-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف يكون الدكتور دكتورا حقيقيا؟

خير الدين هني
  • 711
  • 2
كيف يكون الدكتور دكتورا حقيقيا؟

لفت انتباهي مقالٌ للدكتور أحمد محمود عيساوي، بعنوان (كيف تصبح دكتورا حقيقيا؟)، نشر على جريدة “الشروق اليومي” بتاريخ: 3/4/2021، قيّم فيه طرق التكوين في المعاهد العليا والجامعات، موازنا بين نظامي التعليم الكلاسيكي و”أل أم دي”، وقد نوَّه بالنظام الكلاسيكي الذي كان سائدا، وكيف أصبح الدكتور اليوم في النظام الجديد، لا يقدر على تدوين قائمة بعناوين عشرين كتابا قرأها باسم مؤلفيها، وبعد  تشخيصه للوضعية المأساوية التي وصل إليها وضع هذه الشهادة الأكاديمية، طرح خطة بديلة لما يجب أن يكون عليه البحث في الدراسات المعمقة، فقدم تصورا دقيقا لما يجب أن يكون عليه طالب الماجستير والدكتوراه، عند نهاية مرحلة إعداد أطروحة الماجستير والدكتوراه، إذ يمكن لطالب الدكتوراه أن يكون قد استوفى قراءة زهاء 1500 كتاب في تخصُّصه.

والأستاذ بهذه الإفاضة في تشخيص ما وصل إليه وضع التعليم في المؤسسات التعليمية العليا، يكون قد وضع الأصبع على الجرح؛ إذ شخَّص هذه الوضعية المأساوية التي وصلت إليها الجامعة. ومع ذلك، فإن تشخيص الأستاذ له ما يبرّره، إلا في مسألة عدد كتب التخصص التي اقترح مطالعتها عند إعداد رسالتي الماجستير والدكتوراه أو أثناء التدريس، فالعدد المقترح فيه شيءٌ من التكثُّر على الطالب، لاسيما ونحن اليوم في زمن كثُرت فيه المشاغل والوسائط التكنولوجية المتعددة.

عبقرية الذكاء التكنولوجي

الوسائط التكنولوجية الذكية، وفرت الكثير من الجهود للطالب، أو الباحث أو الدارس في الوصول إلى أدقِّ التفاصيل في العلوم والمعارف،  ولكن -مع ذلك- فإنّ واجب التعمّق في التخصص والتجذّر فيه عند طالب الماجستير والدكتوراه، يستدعي تكثيف الجهود في مطالعة مختلف المصادر ومناهج البحث، لأن الطالب إذا اقتصرت بحوثه ومطالعاته على كتب التخصص، فإنه يكون حبيس معارف تخصصه، وإذا ما عُرضت له مواقف في غير تخصّصه بدا محرَجا، وكأنه متعلمٌ عاد لا يقدر على تشخيص المسائل وتحليل وقائعها بمناهج علمية، تقتضيها أسس التحليل والاستدلال والاستنباط. وتكنولوجيا الوسائط الذكية – برغم قتلها لحركة الذاكرة وجعلها جامدة راكدة- إلا أنها استعيض بها عن طرائق الحفظ التقليدية، لأنها أصبحت تمثل مصادر فعَّالة في تنشيط حركة البحث والتثقيف الذاتي.

مساوئ النظريات القديمة

كانت المدارس القديمة تركّز اهتمامها على تقنية الحفظ والاسترجاع، لكونهما هدفين تعليميين ملحين، كيما تجهز الذاكرة لإسعاف الطالب أو الأستاذ بالمعرفة المطلوبة عند الضرورة في مناظرة أو محاضرة، من أجل ذلك كانت هذه المدارس تُرهق طلبة العلم برتابة التلقي والحفظ  والاسترجاع، من دون تعمّق في الفهم والتفكير.

وظل الطالب طوال مراحل تعلمه، يقضي أوقات تعلمه في الاستماع والسؤال والحفظ وترديد أقوال العلماء، فكانت هذه المدرسة – بمناهجها الصورية- قد أهملت القدرات العقلية العليا عند طلبة العلم، كالتحليل والتركيب والموازنة والمقارنة والتعميم والتقويم والاستنتاج وإصدار الأحكام، ولذلك نجد أصحاب المدرسة القديمة ممن بقوا متأثرين بها من أساتذة وباحثين، لا يروق لهم الحديث ولا يستلذونه إلا إذا استأنسوا بأقوال الأقدمين وآرائهم، ممن يرون فيهم الكمال المطلق في معرفة الحقيقة.

 ولهذا نجد أبحاث هؤلاء الأساتذة وكتاباتهم، ليست إلا تصويرا لمعان قديمة تكاد تكون صورة طبق الأصل، لأفكار مستنسخة عمن سبق باعتماد مناهج الجمع والترتيب والتوثيق، من غير تحليل ولا تعليل ولا تعميم ولا استنتاج، ولا رأي مستقل، ولاسيما عند طبقة من الأساتذة المتأثرين بقداسة كل قديم.

ونحن لا ندعو إلى إلغاء نظرية الحفظ مطلقا، كما يدعو إلى ذلك الكثير من مربي اليوم، ممن اختلط عليهم حابل الأمور بنابلها، حينما درسوا شيئا من علوم التربية الحديثة، ورأوا تحامل بعض المنتسبين إليها على نظرية الحفظ من غير تحفظ ولا احتياط، فحسبوا أن نظريات التعلّم الحديثة تلغي الحفظ إلغاءً كاملا، وإنما الأمر في ذلك هو الاعتدال في حفظ بعض النظريات والقوانين والقواعد العامة، والشواهد الشعرية والحِكم والأقوال المأثورة، وآيات الأحكام وأحاديث العبادات والمناسك وآداب الأخلاق العامة، حينما يكون طالب العلم مندمجا في صفوف التعليم النظامية، فذلك مطلوب كيما يشحذ قدرات الذاكرة على الحفظ والتكديس والتراكم المنظمين، ويمرِّنها على الانتقاء والاسترجاع حسب الحاجة عند اللزوم.

أما إرهاق الفكر والذاكرة في قراءة المتون والحواشي، والتعليقات والدواوين وحفظها والتظاهر بها أمام الناس للتفاخر، من غير تدريبٍ للقدرات الذهنية العليا على التعمُّق في القراءة والنظر واستنتاج الأفكار المبدِعة، وتحليل المشكلات والوقوف على أثرها وتعليل أسبابها وربط مقدماتها بنواتجها لاستخلاص العبر والحكم، فلا فائدة ترجى منها في عالم سيطرت فيه الوسائط التكنولوجية الذكية.

الكفاءة العرضية ميزة أصحاب الشهادات العليا

 وأصحاب الشهادات العليا، ممن تدرّجوا في الدراسات المعمَّقة، ليس مطلوبا منهم التكثّر من قراءة المصادر الورقية التقليدية صفحة صفحة وكلمة كلمة، لأن ذلك يستغرق منهم أوقاتا طويلة، وإنما المطلوب منهم أن يطلعوا على الأهمّ مما جاء في عيون الكتب النفيسة، ومعرفة مؤلفيها ومناهجها وأهداف كتابتها وثبت مراجعها، والموازنة بين المتشابه منها والمخالف، للوقوف على فارق الإضافة التي ابتكرها كل كاتب أو مؤلف أو مبدع، ويخصصون أوقاتا كافية من فراغهم  للبحث والكتابة والنقد، لأن الكتابة والنقد هما من يبني الكفاءة العرضية ذات المرمى العمودي والأفقي، وينمِّي القدرات الذهنية العليا، التي تعتبر جوهر الإبداعية الفكرية والخيالية والتصويرية، والنقدية عند الأساتذة المبرزين والأكاديميين بخاصة.

 والكفاءة العرضية لا تبرز مؤشراتها، إلا في التطبيقات الكتابية والبحثية والنقدية، لأنها عملية تدمج بين مختلف العلوم (بيان قدرة التحكم في: اللغة، النحو، الصرف، الإملاء، البلاغة، المنهجية، التحليل، التركيب، المقارنة، التعميم، التقويم، الاستنتاج، استخلاص الأحكام بالرأي الشخصي)، فالكفاءة العرضية، هي المؤشر المعياري الذي يُبرز المستوى الحقيقي والعميق للأستاذ الدكتور، فتؤشر على صفاء فكره، وعميق فهمه، وفيض تحليله، ونصاعة معانيه، وإشراق أفكاره، وجلاء استنتاجاته، وبلاغة حكمه، ومآثر أقواله ونصائحه.. وكثرةُ القراءة من دون كتابةٍ وبحث ونقد، لا تُبرز مكانة الأستاذ الدكتور الحقيقية، ولا تدفق أفكاره وخصوبة خياله، وعمق تصويره، ولا براعة تحكّمه في الخلق والإبداع والابتكار.

وكل ما يبرز من مهارة في تكثيف القراءة، هو القدرة الفائقة على عرض ما تكدَّس في الذهن، من المقولات والمآثر والسرديات وترديد أقوال الغير، وحينها يكون الدكتور مقلدا محاكيا.

 والأستاذ الدكتور، كما أنه مطلوبٌ منه أن يكون مدرسة حرة في الفكر والرأي، فهو مطلوبٌ منه أيضا التوسّع والتبحّر في الحقول المعرفية ذات الارتباط بالتخصّص، مثلما دعا إليه صاحب المقال.

 وليس ذلك فحسب، بل يتوجب عليه أن يكون ملمًّا -كفاية- بأصناف مختلفة من حقول العلوم والمعرفة، ويدرِّب نفسه على المحاضرة والكتابة، كي يصقل مواهبه وخبراته في عالم الكتابة والنقد، وألا يكون من المولعين بمناهج المدرسة القديمة، التي تُعنى بتراكم المعرفة السردية وتكديسها في الذهن، وترديد ما قاله الأوّلون في أقوالهم وكتاباتهم ومآثرهم التي تركوها، لأن ذلك يقلل من قيمة الشهادة التي يحملها، ولا يستطيع  تقديم أي إضافة جديدة، أو لمسة إبداعية في الابتكار.

معادلة الشهادات العليا بالإجازات القديمة

وأختم هذا المقال بإيراد ما اطلعتُ عليه  في دراسة مقارنة لأحد الأساتذة المبرزين، عادل فيها درجات الشهادات العليا في تاريخنا المعاصر، بدرجات الإجازات العلمية عند علماء العلوم الشرعية في العهود القديمة، وتوصَّل إلى أن كل شهادة جامعية يلزمها جديدٌ مبتكر، يتناسب مع رتبة الشهادة ومكانتها الاعتبارية، فالجديد في رسالة طالب شهادة الليسانس، هو إبراز قدراته في اختيار موضوع رسالته، والمراجع المناسبة لبحثه، وجودة استعمال مضامينها في ثنايا رسالته، والإحالة عليها في الهوامش السفلية بترقيم تسلسلي واضح، وترتيب ثبت المراجع حسب أهميتها في خاتمة الرسالة.

أما الجديد في رسالة طالب الماجيستير، فيكون في قدرته على النقد والترجيح بين أقوال العلماء، وهو في درجته العلمية يكافئ العالمَ المجتهد داخل المدرسة الفقهية، كابن الفرات في المذهب المالكي، أما الأستاذ الدكتور، فالجديد في بحثه أن يكون صاحب رأي مستقلّ في أفكاره، وتحليله واستنتاجه وحكمه القيمي على الأشياء، فهو بهذا التصوُّر يمثِّل مدرسة فكرية مستقلة في الفكر والرأي والإبداع. وهو يكافئ العلماءَ المجتهدين، كمالك والشافعي وغيرهما.

 وليس معقولا أن يكون دكتورٌ في رتبة أستاذ، مقلدا لأقوال الآخرين، ولا تُشفى غلّته إلا حينما يورِد أقوال العلماء والمفكرين، ليوهم الناس بأنه صاحبُ اطّلاع واسع، وهو لا يعلم بأنه حط من جلال قدره كأستاذٍ كبير،  لأن الإكثار من ترديد مقولات الغير هو صفةٌ ملازمة للأساتذة المقلدين، ومن اتَّبع سبلهم ومناهجهم كطلبة العلم غير الناضجة خبراتهم، أما العالم الدكتور، فلا يستشهد بكلام غيره إلا عند اللزوم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • Ahmed

    نعم, المطالبة بقراءة 1500 كتاب فيه مبالغة كبيرة جدا واهمال لتدريب ملكة التفكير المنهجي العلمي المستقل , لكن ايضا الاعتماد على الوسائط التكنواوجية الحديثة بشكلها الحالي لا يمكنها ان تصنع استاذا باحثا , بل مثقفا عاما سطحيا ,حيث تشير الابحاث ان الكتب الورقية تعين على التركيز اكثر من هاته الوسائط اللتي تثير تشويش الذهن بشكلها الحالي , رغم صناعة بعض البرامج اللتي تشبه الكتب الورقية , لكن هيهات , لم يتمكنو بعد. ولمزيد عن هذا الموضوع هناك كتاب The Shallows: What the Internet is Doing to Our Brains, by Nicholas G. Carr السطحيين : ماذا يفعل الانترنت بعقولنا

  • عبد الكريم متبعي

    أيـن النصيب مـن الكـلام عن الدكاترة في التخصصات العلوم الدقيقة و الإعلام الآلـي ،أضـن أن التحليل يختلـف و لا داعي لقراءة الكثير من الكتب بل التحكم في الكثير من البرامج (logiciels) و تطويرها