الرأي

كيف تُصبح دكتورا حقيقيا؟

منذ أكثر من عقد اعتمدت الجامعة الجزائرية نظام (L.M.D) في التدريس والتكوين والامتحان والمسابقات والبحث الفارغ والوهمي.. وجرّاء هذا التكوين السريع والضحل والسطحي نبتت أجيالٌ فارغة تحمل درجة الماستر وهي لم تقرأ عشرين كتابا في حياتها العلمية الجامعية، ولا تستطيع أن تسمي لك عشرة مؤلفات بمؤلفيها في تخصصها الدقيق، فضلا عن أن تعرض لك محتوياتها ومضامينها.

 والغريب في الأمر أن هذه الأجيال الفارغة لم تكتف بهذه المزية الممنوحة لها من قبل السلطة، بل صارت تطالب بالحصول على درجة الدكتوراه ولو بالفراغ، وهو الذي لمستُهُ خلال مشاركاتي العديدة في هذه المسابقات، وتدريسي للكثير من الدفعات الناجحة، ولعلني أنقل لكم مشهدا حصل معي في قسم الدكتوراه مع أول فائز في الدفعة، حين قدمت له ولزملائه في أول حصة تكوينية ألتقي بهم خلالها أوراقا وطلبت منهم أن يكتبوا الآتي: (معلوماتهم وبياناتهم الشخصية ومسارهم الجامعي وأعمارهم، وجملة من الأسئلة على رأسها: ماذا تحفظ من القرآن الكريم؟ واذكر بعدد سنين عمرك اسم كتابٍ ومؤلفه كنتَ قد قرأته، ثم قَسِّمِ عدد ما قرأته على سنك وأخرج نسبة ومعدل ما قرأت؟، وطبعا وغيرها من الأسئلة..)، وهناك احمرّ واصفرّ واخضرّ هذا الفتى الأشقر المبسوط الجسم والكث اللحية والكميش القميص.. وقال لي بحدّة وغضب على اعتبار أنه بلغ من العلم عتيا: وماذا –دون عبارة أستاذ- تريد من وراء هذه الأسئلة؟ فقلت له ببراءة ومكر: أحب أن أعرف التربة التي سأحرث وسأبذر فيها فقط.

ولكم كانت دهشتي كبيرة وعظيمة في متقدم الدفعة عندما وجدناه خلواً من كتاب الله عدا سور قصار يستر عيبه بها، وأن المسكين لم يتعدَّ في ثقافته تلك المطويات الدموية الحاقدة البالية المهترئة منذ عصور التخلف الوسطى.. التي يوزعها شيوخ الفتنة السلفيين الحاقدين على الأمة إلى اليوم، ويتلقفها هؤلاء المغفلون على أنها العلمُ الشرعي الذي سيُنقذ الأمة من تخلفها.. والغريب أنه بعد أن قسَّم تلك المطويات على سنه وجدها تعادل ثُلث عمره الفارغ، وهو الآن يُعدّ مذكرة دكتوراه في نقطة من النقاط المقتولة بحثا، والتي لا ولن تفيد الأمة والجامعة مطلقا، وبعد سنوات سيتخرّج ويقول أنا دكتور وأبحث عن وظيفة محترمة وعلى الدولة أن توظفني و.. و..؟!

وانطلاقا من هذه العيّنة التعيسة التي تشابهها آلاف العينات البائسة نطرح على الوزارة الوصية إعادة التفكير ألف مرة في هذه المجزرة الحقيقية والمحرقة المبيرة للعلوم الشرعية خاصة. وننطلق في رسم المعالم الكبرى لكيفية وطريقة الارتقاء إلى درجة الدكتوراه الحقيقية، حيث يتدرج الباحث وفق التسلسل العلمي والمعرفي والمنهجي والتكويني والأخلاقي والثقافي والأدبي.. في جامعته تلك، وفق المراحل التكوينية الآتية:

1– مرحلة التحصيل الجامعي الأولي (40-100 كتاب):

ويكون ذلك منذ أن يلتحق الطالب بالجامعة، ويتعرّف على تقاليدها وأعرافها وضوابطها وقوانينها، ويدرس فيها سنواته الأربع، ويحصل على المقرّر الجامعي الرسمي، إذ يغطي كل مساق (مقياس) علمي كتاب سبق وأن أعدّته لجنة تأليف، أو كتبه أستاذ متميز في التخصص وراجعته لجنة متخصصة، فيكون مجموع ما درسه من كتب مجموعه مقررة في السنة عشرة كتب تخصصية، يعضدها قراءاتٌ تخصُّصية وثقافية وأدبية أخرى، فيتخرج الطالب بعد أربع سنوات وقد قرأ أربعين كتابا تخصصيا، فضلا عن قراءاته الأخرى، وحضوره الملتقيات والندوات والأيام الدراسية وعروض ومعارض الكتب والالتقاء بالأدباء والكتّاب والباحثين المحليين والزائرين، ممن يعرضون كتبهم ومؤلفاتهم وإصداراتهم الجديدة.. وفي هذه المرحلة يكون الطالب قد قرأ علمه التخصصي من أربعين كتابا أو يزيد عنهم بقليل أو كثير حسب رغبة وإمكانات وتطلعات الطالب ونظرته إلى مستقبله. ويكون قد حصَّلَ على أصول العلم ومنهجه ومصطلحاته الخاصة به، ما يؤهّله ليكون مشروع باحث مستقبلي إن لم يُرِدْ التوجه إلى الحياة العملية، التي سيدخلها بكل اقتدار وتمكن، فيفيد وينفع أمته ووطنه.

2– مرحلة الدراسات العليا (200 كتاب):

وتأتي مرحلة الدخول إلى مسابقة الدراسات العليا أو المعمَّـقة، إذ يُختار فيها أفضلُ الطلاب وأنجبُهم وأقدرُهم من كافة أنحاء الوطن دون تمييز أو محاباة أو غيرها من أشكال التحيّز، وذلك عبر الامتحانات الكتابية والشفهية النزيهة، والتي يضطلع بها أفضل وأقدر وأصدق وأخلص الكفاءات الأكاديمية الجامعية، الذين يُشكلون الضمانة العلمية والأخلاقية، ولا يقدِّسون سوى الحقيقة، ولا يعملون ولا يهدفون ولا يتوسَّلون سوى الحق والحرية الأكاديمية المقدسة. ومن ثمة يتم الالتحاق بالدراسات العليا عن جدارة واقتدار، وهي التي ستؤهِّله لقراءة قرابة مائتي كتاب تخصصي بطرق ومناهج وكيفيات وأدبيات مغايرة عن مرحلة التلقي الجامعي الأولي، فيتعمق في الفهم والتحليل والمناقشة والمذاكرة، وتشكيل الإشكالات وتعميق الفروض، وتأصيل القراءات والمقاربات والإجابات.. ونحوها من سائر عمليات التأصيل والتأسيس والتكوين المعرفي والمنهجي والمصطلحي، والتدرب على كتابة المقالات التي تُبرزُ مواهب وكفاءات الطالب الباحث. ويتخرج الطالب بعد دراسته المعمقة والتي يجب أن تدوم سنتين، وقد قرأ خلالهما قرابة مائتي كتاب أو أكثر.

3– مرحلة إنجاز بحث الماجستير (400 كتاب):

وتأتي مرحلة إعداد بحث الماجستير الذي يُنتقى عنوانُه من بين خيرة عقول أهل التخصص والبارزين فيه، وتُراعى فيه مدى خدمته لواقعه ومجتمعه من جهة، ومدى خدمته لمسيرة التراكمات المعرفية من جهة ثانية، وماذا سيقدِّم هذا البحث من جديد للأمة والوطن والجامعة والباحث؟ وهل سيرتقي بها أم سيكون عالة عليها كحال الفئام العالة عليها اليوم؟

ويبحث الطالب السوي طيلة ثلاث سنوات بحثا تخصصيا متواصلا، تحت إشراف أستاذ أكاديمي باحث متخصص ومتمرس يعرف قيمة وأصالة ومكانة ودور البحث العلمي، وفي هذه المرحلة البحثية المتميزة يقرأ الطالب كل أسبوع أربعة كتب، فالكتاب الذي تبلغ عدد صفحاته خمسمائة صفحة يُقرأ في ثلاثة أيام على أكثر تقدير، بمعدل مائتي كلمة في الدقيقة للمُتَمَهِّرِ في فن القراءة، فيقرأ في الساعة أربعين صفحة علمية، وفي اليوم يقرأ بمعدل أربع ساعات، أي ما مجموعه مائة وستون صفحة، هذا إن لم يقرأ في اليوم سبع أو ثمان ساعات كما كنا نفعل في تلك المرحلة سنوات 1989-1992م، أي ما مجموعه مائتين وثمانين صفحة، أي بمعدل كتاب أو نصف كتاب، وبعد هذا الجهد العلمي والمنهجي والمعرفي والأدبي والثقافي المُضْني والممتع معا، يقدم بحثه مذيلا بقائمة طويلة من كتب التخصص، حيث سيُضيف بحثه شيئا ما يُذكر للمعرفة بعد هذه القراءات، وإلاّ فما فائدة النقل واللصق والسرقة والتعدي على جهود وإنتاج الآخرين كما هو حاصلٌ في جامعاتنا المسكينة والفقيرة، التي تبحث عن التصنيف بالضياع والفراغ والضائعين والفاسدين؟

4- مرحلة إنجاز بحث الدكتوراه (600-800 كتاب):

وتأتي هذه المرحلة تتويجا لمرحلة البحث في مرحلة ودرجة الماجستير، حيث التعمق والغوص والتحليل والبحث عن الجذور والأسباب البعيدة للمسائل، وحيث التوسع والشمولية والإلمام والإحاطة الكلية بالموضوع المبحوث، التي تدفع الطالبَ الباحث إلى توثيق قائمة مراجعه ومصادره ووثائقه الحقيقية والتي تقارب الألف مصدر ومرجع، وفي هذه المرحلة يصير الطالبُ الباحث صاحبَ رؤية أو نظرية تُعرف به، وتنسب له. وقد وَثَّقْتُ لمجموعة من الباحثين الجادين الذين جمعتني بهم أخوّة وَرَحِمُ العلم لسنين البحث العلمي الممتدة من مرحلة الدراسات العليا فالماجستير فالدكتوراه 1987-1999م أنهم أنجزوا أبحاثهم في مرحلة الدكتوراه بقائمة مصادر ومراجع قاربت الثمانمائة مصدر ومرجع.

ويقضي الطالب الباحث في مرحلة الدكتوراه خمس سنين علمية حقيقية وفاعلة، يقرأ خلالها ألف كتاب علمي تخصصي، وتغدو حياتُه كلها بحثا وتحليلا ونظرا وقراءة وتلخيصا وكتابة، فينام ويقوم ويحلم ويأكل ويشرب ويستحمّ ويسافر ويصلي ويصوم ويذكر ربه ويفكر في شريكة العمر وينتقد الفساد ويحمل على المفسدين ويتألم لهموم أمته ووطنه ويفرح لفرحهم ويحزن لأحزانهم.. وهو في حالة تفكّر واستصحاب دائم للبحث.

ويتأهَّـل للدخول إلى الجامعة بثقة واقتدار وثبات، وهو قد استصحب أربع سنين من البحث والدراسة القاعدية في تعليمه الجامعي الأوّلي قرأ خلالها مائة كتاب، عضدتهم سنتان من الدراسات العليا قرأ خلالها مائتي كتاب، ثم رفعت من أدائه وكفاءته مرحلةُ إعدادِ درجة الماجستير التي قرأ فيها أربعمائة كتاب، فضلا على تمهره في فنيات كتابة البحث العلمي، وختم ذلك بمرحلة إعداد الدكتوراه التي قرأ فيها ألف كتاب تقريبا، وتخرج باحثا استوى على ألف وخمسمائة كتاب في تخصصه العلمي الدقيق، ليدخل العمل في الجامعة، وليبدأ مرحلة جديدة، تؤهّله وجامعتَه للبحث عن التصنيف العالمي.

5 – مرحلة الالتحاق للتدريس بالجامعة (1500 كتاب.. ما لانهاية):

وهي مرحلة بداية تقديم الثمار الأولية من مراحل التكوين المختلفة واستثمار واستغلال الجهود السالفة، بعد قراءته لألف وخمسمائة كتاب وتأليف رسالتين علميتين والعديد من المقالات والأبحاث الأولية، وهي مرحلة طبيعية وتلقائية ومنطقية ونتيجة لسنين البحث الطويلة، وفيها يدخل الأستاذ الباحث مرحلة التأليف التخصصي للمساقات (المقاييس) العلمية التي يُكلَّف بتدريسها، والتي تدفعه إلى قراءة العشرات بل المئات من الكتب في التخصص، وتُثمر كلُّ سنةٍ علمية بحثية جادة يضطلع التدريس بها تأليفَ كتابٍ تخصصي في تلك المادة التخصصية، فيفهم ويُلخِّص ويهضم مؤلفات سابقيه والبارزين في ذلك التخصص، ثم يحاول في البداية تبني والتزام منهج ومضمون ومحتوى ومصطلحات بعض المؤلفات التخصصية ذات الصلة الوطيدة بالمساقات التي كُلف بتدريسها، ثم يسعى لتكوين رؤية ورأي له في بعض المسائل العلمية والمنهجية، بدءاً بتحليل ونقد وتقييم بعض المسائل ووجهات النظر، وإبداء الرأي المغاير فيها، وتقديم بعض الأفكار الجديدة في المسألة، وهكذا يُعِدّ نفسه لتقديم أول كتاب تخصصي له، يحمل الخصوصية الجزائرية، وهكذا طيلة حياته العلمية الزاهرة، قراءة مائة كتاب في السنة على أقل تقدير، وتأليف كتابٍ تخصصي، وكتابة أربعة أبحاث علمية تخصصية في مجاله والمشاركة بها في الملتقيات العلمية الجامعية الوطنية والدولية.

ويظل يسير على هذا المنوال، قراءة وكتابة وتأليفا وحضورا وسماعا ومشاركة.. يحدوه وجودُه الرسالي وهدفه الذي خطط له منذ بداية حياته العلمية وهو شابٌّ في العشرين من العمر، فما يصل السبعين إلَّا وقد قرأ أكثر من عشرة آلاف (10000) كتاب، وألَّفَ وكتب من أربعين إلى ستين كتابا، وكتب مئات المقالات والأبحاث والدراسات القصيرة، وحضر أكثر من ثلاثمائة ملتقى ومؤتمر وندوة ويوم دراسي محلي وجهوي ووطني وعربي وإسلامي ودولي..

وبهذه العطاءات الشهودية، وبهذه المسيرة العلمية الحافلة، يوقع حضوره الفاعل، ويؤدي بعض ما افترضه ربُّه عليه، ويكافئ أمَّـتَه ووطنه ودولته التي لم تبخل عليه. وهذا هو منهج جيل أساتذتنا الأوائل، وسرنا نحن على منوالهم، وبجيلهم عُرفت الجامعة الجزائرية وصُنفت، فإن كنتم تريدون تصنيفها فأبعدوا عنها الفساد والفاسدين والمفسدين، وأبعدوا عنها العبث والعابثين، وما ذلك عليكم بعسير.. وهكذا تصير دكتورا حقيقيا يا عزيزي الطالب.

مقالات ذات صلة