-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كلّ أيامهم ولياليهم رمضان!

سلطان بركاني
  • 674
  • 0
كلّ أيامهم ولياليهم رمضان!

رأى أحد الشّباب في غزّة طفلة يظهر على محيّاها الأسى، فسألها عن سبب حزنها، فقالت: “بيوتنا دمّرت، ووضعنا صعب، ونحن قد أوينا إلى المدارس، ولا نجد فيها شيئا، إلا الزّعتر وحده، من دون خبز”. سألها: ألا يُحضر لكم والدكم الأكل؟! أجابت: “أبي استشهد، وهو في الجنّة بإذن الله”. سألها: ماذا ينقصكم؟ ردّت: “ينقصنا كلّ شيء. اشتقنا إلى الخبز الأبيض. نحن لا نجد ما نأكله”.

مشهد آخر يوثّقه أب من غزّة رزق مولودا جديدا، فرح به، لكنّه فرح امتزج بغصص الحسرة، حينما لم يجد ما يطعم به الوافد الجديد إلى واقع غزّة، فصور مقطعا لابنه وهو في حجره، وكتب قائلا: “حاولت جاهدا قبل ولادته أن أوفّر له علبة حليب أطفال، فلم أجد. قلت: لعلّ المستشفى توفّر له يوم الولادة علبة حليب، وهو ما لم يكن. حاولتْ أمّه إرضاعه بعد ولادته، فلم ينزل شيء من الحليب من أمّ تعاني نقصا حادا في التغذية.. ذهبت إلى كلّ مكان في المستشفى، فلم أجد شيئا. بعد 7 ساعات أعطتني إحدى النّساء حقنة فيها قليل من الحليب”.

هذه المشاهد التي وثّقت الكاميرات مئات بل آلافا منها، نراها على هواتفنا ونحن في بيوتنا الدافئة يشغل كثيرا منّا همّ مائدة رمضان، وهمّ أصناف الطّعام المرشّحة لاعتلائها، للانتقام من الجوع الذي يزعج بطوننا أمسية كلّ يوم من رمضان! هذا الجوع الذي يخيفنا ونحن الذين نكابد شيئا هيّنا من ألمه ساعات معدودات مختارين محتسبين الأجر، كان ولا يزال زائرا مقيما عند إخواننا في غزّة؛ فهم يصومون عن الطّعام مضطرين أياما وليالي غير آمنين، وليت الصوم كان مقتصرا على البالغين منهم، بل حتى صغارهم يضطرون للصّوم، بل قد فقد كثير منهم الوعي من شدّة الجوع، وأسلم عشرات منهم الأرواح إلى بارئها من ألم الجوع، وقبل أيام كتب الداعية الغزي “جهاد حلس” قائلا: “النّاس يتساقطون في شوارع غزّة من شدّة الجوع. إي والله إنّها حقيقة وليست مبالغة”.

يحدث هذا في بقعة مهمّة من أرجاء أمّة يتنافس حكّامها في امتلاك أفخم الفيلات في أرقى عواصم العالم وفي ركوب أحدث ما تنتجه شركات السيارات من موديلات!

ربّما ما عاد مجديا أن يخاطب الأئمّة والكتّاب حكّام الأمّة وأمراءها ليذكّروهم بسيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- عام الرمادة (18هـ)، حين أصاب النّاسَ قحط ومجاعة، حتّى هلكت المواشي، ومات النّاس، فكان أمير المؤمنين كواحد من رعيته، وجاع بجوعهم حتّى اسودّ لونه. وحين اشترى غلام له عكَّةٌ من سمنٍ بأربعين درهماً، وأتى بها عمر، قال الخليفة: “أغْليت فتصدَّق بها، فإِنِّي أكره أن آكل إِسرافًا! كيف يعنيني شأن الرَّعية إِذا لم يمسني ما مسَّهم؟”، وحين رأى في يد أحد أبنائه بطيخة صاح في وجهه: “بخ بخ، يا ابن أمير المؤمنين، تأكل الفاكهة وأمّة محمّد هزلى”! فخرج الصبيّ هاربا يبكي.

ربّما لن يكون مفيدا أن نذكّر ولاة أمور المسلمين بمثل هذه المواقف التي يراها كثير منهم شيء من أساطير الأوّلين، خاصّة وأنّ بعض هؤلاء منشغل بإنفاق الأموال في إرضاء اليهود الذين يعجبهم أن يروا بعض المسلمين يتمايلون طربا مع الألحان والأنغام، وهم يسمعون أنين إخوانهم في غزّة من الجوع! اليهود لا يفرحون بما يظهره بعض حكام وأمراء المسلمين من ترف وإنفاق للأموال في التوافه والملهيات، بقدر فرحهم وهم يرون المسلمين لا يشعر بعضهم بمأساة بعض، وهم يسمعون عن بعض المسلمين يموتون جوعا وبردا في غزّة، في الوقت الذي ينشغل فيه مسلمون آخرون بالجلد المنفوخ وجديد شركات الأطعمة ودور الأزياء والملابس!

صحيح أنّ أغلب المسلمين يتحرّقون لما يحصل لإخوانهم في غزّة، لكنّ أغلبهم كذلك لم تحملهم الصّور المؤلمة على تغيير نمط حياتهم، والكفّ عن إنفاق الأموال في الكماليات والتوافه، وعن تربية أبنائهم على أنّ مطالبهم أوامر يجب على الوالدين تنفيذها، وأنّ كلّ ما تراه أعينهم من أطعمة وحلويات وألعاب يجب أن تحوزه أيديهم!

لا يكفي المسلم وهو يرى أطفال غزّة يذرفون الدّموع لهفا للخبز الأبيض الذي طال غيابه عنهم، أن يُظهر التفاعل ويضغط على صور الإيموجيات، بل لا بدّ مع ذلك من تغيير لنمط الحياة، من حياة التوسع في الملاذ، إلى حياة الاكتفاء بالضروريات، وادّخار ما يمكن ادّخاره ليوم يمكن فيه للمسلم أن يساعد فيه إخوانه، فما لم يكن ممكنا اليوم، قد يكون ممكنا غدا، وإن طال أمد التعذّر، فإنفاق الأموال في ما يعود بالنفع في الآخرة أولى من التوسّع في الكماليات.

رمضان قادم، والأمّة كلّها تتفاءل خيرا بهذا الشّهر الذي يرتفع فيه منسوب الإيمان وتمتلئ المساجد، وترتفع فيه معنويات المرابطين في أرض الإسراء.. واليهود -فعلا- يخشون رمضان، لكن لعلّهم سيفرحون عندما تأتيهم الأخبار وتنقل لهم الصّور أنّ المسلمين في أرض الله الواسعة لم يغيّروا شيا من عاداتهم في رمضان، وأنّ الموائد لم تزل تمثّل الهمّ الأكبر لأكثرهم، وأنّ الأسواق لا تزال مكتظّة، بل وحتّى حاويات القمامة لا تزال تصبح مليئة بالخبز وبقايا الطّعام!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!