-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قواعد المنهج في حركة نبي الله يوسف (2/2)

التهامي مجوري
  • 586
  • 0
قواعد المنهج في حركة نبي الله يوسف (2/2)

الواقع الذي عاش فيه نبي الله يوسف -عليه السلام- لا علاقة له برساليته ونبوته، ومع ذلك استطاع التعامل معه كما هو؛ لأن مَهمتَّه هي تغيير هذا الواقع وليس الرضى به والرضى عنه، إذ لو كان راضيا به وراضيا عنه، ما حاجته للنبوة والقيادة الرسالية إذن؟ ولذلك لجأ يوسف، كما يعرض الكاتب الدكتور الطيب برغوث في كتابه “قواعد المنهج في الحركة الحضارية ليوسف عليه السلام” إلى فهم الواقع كما هو، ثم إيجاد الصيغ المناسِبة لتغييره والتأثير فيه وفق خطة لا تتنازل عن المبادئ كما تجتهد بالتكيف مع الواقع تكيُّفا بقدر ما يؤثر على هذا الواقع غير السويّ.

وقبل مراعاة هذا الواقع المهزوز ومحاولة التأثير فيه، كان يوسف -عليه السلام- على قدر هائل من التوازن النفسي الذي يضمن له امتصاص الصدمات والمؤثرات القوية، وذلك مما ينبغي التجمُّلُ به ممن يتصدرون مواقع القيادة والتأثير. لقد عُرِض عليه أن يكون مسؤولا في سلطة قائمة على غير مذهبه ورأيه، هل يقبل هذا العرض طمعا في إصلاح الواقع؟ أم يرفض لكون هذه السلطة جائرة لا يشارك فيها، خوفا على نفسه ومستقبله الدعوي؟

وبحكم أن نبي الله يوسف كان يتعامل مع الواقع على قدر عال من التوازن والفهم وحسن التقدير، فقد رأى أن لا يرفض هذا العرض المغري؛ بل قال للعزيز: ((اجعلني على خزائن الأرض))، إذ حدد مَهمَّته في هذه المؤسسات التي سيكون لها الأثر البالغ في حركة المجتمع وهي المسألة الاقتصادية، ولم يقل كما كان يقول كثير من دعاة الصحوة في العقود الماضية: “المسألة مسألة ولاء وبراء، فمن يشارك في سلطة فهو منها”، بسبب القصور القيادي الذي ساد مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية.

إن ما توصَّل إليه يوسف في الموازنة بين المشاركة وعدمها، أنه رأى مشاركته أولى من عدمها لما سيحقق من مصالح للدعوة التي جاء بها، ولكن ذلك مشروط بتأمين مستقبله؛ لأن المشاركة في السلطة السياسية محفوفة بالمكاره والمخاطر والمزالق، قلَّما ينجو منها إنسانٌ دخلها بغير تحصين مسبق.

السلطة والاستثمار فيها

كان للسلطة -ولا تزال- تأثيرٌ كبير على الأفراد والحركات الإصلاحية، والحركة الإصلاحية التي لا تفكر في صيغة للتعامل مع السلطة والاستثمار فيها، لا يُكتب لها النجاح والبقاء والاستمرار، ولو كان لها من التأثير على الجماهير والمجتمعات ما تعجز السلطة عن بلوغه؛ لأن حضور السلطة في واقع المجتمعات حضورٌ تنفيذي ومؤثِّر وموجِّه؛ بل هو الأكثر فاعلية في واقع الناس “يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.

لقد حرص يوسف -عليه السّلام- على أن يشارك في السلطة، لما عرض العزيز ((إنّك اليوم لدينا مكينٌ أمين))، ولكن قبل أن يعلن عن قبوله بالعرض، أحال يوسفُ العزيزَ قبل أن يخرج من السجن، على موضوع التهمة التي ألصِقت به، وهي تهمة امرأة العزيز والنسوة اللائي حرَّضتهن عليه ((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)) [يوسف: 50]؛ لأنَّ عالم الممارسة السياسية الجادة في عُرف الرساليين ينبغي أن يكون باحتياط تام، إذ ينبغي أن لا تحيط بالشخص الممارس للشأن السياسي أدنى شبهة يمكن أن تدخل على الخط فتُفسد عليه علاقاته بغيره وتأثيره فيهم، وكذلك في كل نشاط تغييري إصلاحي نهضوي؛ لأنَّ الخصوم في الساحة والمضادين بطبيعتهم التي طُبعوا عليها يتتبَّعون عورات خصومهم؛ بل ربما لفَّقوا لهم تهما غير صحيحة، ولعل هذا هو السر في عصمة الأنبياء، الأمر الذي لم ينتبه إليه كثير من قيادات الصحوة والحركة الإسلامية.

وعندما بُرِّئت ساحةُ النبي يوسف -عليه السلام- لم ير مانعا من أن يطلب المنصب الذي فيه منفعة وإضافة يقدر على الوفاء بها ((قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)) [يوسف: 55]، وهذا هو المطلوب في حق الرساليين عبر التاريخ، فلا زهد في المكان الذي يتوقع أن يكون فيه تأثير وإضافة، وذلك ليس من قبيل “شرعُ من قبلنا شرعٌ لنا” كما يقول الأصوليون، وإنما هو من صميم منهج القياديين الرساليين.

السموُّ الأخلاقي والأمل والنقد المنهجي

لقد كان يوسف عليه السلام -يضيف الكاتب- على مستوى عالٍ من الوضوح والسمو الأخلاقي والإحسان، علما وصدقا ووفاء وتسامحا، ويحمل من الأمل في الله وفي المستقبل واليقين من أنه سيحقق ما يريد، مع واقع لا علاقة له به عَقديا، وهذا المستوى من السمو الأخلاقي فتح له باب الأمل على مصراعيه، إذ لم يتسلل إلى نفسه اليأس رغم المضايقات والشدائد، ولم يُحدِّث نفسَه بخديعةٍ أو استغلال غير مبرر أو انتهازية لا تراعي حق الآخرين عليه، وإنما استغل الواقع واستعمل جميع الأساليب المشروعة لخدمة هذا الواقع وما يُصلحه، ولم يشترط شيئا على من يطلب منه النصح أو الرأي، وإنما كان الداعية المستثمِر في كل فرصة تتاح له، بما في ذلك التسويق لنفسه كموحِّد وصاحب رسالة قيادي في واقع غير راض عنه؛ بل لم يقف عند التعريف بنفسه وحسب، وإنما تعرَّض لنقد هذا الواقع رغم أنه يمثّل أقلّية لا تقوى على تغيير الأشياء الكبيرة بسهولة، ولكن هذا النقد كان بمستوى من المنهجية بحيث لا تعترض عليه الأنفس المخالفة أو هو بمستوى من القوة لا يجابَه بسهولة.

سنن التأييد

لقد جابه يوسف -عليه السلام- الواقع برساليته كفردٍ يخاف أن يتخطفه الناس، وكمسؤول فرض نفسه بما تميز به من علم وأخلاق وصدق عزيمة وصفاء روحي، بالاستثمار في سنن الله الثابتة، وبعبارات الكاتب أحسن الاستثمار في ميزانية التسخير المتمثلة في سنن الآفاق والنفس والهداية والتأييد.

وسننُ الآفاق والأنفس والهداية والتأييد، تتمثل فيما ذكرنا من الأساليب والسبل التي سلكها وسار عليها يوسف -عليه السّلام- وهو يناضل ويدعو ويصلح، أما سنن التأييد فعالمٌ آخر مختلف عن المجالات المذكورة، فإذا كانت سنن الآفاق مبثوثة في الكون ليعمل العقل على اكتشافها، وسنن الأنفس مبثوثة في النفس البشرية والعلاقات فيما بينها والمؤسسات التي تسيِّرها، وسنن الهداية موزعة في ما ينزل الله من وحي لتدارك ما يعجز عنه العقل، فإن سنن التأييد، تُتَلمس باللجوء إلى الله لجوءًا مباشرا، عبر الشكر والتوبة والاستغفار والدعاء.

على أن طبيعة التكليف الإلهي مبناه على العبادة والخيرية، فالعبادة لله سبحانه وتعالى، ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات: 56]، وجوهر العبادة رباعية: الشُّكر والتوبة والاستغفار والدعاء، أما الخيرية فهي عطاءٌ مستمر وإضافات مطّردة، ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [آل عمران: 104]، والخير لا حدَّ له صعودا ونزولا؛ لأنه لا يحمل صفة واحدة ينتفي بانتفائها، إذ لا يمكن للإنسان أن يعتذر عن فعل الخير بحجة من الحجج؛ لأن الخير في النهاية هو مفاضلة بين أمرين: سيئ وأسوأ، وفاضل ومفضول، وفاضل وأفضل، فالخيرية هي اختيار الأولى… والمرجو من ذلك هو التأييد الإلهي الذي لم يغفل عنه نبي الله يوسف في منهجيته الرسالية في مساره الدعوي كله، في الإطار الأسري فيما عاناه من إخوته، وفي إطار وجوده بدار العزيز وما جرى له من تهم مخلّة، وفي السجن وفي السلطة، في كل ذلك لم يغب عن يوسف اللجوءُ إلى الله سبحانه.

يقع الكتابُ في ثلاثة فصول: فصلان منهما كمدخل عامّ للموضوع، يحدد الأطر والساحات التي بعث فيها يوسف -عليه السلام- وأهدافه الرسالية فيها والتحديات التي واجهته، وفصل ثالث وهو الأطول يعرض فيه الكاتب قواعد منهج سيدنا يوسف -عليه السلام- في ممارسة رساليته، كل ذلك عرضه الكاتب في 170 صفحة من القطع المتوسط، في شكل استنتاجات فكرية وعلمية عملية منطلقها منظور السننية الشاملة، مدعومة بنماذج تطبيقية من سيرة يوسف -عليه السلام- وممارساته في الواقع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!