-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قيمة الذّوق اللغوي في الدراسة

خير الدين هني
  • 438
  • 0
قيمة الذّوق اللغوي في الدراسة

دراسة النصوص المختلفة تلزم حسا لغويا ذوّاقا، حتى يكون الحكم النقدي للقيمة الفنية موضوعيا، وينطبق هذا على دراسة القرآن الكريم، لأن أبسط دارس منصف له عقل متيقظ ومتحرر من التقليد والتبعية لغيره مهما كانت مراتبهم العلمية والبحثية، ولا ينقل عنهم أو ينتحل أو يقتبس أفكارهم ويلبسها بأسلوبه ومنهجه وصبغته الذاتية، يدرك أن القيمة الفنية وروعة ديباجتها هي ما يفرق بين النصوص، فإذا ارتقى الدارس إلى مستويات عليا من التحرر وكان يملك حسّا لغويا وذوقا فنيا، أدرك إدراكا عميقا أن سجع القرآن يختلف اختلافا كبيرا وبائنا عن سجع الكهان والبلغاء، ويستنتج أن ذلك التباين إنما كان بإرادة عليا وقصد بيّن لتحقيق غاية كبرى وهي غاية الإعجاز، وتحدي بلغاء العرب في الإتيان بمثل القرآن في التأليف والمعنى، والبيان والسجع أحد أساليب الإعجاز والتحدي.
القرآن ليس مقلدا لترانيم اليهودية والنصرانية والوثنية كما توهّم “زكي”، وإنما لأن لغات الأرض كلها بما فيها اللهجات العامية، فيها بلاغة وبيان ومحسنات بديعية، والسجع أحد هذه المحسنات البديعية، واشتراك الأديان في ترصيع كلامها بالسجع ليس من باب التقليد والمحاكات بعضها لبعض، وإنما لأن الكلام المسجوع يناسب الإيقاع الموسيقي للتراتيل والأدعية، والميل إلى الترنيم بالأسجاع المتوالية نجده حتى عند الشعوب البدائية التي تعيش في أعماق الأدغال المنقطعة عن العمران والتجمعات السكانية، ولم تحتك بأي جنس أو ملة أو نحلة، ومع ذلك تترنّم بقطع منظومة من اللهجات المحلية مرصعة بالسجع، ويدل هذا التوافق بين البشر في استعمال السجع أنهم يرثون هذه الغريزة في جيناتهم الوراثية التي فطروا عليها، كما فطروا على القدرة على الكلام والتفكير والإدراك، والميل إلى الغناء والرقص ونظم الشعر والخطابة والحكمة، وكما فطروا على الميل إلى الإيمان أو الكفر أو الشك والإلحاد، والتربية والتعليم وعادات المجتمع هي من تعدل هذه الغريزة نحو الخير أو الشر، بحسب الأهداف التي يسعى إليها المجتمع.
والسجع في القرآن لم يأت على تركيب يقبل الترنيم الغنائي، كما هو حاصل في الشعر أو المنظومات الغنائية المعدة خاصّة للطرب والغناء، أو للأدعية والابتهالات والتبتلات التي يُتغنى بها في المساجد وحفلات الدراويش الصوفية والكنائس والبيع ومعابد الوثنية على نحو ما اعتدنا رؤيته في وسائل الإعلام، مثلما استشهد به زكي مبارك خطأ وتوهما، وإنما يرتل وفق إيقاع مخصوص بتركيبته البنيوية واللفظية، وهو الإيقاع المعروف في قواعد التجويد التي وضعها علماء المسلمين، استنادا إلى قواعد شرعية لا يعرف لها نظير في بقية اللغات والأديان الأخرى، فجاء الترتيل مخالفا لترانيم الأدعية والابتهالات، وهل يمكن عقلا أو وزنا أن نساوق بين ترتيل عبد الباسط للقرآن الكريم أو الغامدي وغيرهما، وبين ترانيم الدراويش في هزهم للرؤوس والبطون أو بترانيم النصارى واليهود والوثنيين في كنائسهم ومعابدهم، لا يقول ذلك إلا مدعٍ مخبول العقل فقد معايير القياس العقلي، والقرآن بإعجازه اللفظي والمعنوي نزل لتهديم أسس الوثنية والتثليث النصراني الذي يؤله البشر (عيسى عليه السلام)، ويجعله من جنس الذات الإلهية غير المشابهة والمكافئة، وليبطل خرافة الإله القومي الخاص باليهود وحدهم دون سائر البشر، حسبما يعتقده اليهود في تفكيرهم الديني والقومي، وقبل ذلك جاء لهدم أسس الوثنية وطقوسها الخرافية في شبه الجزيرة العربية وغيرها من البلدان.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!