-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“كبار العلماء”.. ودوران الأرض!

سلطان بركاني
  • 5906
  • 0
“كبار العلماء”.. ودوران الأرض!

من حين إلى آخر، يعود النقاش المتعلّق بكروية الأرض ودورانها، ليطفو على السّطح، وفي كلّ مرّة تشارك فتاوى مكتوبة ومقاطع مسموعة وأخرى مرئية، لعلماء معاصرين، يصرّون على أنّ القول بكروية الأرض ودورانها حول الشّمس، مخالف لآيات القرآن الكريم، ولكلام الله -جلّ وعلا- الذي يعلم ما خلق، ولم يُشهد أحدا من عباده على خلق السّماوات والأرض، بل يذهب بعض هؤلاء العلماء بعيدا إلى تضليل من يتبنّى القول بكروية الأرض ودورانها، ضاربين بعرض الحائط اجتهادات علماء المسلمين المتقدّمين الذين قالوا بكروية الأرض ومنهم من قال بدورانها، قبل قرون، وغير عابئين بالحرج الذي تمثّله فتاواهم تلك في زمن أمكن فيه رصد مجرات تبعد عن الأرض ملايين السنين الضوئية.

 في إحدى فتاويها التي مضى عليها أكثر من ثلاثة عقود، قالت هيئة كبار علماء السّعودية: “الأرض ثابتة قـارة، والشمس هي التي تدور حولها، كما قـال الله عز وجل: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا﴾، وقال سبحانه: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾، وقال في الشمس والقمر: ﴿كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، ومن قـال: إن الأرض هـي التي تدور، وأن الشمس واقفة، فهو مكذب للقرآن، وتكذيب القرآن كفر أكبر، نسأل الله العافية والسلامة”!

واضح لكلّ ذي لبّ أنّ هذه الفتوى صدرت من دون استشارة أهل الاختصاص من علماء الفلك المتابعين لحركة العلم المميّزين بين نظرياته وحقائقه الراسخة، بل وجليّ أنّها لم تراع مدلولات الألفاظ العربية؛ فالقرار في الآية الأولى لا يلزم منه أن تكون الأرض ثابتة لا تتحرّك، بل الإعجاز في سكونها مع حركتها، ونظير هذا قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾، فالجنين في بطن أمّه في قرار مكين، مع أنّ أمّه تتحرّك وتضطجع وربّما تجري!

الآية الثانية التي استدلّ بها كبار العلماء، وهي قول الله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾، لا تدلّ على أنّ الشّمس تدور حول الأرض، إنّما تدلّ على أنّ لها حركة خاصة بها، وهذه الحركة رصدها العلم الحديث، تتمثّل في دوران الشّمس حول مركز المجرّة، واتّجاهها إلى نقطة تسمّى “المستقرّ: Solar Apex”.

وما قيل عن هذه الآية، يقال كذلك عن الآية الأخرى التي استدلّت بها الهيئة، وهي قول الله تعالى: ﴿كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، فهذه الآية ابتداءً لا تتحدّث عن الشّمس والقمر فقط، إنّما تتحدّث قبل ذلك عن اللّيل والنّهار، وتتضمّن إشارة ضمنية إلى أنّ اللّيل والنّهار ينتجان عن جريان الأجرام السّماوية، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (لقمان: 29).

ما يلحظ على فتوى كبار العلماء أيضا أنّها أهملت واجب الجمع بين الآيات التي استدلّت بها والآيات الأخرى الكثيرة التي تتضمّن إشارات ضمنية إلى خلق السماوات والأرض، مثل قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ (الزّمر: 5)؛ فهذه الآية مثلا تشير إلى كروية الأرض وإلى جريان الأفلاك، كلّ في مساره وفلكه، وكلّ لأجله.

لقد قرّر علماء الأمّة الرّاسخون أنّ صحيح العلم لا يمكن أبدا أن يخالف صريح القرآن، لذلك نجد أهل العلم يرفضون نظرية التطوّر المخالفة لصريح القرآن، وعلماء الطبيعة أنفسهم يقرّون أنّها نظرية وليست حقيقة علمية، بل على الرّغم من محاولة بعض الأوساط المؤدلجة فرض هذه النظرية، إلا أنّ مئات العلماء في مختلف الأوساط العلمية لا يزالون يصدعون برفضهم لها ويقدّمون الأدلّة السّاطعة على زيفها.. أمّا عندما يتعلّق الأمر بكروية الأرض ودورانها حول الشّمس، فإنّ العلماء مجمعون على أنّ الأمر يتعلّق بحقيقة علمية راسخة.. ونحن ليس لدينا في القرآن نصّ صريح ينفي هذه الحقيقة، بل إنّ الوقوف على المدلولات اللغوية لآيات الكتاب العزيز، يقود إلى الإقرار بهذه الحقيقة، بل وإثبات سبق القرآن إلى تقريرها.

لهذا فليس ينفع أن يتعلّل بعض السطحيين ببعض النظريات الخاطئة التي يقتات منها لصوص العلم، ليشكّكوا في كلّ النظريات بل والحقائق التي يتوصّل إليها العلم، ويلووا أعناق بعض النّصوص ليؤيّدوا تشكيكاتهم.. من واجب العالم المسلم أن يتمسّك بنصوص الوحيين متى ما كانت صريحة واضحة، في وجه كلّ تأويل فاسد يقصد من خلاله اتّباع أهواء النّاس، أو الإصرار على موافقة نظريات لا تزال محلّ أخذ وردّ.. لكن العالم ينبغي له أن يتحرّز من الإصرار على التمسّك بظواهر النصوص التي تقبل التأويل وتحتمل أكثر من فهم، في مواجهة ما أصبح حقائق علمية راسخة.

إنّ الإصرار على التمسّك بظواهر النّصوص يمكن أن يقودنا إلى الإزراء بدين الله جلّ وعلا، فنحن مثلا إذا تمسّكنا بظاهر قول الله تعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾، وأصرينا على أنّه يدلّ على أنّ الشّمس هي التي تتحرّك حول الأرض، فإنّنا بالتالي سنصرّ على أنّ الشّمس تغرب في عين حمئة استنادا إلى قوله سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾! وهذا لا يقول به عاقل.. ولذلك فلا مناص من فهم قول الله تعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾، وقوله سبحانه: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ بأنّ المقصود منهما ما يتبدّى للعين ويظهر للعيان، وليس الحقيقة التي تقرّها آيات قرآنية أخرى.

إنّنا نضع جبال عثرة على طريق علماء الغرب المنصفين وعقلائه المتعطّشين للحقّ، حينما نصرّ على التشبّث بفتاوى أقلّ ما يقال عنها إنّها في غير محلّها وغير زمانها، وإنّ حقّها أن تطوى ولا تروى، مهما وصف من صدرت عنهم بأنّهم “كبار العلماء”! فهذا الوصف لا يجعل كلام الموصوفين به بمنزلة الوحي المنزّل، خاصّة أنّه وصف لم يعرفه سلف الأمّة ولم تعرفه الأمّة قبل هذا الزّمان؛ فالأمّة كانت تعتدّ بإجماع علمائها وبقول جمهورهم، ولم تكن تعرف مصطلح “كبار العلماء” هذا الذي كثيرا ما يسبّب الحرج للأمّة.. لست أدري كيف يكون موقف عقلاء الغرب، حينما يقال لهم إنّ “كبار علماء” المسلمين يقولون بكفر من يتبنّى القول بدوران الأرض ويجزمون بأنّ هذا القول يصادم صريح آيات القرآن عندهم؟! كيف يكون موقف عقلاء الغرب، وهم يرون الدلائل من حولهم صارخة بأنّ الأرض تدور حول الشمس؟! الحمد لله أنّ جمهور علماء الأمّة في هذا الزّمان، لا يتبنّى مثل هذه الأقوال، وفي إمكان من يتصدّى لمناظرة دعاة الإلحاد والعلمانية، ان يستند إلى قول الجمهور قديما وحديثا، ليحاجج عن دينه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!