-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كلمات عابرة حول الفقيد المجاهد البروفيسور محمد التومي

بشير فريك
  • 1280
  • 1
كلمات عابرة حول الفقيد المجاهد البروفيسور محمد التومي

فقدت الجزائر، يوم الجمعة 12 أفريل الحالي، قامة من قاماتها الوطنية النضالية الجهادية والعلمية الأكاديمية، إنه رائد جيش التحرير الوطني، طبيب الولاية التاريخية الثانية، خلال ثورة التحرير، وأحد مؤسسي كلية الطب بجامعة الجزائر.

إنه المجاهد البروفيسور محمد التومي رحمه الله.

ولأن الرجال يرحلون وتبقى مآثرهم، وبحكم معرفتي عن قرب للمرحوم منذ 25 سنة، ووفاء لروحه الطاهرة، فقد آليت على نفسي أن أسجل هذه الكلمات في حقه، وإن كنت أعرف مسبقا أنها لا ولن تفي بحقه أو التذكير بمسيرته النضالية والجهادية في معركتي التحرير والبناء..

من الجامعة إلى معاقل الثورة

كانت معرفتي بالبروفيسور سي محمد التومي في سنة 1989 ببرج منايل، حيث كنت آنذاك رئيسا للدائرة، وكان وقتها يشغل منصب رئيس مصلحة طب القلب بمستشفى مصطفى باشا الجامعي، حيث ترددت عليه لفحص الأولاد، ولعل ما استوقفني في أثناء تلك الزيارات في مصلحة طب القلب، هو تلك المعاملة الإنسانية الحسنة المتميزة التي يحظى بها زواره في المصلحة من المواطنين البسطاء من ولاية جيجل، وتحديدا من أولاد عسكر النائية. ومع الوقت، عرفت أن سر ذلك يعود إلى أيام الثورة التحريرية، حيث كان طبيبا للولاية التاريخية الثانية المتواجد مقرها في أولاد عسكر.

توطدت العلاقة مع المجاهد البروفيسور سي محمد التومي عندما علم أنني ابن شهيد من الأوراس، فانشرح صدره لي للعودة معي إلى ماضيه العائلي وبداياته الثورية، لأسجل أنه من عائلة ميسورة تملك أراضي فلاحية شاسعة في محيط برج منايل، حيث تعرضت العائلة إلى مصادرة أراضيها من طرف الاستدمار الفرنسي، انتقاما من مساندتها لثورة المقراني في 1871 لتقوم جزائر الاستقلال بتأميم ما بقي من الأراضي في إطار الثورة الزراعية سنة 1971 حيث بذل جهودا مضنية لاسترجاعها في ما بعد.

ولأنه من عائلة ميسورة ماديا، فقد سمح له ذلك بالدراسة والالتحاق بكلية الطب في مونبيليه الفرنسية، وتلبية لنداء جبهة التحرير الوطني وبحكم انتمائه إلى الحركة الوطنية، فقد قاطع الدراسة والتحق بالقاعدة الشرقية على الحدود التونسية الجزائرية سنة 1956 وفي 1957، حين غامر مع مجموعة من المجاهدين، منهم علي كافي، بقطع خط موريس للالتحاق بالثورة في الداخل، وهنا نجا بأعجوبة من الموت المحقق إثر صعقة بهذا الخط الجهنمي، في حين استشهد المجاهد علاوة بن بعطوش وهو يحاول تجاوز الخط المكهرب.

بعد مسيرة شاقة ومضنية مشيا على الأقدام، مرورا بعدة محطات، استقر به المقام في دوار أولاد عسكر بولاية جيجل، حيث مقر الولاية التاريخية الثانية خلال ثورة التحرير.

وهنا، وجد نفسه مضطرا إلى تحمل عبء ثقيل ومسؤولية أثقل عندما تولى مهام طبيب الولاية التاريخية الثانية بمجاهديها ومناضليها ومواطنيها، فحصا وتطبيبا وعلاجا، وخاصة التنظيم الصحي بإمكانات متواضعة وإرادة صلبة، وقد سجل ذلك في كتابه المتميز “طبيب في معاقل الثورة”، ومما يتذكره الممرضتان الشهيدتان، زيزة مسيكة من مروانة ومريم بوعتورة من نقاوس، حيث يصفهما بالمسترجلتين، من خلال تحملهما مشاق الحياة في الجبال والمغارات وقطع المسافات الطويلة مشيا على الأقدام، وخاصة الاضطلاع بمهام التمريض بكفاءة عالية إلى أن كتب الله لهما الاستشهاد والسلاح في اليد.

وقد شاءت الأقدار أن يتم تعييني في ما بعد واليا لولاية جيجل، وأزور بلدية أولاد عسكر، وأقف على آثار مقر الولاية التاريخية الثانية، وأستجوب بعض المواطنين حول الطبيب الرائد سي محمد التومي، حيث ترك بصمات رائعة وانطباعات حسنة لدى المواطنين الذين يتذكرون خصاله الحميدة.

تأسيس كلية الطب بجامعة الجزائر

سطعت شمس الحرية والاستقلال، فتهافتت القيادات الثورية شرقا وغربا على احتلال المناصب السياسية والعسكرية في العاصمة، ورغم احتكاكه بكبار القادة والمسؤولين السياسيين والعسكريين ومكانته المتميزة لديهم، فقد اختار مهنة الطب مجددا، حيث كان من مؤسسي كلية الطب بجامعة الجزائر، ويرتقي إلى رتبة بروفيسور في أمراض القلب، ليترأس مصلحة أمراض القلب بالمستشفى الجامعي مصطفى باشا الجامعي، ثم الجمعية الجزائرية لطب أمراض القلب.

كان خلال سنوات تواجده في مصطفى باشا محل مزار جحافل من المواطنين ومن كبار المسؤولين في الدولة، بمن في ذلك الرؤساء بومدين والشاذلي وعلي كافي، رحمهم الله.

لقد عمل على المساعدة بالرأي والاقتراح في تطوير المنظومة الصحية ببلادنا، وكان محل احترام وتقدير وزراء الصحة المتعاقبين على القطاع، وكانت مصلحته عبارة عن زاوية يؤمها المرضى والأصحاء من رجالات العلم والفكر والسياسة، وأتذكر أنني لأول مرة ألتقي فيها بوتفليقة، كان في مصلحته بأمراض القلب سنة 1989..

رفض منصب وزير وانحاز إلى الجمهورية

البروفيسور سي محمد التومي من طينة كبار الأمة، كان على علاقة خاصة مع المرحوم هواري بومدين، الذي كان يتولى استضافته في داره، ويطلب رأيه في كيفية معالجة كثير من القضايا الوطنية، كما يستقدمه عندما تزور والدة الرئيس ابنها، حيث يتولى المرحوم عبد المجيد علاهم مهمة تنظيم الزيارة وتناول الوجبات العالية مع بومدين وأمّه التي يتكفل بفحصها دوريا.

وفي خضم ذلك، اقترح عليه الرئيس بومدين منصبا وزاريا، إلا أنه اعتذر، مفضلا مئزر الطبيب عن بريق المناصب والمسؤولية السلبية.

كانت القيادات الثورية الوطنية، أمثال علي كافي، صالح بوبنيدر، لخضر بن طوبال، رابح بيطاط، وآخرين يترددون عليه في المصلحة والمنزل لتدارس أوضاع البلاد، حيث يتميز سي محمد بالحياد الإيجابي، واضعا المصلحة العليا فوق أي اعتبار، رافضا الانحياز إلى أي جهة أو تيار أيديولوجي، مهما كان، كما كان يمقت الجهوية مقتا شديدا ويلعن التيار الفرنكوبربريست، وهو أمازيغي قبائلي أصيل، معتبرا وحدة الجزائر خطا أحمر.

غداة إعلان التعددية السياسية، أقنعه رفاق الجهاد بالترشح في قائمة جبهة التحرير الوطني، انطلاقا من خلفيته الجهادية وإيمانه بأن التعددية يمكن أن تأتي بجديد مفيد للبلاد، ودخل الدور الثاني مع مرشح جبهة الإنقاذ في التشريعيات الملغاة نهاية 1991.

وأمام وقف المسار الانتخابي ومجيء المرحوم محمد بوضياف على رأس الدولة، ولملء الفراغ الدستوري المستحدث وحفاظا على الجمهورية، قبِل عضوية المجلس الاستشاري الذي أسسه بوضياف خلفا للمجلس الشعبي الوطني الذي انتهت عهدته بحسب الرواية الرسمية.

ومع ذلك، فقد كانت له انتقادات لاذعة لمظاهر الانحراف والفساد في كل المستويات وأمام كل المسؤولين كبارا كانوا أم صغارا، مركزيين أم محليين، من دون اكتراث بلومة لائم.

ارتباط وجداني ورياضي

البروفيسور سي محمد التومي- رحمه الله- مرتبط وجدانيا ورياضيا بمدينة المولد والصبا برج منايل في ولاية بومرداس، حيث لا يفوت فرصة أو مناسبة خلال الأعياد المختلفة الدينية أو الوطنية أو عطل نهاية الأسبوع إلا ويسجل حضوره بين أبناء المدينة، باعتباره من كبار المدينة وأعيانها ذات المكانة المتميزة والصوت المسموع بين السكان الذين يكنون له الاحترام والتقدير، ولا يرفضون له أمرا أو نصيحة، مهما كانت الظروف، من ذلك أن مدينة برج منايل عرفت اضطرابات خطيرة في مارس 1989، أسفرت عن السطو وحرق وتخريب العديد من الإدارات والمؤسسات العمومية، وعلى رأسها الدائرة، حيث اضطر رئيسها إلى المغادرة، تاركا وراءه خرابا كبيرا، وقد عاينت ذلك شخصيا، إذ تم تعييني خلفا للرئيس “المتخلّي عن منصبه”.

كانت الفوضى عارمة ولم تتمكن مصالح الأمن والسلطات الإدارية من التحكم في الأوضاع واحتوائها، فتم الاستنجاد بالبروفيسور التومي، الذي انتقل من العاصمة ودخل المدينة مترجّلا وسط الجموع الغاضبة الهائجة، فخاطبهم بلغة ابن المدينة، الحريص على المصلحة العليا للوطن والنظام العام والأمن العموميين، فما هي إلا دقائق حتى تفرق المتظاهرون المحتجون، ليعود الهدوء والأمن عبر مختلف الأحياء والشوارع بالمدينة، ويسجل له تاريخ برج منايل وقفة مشرفة لا تنسى.

ولأنه كان لاعبا سابقا في شباب برج منايل قبل الثورة، فقد ظل ولسنوات طويلة من أكبر المناصرين الداعمين للفريق، من خلال التدخل لدى المسؤولين في مختلف المستويات، لإسكان من هم في حاجة إلى السكن، من اللاعبين أو المؤطرين، وكذلك بذل جهودا لدعم خزينة الفريق بما أمكن لدى معارفه والولاة وأصحاب الأموال، وقد لاحظت حضوره في جل مقابلات الفريق، وكثيرا ما يتحمل عبء التنقل في خرجاته لتشجيع الشبان خارج الملعب المحلي، فكان بالفعل سندا قويا للفريق، لاسيما أيام رئيسه المرحوم علي تاحانوتي، الذي ارتقى به إلى القسم الوطني لسنوات.

تلك كلمات عابرة عن المرحوم البروفيسور محمد التومي، الطالب الجامعي، المجاهد الثوري، والبروفيسور الأكاديمي، والإنسان الوطني، بمناسبة وفاته، حيث ودعناه بمقبرة ابن عكنون بالعاصمة في صمت “مؤلم”، أمام غياب الجهات الرسمية، من وزارات المجاهدين والصحة والتعليم العالي، وحتى منظمة المجاهدين، ومن دون كلمة تأبينية رسمية، ولم يحضر تشييعه إلا ثلة من أصدقائه ومعارفه.. والمؤكد، أنه لو دُفن في برج منايل، لكانت المدينة قد خرجت عن بكرة أبيها.

فالوداع الوداع، الحاج سي محمد، وألف ألف رحمة على روحك الطاهرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • Aissa

    رحمه الله و اسكنه فسيح جناته .إنا لله و إنا إليه راجعون