-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيـف نَنهــضُ بأريافنا؟

كيـف نَنهــضُ بأريافنا؟

تجمع كلمة: “الريف” على أرياف ورُيوف. وتعرّف قواميس اللغة الريف بأنه أرض فيها زرع وخصب، ويطلق على ما عدا المدن. وهذا يعني أن المجتمع الريفي هو مجتمع زراعي بالدرجة الأولى، ويختلف عن مجتمعات المدن الذي هجمت عليه المدنية من كل جانب، وغزته موجات التحضر غزوا يصعب الخلاص منه. والريف بما فيه من قرى ونجوع وكفور هو الأصل. ولولا إغراءات المدن البراقة ما كان أهل الأرياف يرحلون إليها في أوقات الهناء والرخاء.

يحفل الريف في كل الأوطان بمكانة عالية لا تضاهيها مكانة المدن؛ لأنه هو المنبت الأصل والجذع الأصيل. ولذا نجد أن الريف يحتل في قلوب الانجليز والألمان والفرنسيين والسوريين واللبنانيين والمصريين، وغيرهم، مكانة عظمى. فالقيم والأخلاق لا نلقاها إلا عند الريفيين المحافظين. ولا أظن أن من قال: (إن الريف هو حافظ هويات الأوطان قبل المدن) قد خالف الصواب.

لم يهتم المؤرخون بالأرياف، وإن مرّوا بها في رحلاتهم، فلم يغمزوها بذكر مخلد، ولم يخصوها بوصف مسهب كما فعلوا مع الحواضر الكبرى. وفي الوقت الذي نجد فيه أن اهتمام الكتاب قد ذهب إلى المدن بغزارة للتعريف بها، والبحث في نشأتها وتاريخها وتطورها، وذكر ما فيها من معالم وعلامات وصُوى كالمساجد والمدارس والمقاهي ودور السينما والمسارح والملاعب والحدائق والساحات الخضر والمباني الإدارية التي صنعت سمعتها، فإننا نلقى أن الريف هو ملهم الشعراء والفنانين المبدعين، وهو الذي يذكي أحاسيسهم ويهزها، ويوقد أشجانهم، ويحثهم على مناجاة جماله بأقلامهم وريشاتهم وألوانهم بما فيه من مناظر طبيعية خلابة وخضرة مسلبة للعين والقلب على حد سيان. وراحوا يتجاوبون مع هدوئه الذي تستلذه الأذن بعدما أزعجها صخب المدن وضوضاؤها المقلقة والمعكرة للأمزجة. وقد برعوا في وصف ما فيه من حسن في قسماته وفي ملامحه. وأبدعوا في محاكاة بهائه، وألفوا عنه أروع القصائد وأنجزوا أبهى اللوحات.

تعد بساطة العيش هي أولى علامات الحياة الريفية، فالريف خال من التعقيدات التي تستقبلها المدن يوميا. وأما حضور المرأة في العمل الريفي إلى جانب الرجل، فإنه يعادل أضعاف حضور زميلاتها في المدن؛ لأن الشغل اليومي في الريف شاق وموزع بين البيت ومحيطه والحقل والبستان، وساعاته طويلة.

عندما ينغلق كل واحد من سكان المدن في قبر هموم حياته الخاصة، ويسجن نفسه في بوتقتها المصمتة، وينقطع عن جواره، ولا يفر إلى مجابهة مشكلاته سوى على انفراد، فإن الحياة الاجتماعية في الريف تغرق في طابع جماعي متفاعل ومتناغم. فالريفيون يتعاونون فيما بينهم للوقوف أمام هجمات مصاعب الدنيا في السراء والضراء، وفي الأفراح والأتراح، وفي أزمنة الشدة وأوقات الرخاء. ولا يتأخرون في مواساة بعضهم بعضا بقلوب صادقة ومشاعر ندية رطبة.

تتسم البيوتات في الريف بالتباعد، وتظهر بناءاتها قزمة حين ترى من بعيد وكأنها ملتصقة بالأرض. وتبنى جدرانها وسقوفها بمواد محلية كالحجارة والتربة وجذوع الأشجار وسيقانها مما يجعلها غير متعبة لجيوب أصحابها. وتكون أبواب مداخلها متجهة صوب القبلة حتى ينعم سكانها بالدفء مع انبعاث أولى أشعة الشمس وسقوطها عليها. وتجهز زرائب وحظائر ومداجن الحيوانات وفناءات المسكن من النباتات الشوكية لكي تكون واقية لحيواناتهم من اللصوصية والافتراس. ومن أهم معالم أريافنا المسجد والمدرسة والمقبرة. ومن أجل التقليل من الاقتطاع من الأراضي الصالحة للزراعة تنجز كل المباني في القدم الأولى من سفح الجبل أو الهضبة القريبة. وأما المسالك فهي قليلة، ولا تصلح في الغالب إلا للراجلين، لأن كل شبر لا يستغل في الزراعة ينظر إليه من باب الخسارة.

لا توجد الحياة الصحية إلا في الأرياف بسبب أن السكان في الأرياف في حركة دائبة ونشاط متواصل في كل فصول السنة. والرجل الريفي والمرأة الريفية لا يجيدان سعادتهما إلا في العمل. ولهذا نجدهما لا يشكوان من الأمراض المزمنة العُضال والمستعصية التي وجدت مراقد جاهزة في أجسام سكان المدن، فنامت فيها وأرهقتها.

حافظت كثير من الدول على مظاهر أريافها، ولم تمد إليها يد التغيير إلا بالقدر الذي يتناسب معها، ولا يجردها من محاسنها. ونجد في أعمال المهندس المصري حسن فتحي (23 مارس 1900 ـ 30 نوفمبر 1989م) الملقب بـ:”مهندس الفقراء” مثالا عاليا في المحافظة على وجه وإرث الريف المصري. وهو من مناصري العمارة البيئية في الريف التي تستخدم مواد البناء المحلية لإبقاء ميزة )الانسجام متواصلة بين السكن والبيئة المحيطة به. وقد لاقت أفكاره قبولا واستحسانا عند مواطنية من سكان الأرياف الذين وجدوا في خياراته المحلية نظرة صائبة للمحافظة على تقاليد مساكنهم القديمة وتميزا يتشرب من الماضي، ولا يهمله حتى قالوا عنه: (كان حسن فتحي مهتما ببناء المجتمعات أكثر من تشييد المباني).

أرى أن تقديراتنا في النهوض بأريافها قد أخطأ الطريق، وانعطف إلى محاولة تمدينها كمن يحاول التقليل من الفروق المعمارية الملاحظة الكائنة بين المدينة والريف. ولم تأخذ هذه النظرة بعين الاعتبار الخصوصية الريفية التي إن استبدلت بأخرى ستكون على حساب تشويه وإفساد نمط المعمار ومظهره في الريف، وقلبه رأسا على عقب. فتشييد تجمعات سكانية بها مباني متجاورة ومتلاصقة ليس من الصفات المعروفة في الريف. وأما بناء العمارات للسكن في الأرياف فقد حولتها إلى مراقد كبيرة يأتيها من يطلبون الراحة في المساء ويغادرونها صباحا باكرا حتى يلتحق كل واحد منه بمكان عمله في المدينة. وقد أفضى هذا التوجه إلى إرباك العلاقات الاجتماعية بين سكانها الذين تقلصت بينهم علاقات التعارف وحلقات التلاقي. ولا يتبادلون المشورة اللازمة إلا قليلا وتحت دافع الضرورة القصوى. كما أنه جعل العلاقات بين أطفالهم مشوشة ومختلة، وحياتهم مهددة بالانحراف بسبب غياب المرافقة اليومية القريبة من الأولياء. ولعلنا سنريح الريف من هذا العناء، ونحفظ له كيانه وسمته ورونقه وجماله لو أمعنا التفكير في تشييد مدن صغيرة بعيدة عن الأرياف تكون أنوية ابتدائية لمدن أخرى أكبر منها في المستقبل، خاصة وأن وطننا لا يشكو من ضيق في المساحة.

يحفل الريف في كل الأوطان بمكانة عالية لا تضاهيها مكانة المدن؛ لأنه هو المنبت الأصل والجذع الأصيل. ولذا نجد أن الريف يحتل في قلوب الانجليز والألمان والفرنسيين والسوريين واللبنانيين والمصريين، وغيرهم، مكانة عظمى؛ فالقيم والأخلاق لا نلقاها إلا عند الريفيين المحافظين. ولا أظن أن من قال: (إن الريف هو حافظ هويات الأوطان قبل المدن) قد خالف الصواب.

تتوعد الريف، اليوم، مهددات كثيرة ببئس المصير، ويقع في أعلى قائمة هذه المهددات الجفاف الذي يحوّل الأراضي الخضر إلى صحاري قاحلة. والسبب هو الاستنزاف غير العقلاني للمياه السطحية حتى جعلها تنفد في أقصر وقت، أو لم تعد تلبي كل حاجات سكان الأرياف لسقي أراضيهم وإرواء قطعان حيواناتهم الزراعية. والحل لن يأتي إلا بحفر آبار ارتوازية عميقة تصل إلى مكامن الماء المعين الراقد في بواطن الأرض، لاستخراجه والاستفادة منه استفادة جماعية عادلة وفق نظام يلبي طلب كل محتاج. ولما كانت تكاليف مثل هذه المشاريع باهظة التكاليف، فعلى الدولة أن تتولى أمرها مع مساعدة رمزية يساهم بها الريفيون. وبذلك نخفف من الهجرة المكثفة نحو المدن؛ لأن الحياة لا يمكن أن تستمر في غياب الماء الذي يعد أساس الحياة وعنصرها الأول.

ونصادف في قائمة المهددات، أيضا، التلوث البيئي المنفر الذي يسبب مفاسد إيكولوجية مرعبة تتعب الأرض وكل الكائنات الحية التي تعيش عليها كرذاذ مداخن المحاجر ومصانع بعض المواد المصنعة كالإسمنت والبلاط والرمال. وتترك هذه المخلفات قبحا شنيعا وأثرا مذموما على الإنسان والحيوان والتربة. ولا ننسى هجوم الأكياس البلاستيكية على الأراضي الزراعية بأشكال فادحة، وتعطيلها إنبات البذور، وإفقارها الغطاء النباتي؛ لأنها تحجز عنها الماء والهواء. ويضاف إلى ذلك مخلفات البيوتات من مياه ونفايات وأوساخ التي لا يحسن التصرف معها لانعدام مجاري الصرف الصحي، وتركها هائمة على وجه الأرض. ويبعث تخمرها خاصة في الفترة التي تحتفظ فيها بنسبة عالية من الرطوبة روائح كريهة منفرة. ولا ننسى الحرائق وما تخلفه من خسائر فوادح تصل أحيانا إلى الإضرار بحياة الإنسان.

يحتاج الريف إلى كل ما يضيء وجهه، ويريح سكانه ويسعدهم، ويخفف عنهم أثقال المعاناة خاصة في فصل الشتاء. فإيصال الطاقة الكهربائية وغاز الوقود أمران ضروريان. ومن الظلم أن تستفيد المدن من الغاز الطبيعي وتحرم الأرياف منه. كما يحتاج إلى رعاية طبية بشرية وحيوانية. ولا بأس من التفكير في نظام تأميني لحيوانات سكان الأرياف ولحقولهم وبساتينهم، وتشجيعهم من خلال مساعدات مادية لائقة على توسيع إدخال الماكينات في خدمة الأرض، وعلى التزود بكل الوسائل التي تساعدهم على تخزين وحفظ منتجاتهم من الحبوب والفواكه والخضر والألبان ومشتقاتها لفترات زمنية طويلة. ولا شيء يمنع توفير وسائل الثقافة والترفيه وملء الفراغ لفئة الشباب الريفي.

لما كان المجتمع الريفي مجتمعا إنتاجيا، فإن النهضة الريفية ستظل نهضة ناقصة ومبتورة ما لم تدمج فيها المرأة الريفية بكل ما تملك من إرادة قوية وعبقرية فذة وتدبير محكم. ويكون إسهامها من خلال تشكيل جمعيات نسوية تشتغل المنخرطات فيها للاستفادة من موارد البيئة الجامدة بشكل أخص وتحويلها إلى مصنعات تقليدية تقبل التسويق. وبذلك تفتح نافذة إضافية على مورد مالي يصب في ميزانية أسرتها، وتقابل به نصيبا من مصاريفها.

إن حل مشكلات الأرياف هي خطوة ضرورية لتثبيت دعائم التنمية المستدامة التي لا ينبغي أن تظل وقفا محتكرا من طرف المناطق الحضرية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!