملية نجاح هذه المقاربة على لمستها وجهودها المتميزة؟ للأسف فإننا لم نوفق بعد -أشخاصا ومؤسسات- في إدراك هذا المستوى لأننا لم نرتق عمليا إلى ثقافة استغلال الكفاءات، ولا زلنا رهائن ثقافة إقصاء وتهميش الكفاءات عن قصد أو عن غير قصد، وهذا السلوك -رغم كونه سلوكا معزولا لا يجوز تعميمه ولا تحميل الوزارة الوصية تبعاته- إلا أن آثاره السلبية قد طغت على المشهد التربوي وشكّلت أكبر عائق أمام تطوير المنظومة التربوية وجعلت الإصلاح التربوي مجرد عمل نظري لم يخرج بعد من شرنقة التجربة النظرية إلى الممارسة العملية.

المقاربة المعرفية التي نشدد عليها لإصلاح المنظومة التربوية هي المقاربة التي تؤسَّس على البُعدين الوطني والديني، وكل مقاربة معرفية خارج هذا الإطار هي بمنزلة جهدٍ مهدور سيكرِّس من دون شك استمرار تدهور مستوى المنظومة التربوية وسيُدخلها في نفق مظلم نرجو ألا تصل إليه؛ ففي المدرسة الجزائرية كفاءاتٌ وطنية كل همِّها الارتقاء بالمدرسة الجزائرية وإيصالها إلى المستويات العالمية.

إن الإصلاح التربوي قد غرق في شكليات لا نعدُّها من الأولويات وليس لها تأثيرٌ إيجابي كبير على عملية تطوير المنظومة التربوية، فالإصلاح التربوي الحقيقي هو الإصلاح الذي يتجاوز الشكليات المتعلقة بالمحفظة المدرسية و”الطابلات” الرقمية إلى الإشكاليات التربوية الحقيقية وخاصة الإشكالات المعرفية، وأعتقد أننا لا زلنا بعيدين عن تحقيق هذه المقاصد بسبب استمرارنا في تكريس الإصلاح النظري. إن الإصلاح التربوي الحقيقي هو الإصلاح الذي يؤسَّس على تثمين العنصر المعرفي في المنظومة التربوية، ومن دونه لن يتحقق شيء ولو أنشأنا ألوفا مؤلفة من الفرق التربوية ووضعنا ما يضاهيها من المخططات التربوية، إن مشكلة المنظومة التربوية تتلخص في بعدها عن تكريس المقاربة بالكفاءات بطريقة تنفذ إلى عمق الإشكاليات والمشكلات التربوية ولا تبقى حبيسة التصورات الشكلية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

إن أهم ما ركزت عليه اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية هو حسم الجدل بشأن شكل النظام التعليمي الذي ينبغي التوجّه إليه والاعتماد عليه، وهو الجدل الذي حُسم بقرار إلغاء نظام التعليم الأساسي والعودة إلى النظام الكلاسيكي القديم، وقد مرّت مدة معتبرة نسبيا عن تكريس هذا القرار في الميدان ولكن تغيّر النظام ولم تتغيّر المنظومة، وهو ما يجعلنا نؤكد بأن المشكلة ليست في شكل وطبيعة النظام التعليمي بقدر ما هي في الآليات المعتمَدة في سبيل إنجاح هذه النظام، فالتعليم الأساسي لا يزال التعليمَ المعتمَد في بعض الدول منذ سنوات، ولم يكن هذا النظام سببا في إخفاق المنظومة التربوية التي لا تزال تشكِّل أفضل المنظومات التربوية من غير منازع.

لقد كتبتُ في مقالات سابقة بأن مشكلة المنظومة التربوية ليست في أفضلية التعليم الكلاسيكي على التعليم الأساسي، كما أن مشكلة المنظومة الجامعية ليست في أفضلية التعليم الكلاسيكي على نظام “ل. م. د”، وإنما المشكلة برمّتها في غياب التصوّرات والمقاربات والآليات، وهو واقعٌ مرٌّ يفرضه نفسه على الجميع ولا يمكن إنكارُه بأي حال من الأحوال.

إن مشكلة المنظومة التربوية هي مشكلة معرفية في الأساس، ونجاحنا في تكريس هذه المعرفة سيجعل لأي إصلاح تربوي مستقبلي طعما ولونا ورائحة، ومن دونه سيبقى هذا الإصلاح من دون طعم ولا لون ولا رائحة، وهذا من غير إبخاس جهد العاملين في هذا الحقل فلكل مجتهد نصيب.

ما أحوجنا إلى تطوير المنظومة التربوية إلى المنهج المعرفي البنائي الذي يقوم على بناء الشخصية المعرفية التي تتجاوز الشكليات إلى الإشكالات ويمكنها أن تمثل قيمة مضافة يمكنها دفع عجلة الإصلاح التربوي والتفرغ بعدها للإشكالات والتحديات الأكثر إلحاحا.

من جهة أخرى، فإن المقاربة المعرفية التي نشدد عليها لإصلاح المنظومة التربوية هي المقاربة التي تؤسَّس على البُعدين الوطني والديني، وكل مقاربة معرفية خارج هذا الإطار هي بمنزلة جهدٍ مهدور سيكرِّس من دون شك استمرار تدهور مستوى المنظومة التربوية وسيُدخلها في نفق مظلم نرجو ألا تصل إليه؛ ففي المدرسة الجزائرية كفاءاتٌ وطنية كل همِّها الارتقاء بالمدرسة الجزائرية وإيصالها إلى المستويات العالمية، ولمن شاء التوسع في هذا الموضوع أن يعود إلى مقال بعنوان: “الأبعاد الهوياتية ورهانات الإصلاح التربوي في الجزائر” للباحث دريس علي.

لا يمكن لأي إصلاح تربوي أن يؤتي أكله إلا بالقضاء على بقايا الثقافة الاستعمارية وإعطاء الأولوية للثقافة الوطنية وفي مقدمتها اللغة العربية، لم نقرأ عن نظام تربوي في أي نقطة في العالم حقق أهدافه أو بعض أهدافه إلا في ظل اللغة الوطنية، وهناك دراسة ممتعة وعميقة في هذا الموضوع بعنوان: “الإصلاح التربوي والتردِّي اللغوي” نُشرت في المجلة الثقافية الجزائرية يمكن الرجوعُ إليها لمزيد من التفصيل والتأصيل والتحليل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!