-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“لعلكم تتقون” بين علم الفضائل وفقه المسائل

أبو جرة سلطاني
  • 1044
  • 4
“لعلكم تتقون” بين علم الفضائل وفقه المسائل
ح.م

مدخل عام، معركة المفاهيم والبديهيات الكبرى: تحدد بشكل شبه رسمي يوم الجمعة 24.04.2020 بداية صوم رمضان لهذا العام، بسبب تعذر سنة رصد هلال الصوم على لجنة رصد الأهلة التي عودتنا على ترقب الهلال كل عام، لكن الأمر اختلف هذه السنة بسبب وباء كورونا ، فرمضان سيبدأ بنهاية شعبان ويستمر ثلاثين يوما، هكذا تقرر في المملكة العربية السعودية، وهو ما يرجح أن تأخذ به أغلب الدول الإسلامية لرفع الحرج عن نفسها وتوحيد موعد الصوم في العالم الإسلامي كله ( وهذه حسنة أخرى من حسنات كورونا..!!). وسوف يتميز شهر الصيام لهذا العام بثلاث ميزات لم يسبق لها مثيل في تاريخ أمة الإسلام، فقد هيأ الله لها فرصة لمراجعة نفسها خلال شهر كامل من الحجر الصحي.

1  – أن المسلمين سيصومونه متباعدين كل أسرة محبوسة في بيتها.

2  – أنهم سيصومنه بغير قيام صلاة التراويح في المساجد ولا جمعات (كل أسرة تجتهد في كيفية أداء سنة التراويح وفق المتاح لها).

3 –  لن تفتح مطاعم الرحمة في وجوه المسافرين والمحتاجين وذوي المتربة..

وهو ما يجعل فقه المسائل (فقه القواعد) يخلي السبيل لفقه الفضائل (فقه المقاصد) في ظرف عرفت فيه القلوب رقة وشفافية واستعدادا للتصالح من ربها (جل جلاله)، وصارت الأمة فيه بحاجة إلى تجديد فقه العبادات والمعاملات، بما فيه فقه الصيام. ولعل البداية تنطلق بطرح أسئلة تقليدية والإجابة عنها بأساليب واقعية فيها تجديد وابتكار بأسلوب متدرج مع الزمن لا يستثير حفيظة من نصبوا أنفيهم “حراسا للمعبد” ولا يغري دعاة العصرنة والحداثيين بالتطاول على شريعة الإسلام بذرائع باتت محفوظة ومفضوحة..

نبدأ بطرح البديهيات الأتية: ما هو رمضان؟ وما الغاية من صيامة وقيامه؟ وما معنى “التقوى” عمليا؟ وهل الغاية الوحيدة من الصيام هي بلوغ مراتب المتقين أم أن الفجوة بين إصلاح النفس وإصلاح المجتمع كالفجوة بين الإمساك عن المباح بالصيام والولوغ في أعراض الناس بالغيبة والنميمة واللغو والكلام الهابط المرذول؟

تبدو الأسئلة غير ذات جدوى بعد أن صام المسلمون 15 قرنا وفصل علماء الأمة في دقائق فقه الصوم، فما الجديد في صيام رمضان في ظل الأزمة التي عرفتها البشرية هذا العام؟ إن البحث عن أجوبة دقيقة لمثل هذه الأسئلة التقليدية لن يضيف جديدا سوى تقرير ما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ فمهما قدح العقل زناد التجديد لن يخرج عن تعريف أشبه بمن يخبر الناس بأن ماء البحر مالح، وأن طعم العسل حلو، والشمس تطلع من مشرقها، والمطر ينزل من السماء، وشهر الصوم يأتي كل عام في أول رمضان وينتهي بظهور هلال شوال..!!

لكن المقصود من بحث البديهيات في هذه الدراسة ليس إعادة تذكير الناس بما هو معلوم من الدين بالضرورة وإنما الغاية منه التأسيس على المعلوم لتجديد فهم ما يتفرع عنه من حقوق وواجبات ضاعت في زحمة الحياة المادية وطوت ثقافة الاستهلاك أشرعتها فضاع كرم الكريم بطغيان صوت اللئيم وصار للمعروف فهم آخر غير ما تعارف عليه الناس عبر عنه أحد البراغماتيين بقوله:” كلنا مستعدون للتضحية، ولكن هناك من هو مستعد للتضحية من أجلك. وهناك من هو حريص على التضحية بك”. فمفهوم التضحية صار لدى كثير من الناس نفعيا ماديا غايته القدرة على الدوس على جثامين المستضعفين للصعود إلى سدة مجد مزيف، والحمد لله أنه كلما كان الصعود الزائف ظالما كلما كان الهبوط سريعا ومريعا: “ولا ينبئك مثل خبير”.

فمهما بلغ بالناس الفساد، ومهما نجحت وسائل الإشاعة والدعاية في تشويه صورة جمال الكون يظل عموم الصلاح غالبا على أمة الإسلام، والدليل على هذه الحقيقة ما نرى لا ما نسمع من هبة أهل الخير في هذا الظرف العصيب، مع وجود كثيرين ممن يملكون القدرة على الاجتهاد أكثر ولكنهم يرون ثمن مشقتهم باهظا والغاية تصب في رصيد قوم آخرين!! وأنا شخصيا لا أستغرب هذا الوضع بسبب الجهد المضني الذي بذلته كثير من منظوماتنا التربوية والفكرية والسياسية والفنية.. لمسخ هويتنا الإسلامية والوطنية.. حتى صار بعض الأحرار يشعرون بالغربة في وطنهم. والحمد لله الذي حفظ هذه الأمة وجعل مع كل عسر يسرين. وقد حان الوقت للتعاون على إعادة تشكيل منظوماتنا من أبسط المفاهيم إلى أعلاها.

والبداية العملية بالفروق لفك الارتباط بين مفاهيم الأصالة والتغريب من جهة ومفاهيم التجديد والحداثة من جهة أخرى، وجوهر الاختلاف يكمن في الفرق بين تعريف الشيء وتعليله، وبين القيام به عادة وتجديده في النفس عبادة (كالفرق بين التضحية من أجل الوطن ليبقى شامخا والتضحية بأوتاده ورموزه بذريعة منع الخصوم من استلام أزمة الحكم فيه). في معركة المفاهيم تتشابك المصطلحات. وحتى لا نذهب بعيدا عن موضوع رمضان نسأل أنفسنا: لو طلب منا تعليل هذه البديهيات الموروثة من الفقه التقليدي بالانتقال بها من الوصف إلى “الماهية” لتوقف العقل عند اجترار المحفوظات القديمة من كلام العوام. ولو أننا شغلنا عقولنا قليلا بحرية منضبطة في بحث أجوبة معاصرة (متجددة) لهذه الأسئلة سوف تفتح لنا آفاقا رحبة لفهم مقاصد العبادات التي لم يفرضها الله (جل جلاله) علينا لحاجته سبحانه إليها وهو الغني عن العالمين. إنما فرضها لتنظيم حياتنا وضبط حركتنا وإدارة شؤوننا على أبدع حال وأنفع مآل. ولنأخذ مثالا بركن الصوم: لماذا فرضه الله على المسلمين؟

الجواب المتداول هو: تحصيل التقوى. والسؤال هو: ما معنى التقوى؟ الجواب المحفوظ هو: ألخوف من الجليل. والعمل بالتنزيل. والرضى بالقليل. والاستعداد ليوم الرحيل. والسؤال هو: ما معنى هذه الكلمات الأربع؟ وأتوقف غن الجواب لأقول: إذا شرحتها من محفوظاتي سوف أنقل لكم خلاصة ما جاء في المجلد الرابع من كتاب ” إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي ثم أحيلكم على كتاب” قوت القلوب” لأبي طالب المكي.. وبعد طول جهد وبحث سوف نعود إلى طرح السؤال من جديد: ما معنى التقوى؟ فإذا تركنا المحفوظات جانبا وتأملنا في كنهها وجدنا أن الله (جل جلاله) يأمرنا بتقواه بصيغتين صيغة لذاته (جل جلاله) في مثل قوله: ” فاتقون يا أولي الألباب..” وصيغة يحذنا من النار ويدعونا إلى اتقائها في مثل قوله:” فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة” البقرة: 24. أي اجعلوا بينكم وبين النار وقاية. واجعلوا بينكم وبين غضب الله وقاية. والصوم وقاية من حر جهنم. والصلاة وقاية من غضب الله.. بتقريب هذا المعنى نرى الفرق كبيرا بين ما تعوده الناس وآلفوه فصار بديهية وببن ما يطلب العقل عليه دليلا. ذلك أن الفرق واسع بين الفعل والغاية منه. فأدوات السؤال التقليدية أربعة: متى؟ وأين؟ وكيف؟ ولماذا؟ لمعرفة زمان الغعل ومكان حدوثه والكيفية التي حدث بها ولماذا حدث. وكلها أسئلة مهمة ولكن أهمها هو لماذا حدث؟ مثلا: لماذا فرض الله صيام رمضان على المسلمين في منتصف السنة الثانية الهجرية؟ ولماذا جعله رسول الله (ص) قاعدة من قواعد الإسلام الخمس؟ ولماذا يصومه المسلمون بتراتبية متقهقرة في الزمن القمري بعشرة أيام كل عام؟

نعود مرة أخرى إلى البديهيات المعروفة عرفا: لنقرر أن الله (جل جلاله) ذكر رمضان في كتابه الكريم مرة واحدة فقط في قوله تعالى: ” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن..” البقرة: 185 ليخبرنا بأنه شرف هذا الشهر باختيار ليلة القدر موعدا لإنزال كتابه فيها جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم يوالي تنزيله نجوما على قلب المصطفى (ص) خلال 23 سنة متوالية. ويشرفه مرة أخرى بالإذن لأمين الوحي جبريل (ع) في شهر رمضان من كل عام ليدارس المصطفى (ص) ما نزل من القرآن كله. وفي السنة التي قبض فيها المصطفى (ص) دارسه القرآن كله مرتين. وختم الله التنزيل بعد أن أكمل الدين وأتم النعمة ورضي الإسلام دينا لمن ارتضاه لنفسه.

كل هذا بديهي معروف ومعلوم ومحفوظ.. لكن الذي لا يعرف كثير من المسلمين كنهه هو أن الصيام مذكور في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة بعدد شهور السنة، ليدور فيها جميعا كل 36 عاما لتحصيل التقوى في أيام السنة كلها ولتدوير الزكاة على الأشهر كلها من محرم إلى ذي الحجة. في اثني عشر موضعا هي:

–  فمن تطوع خيرا فهو خير له.

–  وأن تصوموا خير لكم.

– فمن شهد منكم الشهر فليصمه.

– ثم أتموا الصيام إلى الليل.

– ففدية من صيام أو صدقة أو نسك.

– فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام (كفارة الخطإ في الحج). ومثلها كفارة اليمين.

– فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين (كفارة القتل الخطأ) ومثلها كفارة الطلاق الرجعي.

– أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره (كفارة قتل المحرم لصيد البر).

– والصائمين والصائمات (من صفات الفائزين والفائزات بالمغفرة والأجر العظيم).

– إني نذرت للرحمن صوما (معجزة مريم بصيام معنوي ليتحدث نيابة عنها من كان في المهد صبيا) عليهما السلام.

خلاصة ما يمكن استنتاجه من البديهية الأولى في فقه الصوم أن المتأمل في هذه الآيات المتحدثة عن أنواع الصوم يخرج بثلاث فوائد جليلة:

1 – الصوم هو إمساك الجوارح مطلقا عن الطعام والكلام والخصام والغيبة والنميمة.. وعن كل نقيصة معنوية، وعن سماع ما لا يليق وعن النظر إلى ما لا يجوز واشتهاء ما نهى الله عنه.. فكثير من الأمور المعنوية تبطل الصوم وتذهب بأجر الصائم. ولو لم يكن لها كفارة. فكم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش. وفي السنن الكبرى للبيهقي قوله (ص):” ليس الصيام من الطعام والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث”.

2 –  الصيام وسيلة عملية لاختبار ما في الصدر من رصيد إيماني بمراقبة الله (جل جلاله)، وهو مناسبة لتحصيل التقوى.

3 –  الصيام مدرسة سنوية “للتربص المغلق” والتدريب على علم الفضائل، تفتح أبوابها في آخر أيام شعبان وتغلقها في غرة شوال من كل عام. فمداها الزمني شهر واحد، يدرس فيها الصائم سبع مواد أساسية، يتعين عليه التفوق فيها جميعا، فإذا رسب في إحداها خسر صيامه وهي:

1 – مادة تغيير العادة إلى عبادة.

2 – ومادة الطاعة الخالية من رقابة الناس، والخلوة مع الرقيب الحسيب. فالصوم عبادة بين العبد وربه لا يراها أحد من الناس، فلا أحد يعلم صومك ولا فطرك. فلا رياء في الصوم بخلاف بقية العبادات. وفي الحديث القدسي:” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”.

3 – مادة الدعاء والذكر وتذويب ما علق بالجسم من “دسوم” الحسد والحقد والبغضاء والشحناء والكراهية..الخ، وترقيق القلب بما يتحلل به من ثقلة الطين إلى رفرفة الروح. فالصائم يتشبه بالملائكة(ع) بترك طعامه وشرابه وشهواته إيمانا بفريضة الصوم واحتسابا للأجر عند الله.لعلمه أن الصيام والقيام يشفعان لصاحبهما يوم القيامة.

4 – ومادة المراقبة (الإحسان).

5 – ومادة الصبر المحتسب الأجر عند الله وحده.

6 – ومادة التنافس في تلاوة القرآن وختمه (ختمة واحدة للكسالى. وختمتان للمجتهدين وثلاثا للمتنافسين.. ومن زاد ارتقى في درجات الجنان: اقرأ وارتق).

7 – ومادة صلة الأرحام وتفقد المستضعفين، فلا شيء أعظم في هذا الشهر من مواساة المحتاجين و” الغلابى” والعطف على ذوي الأرحام والإحسان للوالدين وإصلاح ذات البين وبذل كل كريمة تقرب العبد من ربه.

فرمضان شهر يرحم الله الصائمين في أوله. ويغفر للمحسنين في أوسطه. ويعتق رقاب المتقين في آخره. فمن فاز بهذه الآلاء الثلاثة استلم جائزته يوم عيد الفطر.

هل تدرون ما هي هذه الجائزة؟ ومن هم الموعودون بها دون سواهم؟ وكيف يمكننا تأمينها وضمان استلامها خلال هذا الشهر الفضيل؟

الجواب في حلقة قادمة بعد إلمامة “بفقه التقوى” وبيان معنى:” لعلكم تتقون”.

إلى لقاء قريب إن شاء الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • لصلع

    من كسر الحركة ومزقها .

  • toufik.belgique

    اين هي دراهم المتقاعدين،؟.
    انت و سيدهم سعيد،مكانكم في السجن.

  • good

    ..ألا تدري يا بوقرة.. أن الصلاة التي لاتنهي عن الفحشاء والمنكر....لاتعتبر صلاة ولا قيمة لها ولا ترفع لله....وهو حال (حافظ وحامل) القرآن الكريم...ومنهم أنت...تدعون حفظ وحمل الكتاب المقدس ولا تتوانون في التعدي عليه وتركه وراء ظهوركم..تتعملون به في الصلاة والجنائز فقط....

  • merghenis

    (ختمة واحدة للكسالى)- هذا تعبير لا يليق و لا يقبل لا منك ولا من غيرك . و السؤال : هل يمكن إعتباره إعتداء.