-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيميائيون محاصرون!

كيميائيون محاصرون!
أرشيف

تُعدّ الكيمياء من النشاطات العلمية الأقدم في التاريخ إذ كان، ولا يزال، الإنسان يحاول البحث في طبيعة المادة التي تحيط به أو يشاهدها بالعين المجردة أو عبر المجاهير والمقاريب؛ وذلك بدافع الفضول أحيانا… وأحيانا أخرى، بدافع تطويعها إلى ما يخدم الإنسان. فعلم الكيمياء علم يُعنى بطبيعة المادة ومكوناتها، وكذلك بكيفيات تفاعل المواد مع بعضها بعضًا. وهكذا تمت الكثير من الاكتشافات عبر العصور في هذا المجال، وساعدت على تطوير العلوم والتكنولوجيات المختلفة. ومن ثمّ، فوظيفة المنشغل بالكيمياء هي معرفة أكبر قدر ممكن من المعلومات عن طبيعة المادة الموجودة في الكون.

وقد أختلف المؤرخون حول مكان نشأة الكيمياء، وهم يرجعون بداياتها إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وساهمت في تطويرها جميع الحضارات، ومنها الحضارة العربية الإسلامية التي جعلت من هذا النشاط،  منذ القرن الثالث هجري (ق. العاشر الميلادي)، علمًا قائمًا بذاته أكثر من يستغله الصيادلة. كما قطعت الكيمياء بعد ذلك أشواطا مذهلة في أوروبا والغرب… ولازلت تحقق الكثير إلى يومنا هذا. فهل يجوز لنا بعد كل ذلك الاستهانة بالكيمياء والكيميائيين؟!

ثغرات جائزة نوبل

كان الكيميائي السويدي ألفرد نوبل Alfred Nobel (1833-1896)، مؤسس الجائزة التي تحمل اسمه، قد ترك وراءه إرثا يقدر بنحو 186 مليون دولار. وجنى هذه التركة، بوجه خاص، من صناعته للأسلحة وابتكاره للمتفجرات (الديناميت) وبراءت اختارعاته التي فاقت 300 اختراع. وقد أوصى عند وفاته بأن يخصص هذا المبلغ لجوائز خمس : في الطب والكيمياء والفيزياء والأدب والسلام.

ورُوِيت حول اختيار هذه الفروع العلمية دون الأخرى روايات كثيرة. فعلى سبيل المثال، تساءل البعض حول سبب عدم إدراج الرياضيات ضمن هذه القائمة؟ والتفسير الشائع أنه راجع إلى قصة غرامية لا أساس لها من الصحة رغم سعة انتشارها، وكان فنّدها بالدليل القاطع أشهر رياضياتي السويد المعاصرين لارس غاردين Lars Garding (1919-2014) ولارس هورمندر Lars Hormander (1931-2012) وذلك في مقال أصدراه عام 1985. ويبدو أن السبب، في واقع الأمر، يكمن في أن ألفرد نوبل كان لا تهمّه العلوم النظرية، غير أنه لم يفصح عن المبرر بشكل صريح.

وقد استدرك الرياضياتيون الأمر عام 1924 حيث أسسوا جائزة باسم “ميدالية فيلدز” Fields شروط الترشح إليها أكثر صرامة من جائزة نوبل، إذ لا يمكن مثلا التقدّم إليها بعد بلوغ سنّ الأربعين. وهذا ما جعل النرويجيين يستدركون الثغرة مرة أخرى عام 2001 بإطلاق جائزة في الرياضيات دون سواها، تحمل اسم أشهر رياضياتي نرويجي، وهو نيلز آبل Niels Abel (1802-1829) الذي أبلى في الرياضيات البلاء الحسن، رغم أنه لم يُعَمّر سوى 27 سنة … ومازلت نظرياته تُدرّس في الجامعات إلى اليوم.

كما لا نجد المعلوماتية في القائمة، لكن هذا الإغفال يبدو واضح السبب : ذلك أن عهد نوبل (نهاية القرن التاسع عشر) لم يكن يعرف هذا الفرع العلمي حيث ظهر قبيل منتصف القرن العشرين. وقد تدارك المعلوماتيون بدورهم هذا التقصير في حق اختصاصهم وأسسوا عام 1966 جائزة تضاهي جائزة نوبل في المعلوماتية دون غيرها، وهي تحمل اسم البريطاني آلن تورينغ Alan Turing (1912-1954)، الذي يٌعتَبر الأب المؤسس للمعلوماتية. كما غفل نوبل أيضا عن العلوم الاقتصادية. ولذا بادر بنك السويد عام 1968 بإنشاء جائزة تعرف الآن بـ”جائزة نوبل في الاقتصاد”.

ومع كل ذلك، ربما تكون أكبر ثغرة في جائزة نوبل عدم منحها لعلماء الأحياء (البيولوجيين). فإذا كان نوبل في وقته يربط بعض فروع البيولوجيا بالطب (والفيزيولوجيا) فإنه أعلن بصراحة بأنه لا يرغب في أن تشمل جائزته علم النبات وعلم الحيوان!

توغّل البيولوجيا في الكيمياء

ومن الملاحظ في العقود الأخيرة أن البيولوجيا -بدراساتها للمورّثات والجُزَيْئات- اكتسحت علم الكيمياء وصارت منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي المادة الدسمة في الكيمياء. ونظرا لأهمية الموضوع للبشرية والمعمورة، ونظرًا لمتطلبات تقدم الطب والصيدلة أصبح علماء هذه الفروع البيولوجية يفوزون بجائزة نوبل في الكيمياء بدل كبار الكيمائيين!

والظاهر أن هذا الوضع بدأ يزعج كثيرا الكيميائيين، ولا حيلة لديهم للدفاع عن النفس في الظروف الحالية. ولو أُحدثت “جائزة نوبل في البيولوجيا” لكان الوضع أفضل للجميع. ولا ندري لماذا لم يتم ذلك لحد الآن كما استحدثت جائزة نوبل في الاقتصاد قبل نصف قرن. وهذا الانزعاج والتوتر يصاب بهما كبار الكيميائيين، ويصل إلى أوجه في كل خريف، خلال موسم منح جوائز نوبل!

يقول أحدهم مازحًا ومتأسفًا : “نحن نحبّكم كثيرًا يا علماء البيولوجيا الأعزاء. وأنتم تقومون بعمل رائع، لكن اتركوا جائزة نوبل في الكيمياء لأصحابها”! وبعبارة أخرى، يرى بعض الكيميائيين أن جائزة نوبل في الكيمياء منحت لعلماء أسهموا إسهاما كبيرا في التقدم العلمي، ولكن ليس في علم الكيمياء، ولذا يتساءلون : لماذا يتم منحهم هذه الجائزة المخصصة للكيميائيين؟!

وفي المدارس العليا للأساتذة!

أما في الجزائر فإن المدارس العليا للأساتذة تكوّن حملة شهادتي ليسانس (5 سنوات)، إحداهما بملمح “فيزياء” والأخرى بملمح “كيمياء”. وكلّ من هاتين الشهادتين تخوّل لحاملها تدريس مادتي الفيزياء والكيمياء في مؤسسات التعليم الثانوي عبر البلاد. غير أننا لا ندري أي منطق يجعل وزارة التربية تصنّف هؤلاء الخريجين عند توظيفهم بتمييز بين الملمحين حيث تعطي الأولوية في التوظيف لأصحاب “ملمح الفيزياء” قبل أصحاب “ملمح الكيمياء”. وهذا التمييز غير المبَرّر عانى منه الكثير حملة شهادة الليسانس في الكيمياء.

وقد أدى ذلك إلى كثير من الاحتجاجات لطلبة مادة الكيمياء. وعندما حاولت المدارس العليا للأساتذة توحيد الشهادة هذه الأيام لرفع الغبن عن الكيميائيين استفزت هذه المحاولة طلبة الفيزياء وأغلقوا أبواب الإدارة احتجاجا على هذه المبادرة التوفيقية مطالبين بتمييزهم عن الكيميائيين! ولا ندري إلى أين ستؤول الأحوال في هذا الصراع المخزي للجميع، طلبةً وأساتذةً وإدارةً.

ومهما يكن من أمر، فهذا الحصار الذي يعرفه الكيميائيون هنا وهناك ليس بريئًا … بل قد يكون السبب هو التقدم الذي سجله كبارهم!!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • حماده

    أزمة كورونا ولقاحاتها تحتم علينا إعادة النظر في تقدير الكيمياء والبيولوجيا وكم نحن بحاجة إلى علماء ومختصين فيهما

  • جمال عاشوري

    السلام عليكم
    أستاذنا الكريم دمت ذخرا و فخرا للجزائر ...أنا أدبي مختص في اللغويات و أجد لغتك و تحريرك للمقالات أرقى و اسمى من لغة العديد من الدكاترة في الأدب و علوم اللغة رغم أنك رياضياتي .لطالما ذكرتني بعلماء الأمة في عصورها الزاهرة حيث كان العالم فيلسوفا يجمع بين الفقه في علوم الدين و الفقه في علوم الدنيا .. ولكم قرأنا عن الفقهاء الأدباء و العلماء الشعراء. و حري بمقال مثل هذا يجمع بين المتعة الفنية و الفائدة العلمية أن يقر ر في برنامج اللغة و الأدب على طلبة الثانوي في باب المقال العلمي..و لا عجب ، فإني كلما فرأت لك مقالا لم أجد بدا من الاحتفاظ به في أرشيف مكتبتي ..مزيدا من التألق

  • محمد

    يا أستاذ أبوبكر مواضيع تقاريرك تهمنا لأنها تهتم بعالم العلوم لكنك حين تتطرق لما يخص التعليم الثانوي نرى أنك تتحول إلى نقابي دون أن تدرك ما يواجه تسيير المؤسسات التعليمية.فاختصاص الكيمياء أنشئ عندنا لتخريج التقنيين في هذه المادة حينما كانت وصفية.المتخرجون في الفيزياء يتلقون تكوينهم معتمدين على الرياضيات كما أصبحت جل المواد.كذلك الحال بالنسبة لحاملي ليسانس التاريخ حين يلزمون بتدريس الجغرافيا التي كانت في وقت مضى وصفية وتغيرت إلى مادة علمية حسابية.المشكلة الأخرى أن الحجم الساعي الأسبوعي للكيمياء منخفض لا يوافق ما للفيزياء من توقيت.أن نعيد النظر في كل منظومتنا التربوية أحسن من ارتجال حلول سطحية.

  • بشير أحمد

    بارك الله فيك أستاذ، مقال ثري كما عودتنا.
    فقط وددت أن أعقب عن الجزئية الأخيرة، والمتعلقة بمشكل توحيد الشهادة، حسب رأيي المتواضع، أظن أنه كان حريًا بمسؤولي المدارس العليا للأساتذة التواصل مع الوزارة المعنية وإلزامها بإلغاء الأولوية في التوظيف بين طلبة التخصصين، لأنه من غير المنطقي أن توحد الشهادة بين طالبين من تخصصين مختلفين، وإلا ما فائدة وجود تخصصين إن كانت الشهادة واحد؟

  • Oustadh

    الكيميائيون والبيولوجيون محاصرون من الوصاية مديرية التجهيز بالوزارة مخابرهنا تحتاج إلى تموين وامكانيات من اصلاح للأجهزة المعطلة وشراء الأخرى وتزويدنا بالمواد الكيميائية و أيضا الزجاجيات
    مخابرنا أجهزتها معطلة و لا تموين ولا امكانيات متوفرة ففي نظر الوصاية مخابر الكيميائيين والبيولوجيين مخابر نظرية !! لا تشتغل بالتجارب و التطبيق !!!

  • مغترب في و.م.أ

    أنا فيزيائي ومعك 100%. علينا احترام الإختصاص!

    نحن بحاجة للرياضيات, الفيزياء, الكيمياء, الأحياء, الهندسة, التاريخ, اللغة, الإجتماعيات, ....

    إلى متى يحتقر الفيزيائي عالم التاريخ؟ والرياضياتي يحتقر المهندس و...؟

    إن الأمم التي ليس لها مؤرخون, ولغويون, واجتماعيون, و... لن تقوم لها قائمة.

  • ملاحظ

    شكرا استاذنا الفاضل على مقالاتكم الرائعة و القيمة
    لاحظت في المدرسة العليا للاساتدة القبة سابقا انه هناك تمييز في التفضيل المرتبة الاولى رياضيات ثم بعد ذلك تاتي الفيزياء و في الترتيب الثالث الكيمياء لست ادري لماذا
    فعلا لماذا لم تتم منح جائزة للعلوم الاخرى امر محير

  • استاذ

    في المخبر ليتحصل الباحث على لتر من مذيب أو اي مادة لابد أن ينتظر 3 سنوات وهو مع الملفات من تاشيرات الوصاية و مصادقة المالية و الفاطورات الاولية preforma و النتظار والتردد على الوزارة و مخابر العالم راهي مع الكيت تاع البيولوجيا الجزيئية
    باحثون محاصرون لاحول ولا قوة لهم يبحثون والاجهزة معطلة وكيمياويات مفقودة و حالة يرثى لها ثم تطلبون منا لقاح الكوفيد