الرأي

لا تعوِّلوا على هذه الجامعة في أيِّ نهضةٍ قادمة

هكذا أرادوا لها أن تبقى مجرد مؤسسة تضم هياكلَ وأوابد عمرانية باذخة فقط.. ومظاهرَ براقة وألواناً وعماراتٍ زجاجية براقة لامعة.. تأخذ الألباب وتخطف الأبصار بلمعان زجاجها الفتّان حالما تتعاكس على سطحه سبائك وخيوط أشعة الشمس الذهبية.. وكأنها تخاطب الناظرين إليها بلسان الغانية اللعوب قائلة لعاشقيها: هلموا إليّ والهين.. فبداخلي عالم ساحر وعجيب.. فإذا دخلته وجدت يومه كأمسه، وأمسه كغده ويومه، رتابة ونسقية وتكرار.. في مجتمع يضم مجموعة من الأطفال الكبار اللاهثين وراء سراب وفُتات المطبوعات الهزيلة كي ينالوا ورقة تسمى زورا وكذبا شهادة جامعية عليا لا علم فيها.. عدا النذر اليسير..

هكذا أرادوها وبسوء نية وقصد أن تكون مجرد مساحات خضراء وحدائق غنّاء ومنشآتٍ مجهزة بأحدث التجهيزات البحثية والمكتبية ليتلهى فيها وبها وخلالها الصغار والكبار، ولينشغلوا بألعابها وتساليها ومشاغلها عن رسالتهم الحقيقية والمصيرية في هذه الحياة ومن بعد الممات.. أرادوها أن تصير مجرَّد واجهات دعائية جذابة وصادمة للأصدقاء والأعداء.. وشاهدة بالكذب والخداع على شهود نهضة وإقلاع حضاري موهوم، لأنهم وعوا درس استيعاب النهضات، وتقويض المشاريع الرسالية، والالتفاف على سُعاة الخير ورسُل التقدم والرشاد، وتفننوا في محاصرة العباقرة والمبدعين والمصلحين.. وحسبوا ذلك يكون باحتساب عدد المقاعد المدرسية والبيداغوجية، وعدد القاعات والمدرجات والمطاعم وغرف النوم والإقامات والوسائل، وعدد الخرِّيجين الفارغين، وعدد المدرِّسين المعطوبين، وعدد الرسائل المستنسخة والمكرّرة والمستلّة من بطون شبكات البحث ومواقعه الإلكترونية ومحركاته الآثمة..

هكذا أرادوا أن يكون ليلُها ظلاما، ونهارُها سوادا وظلمة، وأن يكون يومُها كأمسِها، وأمسها كغدها، وغدها كبعد غدها، لا شيء يختلف ويتغير فيها مع مرور الزمن إلاّ نحو الأرذل والأسوإ والأردإ.. أرادوها مشلولة عن القيام بنفسها، فضلا عن تنهض بغيرها ومحيطها وفردها ومجتمعها..أرادوها كي يهنئوا عيشا في دياجير التسلط والهيمنة والاستعباد، ولكي يرفلوا في أثواب النعيم ويُدثروا سواد الأمة في أسمال الظلام والقمع والقهر واللامبالاة..

هكذا أرادوا لها أن تبقى واجهة خلابة يقصدها المسؤولون في خرجاتهم وجولاتهم الدعائية الجوفاء التي تسعى لتغطيتها وسائل الإعلام المضللة لينحدر في خلد السذج من نخبها مدى اهتمام السلطة بها كمؤسسة فاعلة في المجتمع.. والحقيقة عكس ذلك بتاتا.. فهي تخدمهم في نواحي التمكين لمؤسستهم، ولا تخدم الرسالة العلمية والأخلاقية التي وضعها المؤسسون الأوائل يوم أن تخيلوا تأسيس جامعة تضم كافة المعارف والعلوم، وتجذب إليها باقة العلماء والباحثين والكتّاب المتميزين والحاذقين..

أتدرون من هي هذه المؤسسة الكسيرة؟ إنها الجامعة الجزائرية الكسيحة القدمين، والمكسورة الجناحين، والمقطوعة اليدين، والمثخنة بشتى الأسقام والعلل العصية عن العلاج والبرء.. فلماذا رضيت بهذا؟ ولماذا رضي شاغلوك وساكنوك بهذه المذلة المشينة؟ ورضوا بالدور المهين الأسيف في مجموع نشاطات الحياة؟ لماذا قبلتِ بهذه الوضعية وفيك خيرة الناس ووجهاؤُهم من العلماء والباحثين وخيرة الطلبة النابهين؟ لماذا قبلتِ بهذا المسار الضيق وفيك انطوى العالم الأكبر؟ فيك الكتب والمصادر والمراجع والرسائل والمذكرات والمجلات والصحف والتجارب والخبرات والخبراء.. وفيك أعظم ما في الدنيا وهو العلم والمشتغل والمنشغل به؟

ولأدع كل هذا الحزن والأسى ولأغادره متلمِّسا الداء والدواء، من خلال يومياتي كأستاذ جامعي أمكنه إحصاءُ ما يقدمه لنفسه ولطلابه ولأمته ووطنه طيلة أربعة عقود، فماذا قدمت؟ وهل ما قدمته أنا وغيري يعادل ما قدمه لنا الوطن؟ تلك هي تساؤلاتي الواعية، بعد الكشف عن أحزاني لما آل إليه أمر الجامعة والجامعي الجزائري..

دعوني أسأل نفسي وأُسائل من معي قائلا: هل تشعر أنك حققت رسالة الجامعة الحقيقية؟ هل تحس أنك جسَّدت وظيفتك كجامعي في الحياة؟ هل قُدْتَ ووجّهتَ أسرتك وجماعتك ومجتمعك وأمتك نحو الأفضل؟ وهل استطعت أن تُحرج السياسيين وقادة البلاد بتململك ووعيك وعلمك حالما تجدهم أخطئوا أو حادوا عن مهمتهم؟ هل تشعر أنك أنتجت من المعارف والعلوم والخبرات والتجارب العلمية الحية والصلبة والإلكترونية كِفاء ما منحك الوطن من انتماء واعتزاز وعطاء؟

حتما ستجد نفسك في وضعية المحرَج من نفسه طالما قِسْتَ نفسك ومنجزاتك بالمعايير والموازين التي يتطلع إليها غيرُك من الجامعيين في العالم.. وسبب هذا الإحراج –في ظني- يعود إلى يقظة ما تبقى حيا ونابضا بالروح والحياة في بقايا ضميرك الذي هشّمته سيول العقبات والمطبات التي نصبها المفسدون في طريقك وطريق النبلاء من أمثالك.. ولعلني أوجز لك ولغيرك أسباب تعثرك وموتك البطيء في هذه المؤسسة الميتة، وذلك جراء انتفاء ضوابط ومعايير الانتقاء والاختيار الحر والعادل للمناصب الجامعية الحساسة التي تمثل الجهاز العصبي لحياة واستمرار وحركة هذا الجسد الجامعي المشلول، كـ(المجلس العلمي واللجان العلمية ورؤساء الميادين والمسارات والشعب والتخصصات..).

وبالتالي سيحكم عليك وعلى أمثالك من العاملين الخضوع والإذعان للأردإ والأسوإ والأخور.. ممن تنتقيهم السلطة لإدارة المشهد الجامعي الشكلاني عبر بوابات الانتماء والولاء والاسترضاء والمقايضة، ممن اعتادوا على الرقص والتصفيق حول خوان السلطة العفن بالفتات والفضلات، ممن يتقاضون الأجور والمنح والمكافآت الخاصة من دون تقديم مقابل علمي أو بحثي أو تنظيري أو تطبيقي أو مشروع بديل، وسرعان ما يغرقون في فنجان صغير من البحث العلمي. فتنتقي لك من أمثال أولئك المقربين لإدارة هذه المؤسسات، فكيف تختار شخصياتها حسبما ترشح به صيغ التعامل العشائري والعصبي والجهوي والمصلحي والأمني المزعوم..  التي ترين على المشهد الجامعي الحزين عبر ربوع هذا الوطن المكلوم منذ ستة عقود ضائعة من حصاد التيه والضياع العلمي والمعرفي والديني واللغوي.. الشامل؟

وليس المهم تشخيص العفن القائم في الفضاء الجامعي بمقدار ما يعنينا رسم عملية الخروج من صدر الأزمة الجاثم على تفاصيل المشهد الجامعي المشلول، وهو معيارٌ بسيط وسهل متعارف عليه في الجامعات العالمية والعربية والإسلامية، فمعيار الترقية وتولي المناصب العلمية الحسَّاسة المذكورة آنفا هو البحث والإنتاج العلمي والمعرفي والأدبي والثقافي. ولا يوجد معيارٌ غير هذا فقط، وعليه فإن انضبطت الجامعة الجزائرية بهذا المعيار العالمي، فلا يمكن أن تُسول نفس ضعيف أو متسلق أو هزيل أو خاوٍ أو نقابي مشوّش.. معرفيا وعلميا أن يفكر حتى في خلده ونفسه أنه سيكون في يوم من الأيام على رأس تلك الجامعة أو ذلك المعهد العالي، لعلمه بحقيقة ومعايير سلم الارتقاء وتولي المناصب الذي تعتمده السلطة الوصية.. وإن اعتمدتم على هذا المعيار المنضبط في تسيير المشهد الجامعي أمكنكم هنا التعويل على الجامعة في أي نهضة قادمة.

أما ترك الأمور تسير حسبما نشاهدها ونعرفها منذ ستة عقود من الفساد، فستبقى الجامعة مجرد روضة كبيرة لا قيمة لها بين مؤسسات الأمة، حيث يدير مشهدَها إداريون تدرّجوا في سلم الإدارة والاحتيال المكتبي، والتلفيق البيروقراطي منذ شبابهم، وعزفوا عن طلب العلم والبحث والقراءة والكتابة، فمرضوا بمتلازمة المكتب البيروقراطي القائم على مرضية إدمان الحكم المكتبي، وقد لاحظت منذ قرابة أربعة عقود حالة الوله والشوق واللاتوازن والإدمان بادية على شخصيات المعزولين من الإدارة ممن غضبت منهم السلطة وهم يقضون – طبعا بعد عزلهم من مناصبهم – سائر يومهم بين المكاتب والموظفين وردهات الإدارات من أثر إدمانهم واستحكام الحكم المكتبي فيهم، وذلك نتيجة عدم القدرة على التكيف مع الوضع الجديد، الذي قوامه التدريس والبحث العلمي والصبر على تحصيل المعارف في المكتبات..

ولكم أيها الجامعيون أن تنظروا قمم التسيير في الإدارة الجامعية الجزائرية القائمة اليوم وتتساءلوا قائلين أو صامتين: هل ثمة نابغة أو باحثٌ متميز أو صاحب نظرية أو مذهب أو اتجاه فكري أو أدبي أو تخصصي.. أو ذو سجلٍّ بحثي وعلمي عريض في عالم الاكتشاف والكتابة والإبداع والبحث ترأس أو يترأس جامعة جزائرية كما هو المشهد الجامعي في الدول العربية والإسلامية المحترمة؟

مقالات ذات صلة