-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا تجف الأنهار حول الصهيونية؟

محمد ذياب
  • 2028
  • 0
لماذا تجف الأنهار حول الصهيونية؟

يعتقد كثيرٌ من الناس داخل العالم الإسلامي وخارجه أن الغرب يديره اليهود وفق عقيدتهم التوراتية وأنهم يتحكمون في زمام الأمور والدول وعلى رأس تلك الدول أمريكا.

هذا الاعتقاد اللذيذ ينتشر كثيرا عند المسلمين لأنه يشبه تماما عقيدة الصلب والفداء عند النصارى إذ يتحمل المسيح المخلِّص ذنوب أمته في شكل آلام يتلقاها وهو مصلوب كي ينجو المسيحي من عذاب شديد يوم الدينونة.

ولأن التجربة العادلة ترفض أن يتحمل شخص ما جريرة الغير، تم أيْقَنة شخصية المسيح عليه السلام ليصبح إلها أو ابنا للإله ليمكنه تحمّل هذا العبء لأن من خصائص الإله “القدرة على غفران الذنوب”.

بذات الطريقة وبفعل الإعلام العالمي تم أيْقنة اليهود عند المسلمين، فأصبحوا هم المسيح الدجال الذي يتحمل وحده عبء جرائم الحداثة المادية والاستعمار الامبريالي الغربي، وهكذا أصبح المسلمون خلاصيين بدورهم مثل المسيحيين مع تبادل الأدوار والدور بين المسيح الذي يحمل ذنوب النصارى واليهود الذين يحملون عبء الرجل الأبيض. هذه الصورة رغم سذاجتها لا تزال هي الصورة الذهنية السائدة لدى رجل الشارع في البلدان العربية والإسلامية، بل كذلك في البلدان الغربية وهي صورة تخدم الفكرة الصهيونية بالمجان خصوصا إذا تم دعمها بتفسيرات نصية إسلامية تفصل اليهود عن التاريخ وعن الطبيعة البشرية بأن تجعل اليهود الذين تحدث عنهم القرآن الكريم من أجل العبرة وانتهى زمنهم، أمة عابرة للتاريخ تستنسخ أرواحهم وتطبع صورهم على يهود اليوم في إسرائيل إذ تكبّل كل محاولات فهم الدور الوظيفي الذي فرضه الغرب عليهم والذي يشكل السمة الأبرز فيهم مقارنة بكونهم يهودا أو إسرائيليين.

ومع استصحاب هذه الصورة التي تستكمل الأسطورة الصهيونية يصبح الصراع مع اليهود مطلبا تعبديا في حد ذاته ولا يمكن حسمه إلا مع قيام الساعة حين يسدل الستار على التاريخ. وقد ساهمت هذه النظرة في إبعاد الأضواء تماما عن المتسبب الحقيقي في مأساة اليهود والمسلمين معا بل ومأساة شعوب أخرى بعضها أبيد تماما وكاد أن يختفي من على وجه الأرض كالهنود الحمر وسكان أستراليا الأصليين، وهو المنظومة الاستعمارية المادية العلمانية الرأسمالية المتسلحة بقوة العلم والمال، وهي منظومة لا تعرف الولاء لا لعرق ولا لأمة ولا لدين ولا لوطن، بل هي مثل مارد المصباح في قصص ألف ليلة وليلة تخدم دائما حامل المصباح دون النظر في هويته، وهاهو المارد اليوم يفلت أمام أعين الجميع ليخدم سيدا جديدا على ما يبدو أن بشرته صفراء هذه المرة وليست بيضاء كما كان الحال مع السيد الأول.

 الوصف الجوهري للدولة الصهيونية هو “الوظيفية” وليس “اليهودية” فالإيديولوجية الصهيونية لم تُخلق من أجل خدمة اليهود باعتبارهم “شعب الله المختار” كما تروج الدعاية الإعلامية الغربية منذ أكثر من قرن، بل العكس هو الصحيح، فالصهيونية خلقها الاستعمار الغربي الامبريالي من أجل ترحيل اليهود باعتبارهم أقليات من الدول الغربية والزج بهم في دولة وظيفية وصراع مسلح طويل المدى مع العرب والمسلمين نيابة عن الرجل الأبيض.

وضعتُ هذه المقدمة في بداية هذا المقال لأني أراها ضرورية لفهم ما أريد الحديث عنه الآن وهو تفسير ما يحدث هذه الأيام في الكيان الإسرائيلي بين الحكومة والمتظاهرين. إذ لا ينبغي تماما عزل ما يحدث هناك عما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما وما يحدث أيضا في الجهة المقابلة من العالم في القارة الآسيوية.

نشأت إسرائيل بالفعل بعد الحرب العالمية الثانية لتشكل “الدولة الثكنة” التي تسند إليها الرقابة الأمنية على المستعمرات العربية نيابة عن الغرب بعد مغادرة الرجل الأوروبي الأبيض ربوع تلك البلاد. وبعد أن تحول مركز الرأسمالية من أوروبا المنهكة بالحروب إلى أمريكا التي لم تصلها الحرب، لم يطل الأمر بالكيان الإسرائيلي حتى تبدل ولاؤه من بريطانيا التي أنشأته إلى أمريكا التي ورثت الهيمنة على المستعمرات الأوروبية، وفق الأسلوب الجديد للاستعمار الأمريكي الذي سمى نفسه “النظام العالمي الجديد” والذي يعتمد على الردع والتهديد أكثر من اعتماده على الاجتياح والغزو إلا إذا دعت الضرورة. هذا بعد أن زال الخوف من تجمع العالم الإسلامي مرة أخرى تحت مظلة سياسية واحدة مثلما كان الحال أيام الدولة العثمانية بعد أن تمكنت الأفكار العلمانية من الأمة الإسلامية شعوبا ونُخبا وجعلت سقف طموحهم السياسي والحضاري لا يتجاوز حدود الخرائط التي رسمها الاستعمار في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهي خرائط لا علاقة لها بأي حلم إسلامي كبير بعد أن تحولت العقيدة السياسية للمسلم من “فاتح” إلى “مواطن” أي من الحركة إلى السكون.

لم تكن السياسة الإسرائيلية في حروبها مع جيرانها العرب تختلف كثيرا عن السياسة الأمريكية فقد اعتمدت هي أيضا على التخويف والضربات المحدودة بدلا من الحرب المفتوحة، فحتى سيناء التي كانت قد احتلتها إسرائيل بالكامل عادت وتخلت عنها بعد اتفاقية كامب ديفيد لتصبح بمثابة Satellite State تفصل بين مصر وإسرائيل حتى تتجنب الأخيرة كل التصادمات المجانية مع المصريين. ولا تختلف الأزمات السياسية والثقافية في إسرائيل أيضا عن تلك الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يبدو مع مرور الزمن أن الصدام الأخير بين اليسار واليمين في إسرائيل لا يعدو كونه رجع صدى للصراع بين اليسار واليمين في أمريكا ممثلا في الديمقراطيين والجمهوريين، وهو ليس صراعا انتخابيا هدفه إدارة اللعبة الديمقراطية أمام أعين الجمهور كما كان يحدث دائما، بل يبدو أن الأمر فيه نوع من الجدية هذه المرة لأن فيه بذور نهاية الحلم الأمريكي الذي أطلقه الآباء المؤسسون قبل قرنين وشكل الأسطورة التي قامت عليها فكرة الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أفكار البيورتان المسيحيين البروتستانت الذين خطُّوا شعارهم الديني لاحقا على ورقة الدولار In God We Trust.

ويبدو أن اليسار اليوم في الغرب قد ربح معركة الثقافة مع اليمين، وهذا الانتصار الثقافي ألقى بظلاله على السياسة والاقتصاد بشكل غير مسبوق، ومعلوم أن الأجندة اليسارية معادية للدين، أيّ دين، بما في ذلك المسيحيية واليهودية ناهيك عن الإسلام، هذا خلافا لليمين الذي يرى في الدين المسيحي هوية الغرب التاريخية التي تميزه عن بقية العالم جنبا إلى جنب مع التراث اليوناني والحرف اللاتيني والعرق الأبيض، في حين يعتبر اليسار بأن هوية الغرب اليوم هي العولمة لا غير، والعولمة يعيقها الدين لأن الدين يعني المقدس والمقدس يضع الحدود، وإن كان لها دينٌ فهو المنفعة والأسواق ورأس المال لا غير، وبهذه الطريقة وقع تحالفٌ غير رسمي بين اليسار العدمي الملحد وبين عرابي العولمة لاتحاد الرؤية بين اليسار والعولمة من حيث النظر إلى الإنسان. في بداية التحديث تم التخلي عن فكرة العدل الدينية إلى فكرة المساواة العلمانية ذات المرجعية التنويرية، لكن اليسار اليوم ينقل الفكر من المساواة إلى التسوية العدمية، حيث تزول كل المرجعيات الدينية والقيمية ويسوى الجميع أمام السوق وتمحى الفروق بين كل الأجناس بما فيها الفروق الطبيعية بين الرجال والنساء بل حتى بين الإنسان والحيوان، ولعل التشريعات التي تدعم النسوية والجندرية ومعاداة الأسرة ودعم الإجهاض وأخيرا وليس آخرا إباحة الزواج بين الإنسان والحيوان كما حدث في إسبانيا تحت إدارة الحكومة اليسارية الحالية، هو مؤشر واضح على حالة التسوية الكاملة بين الإنسان والطبيعة والسيولة الأخلاقية داخل الغرب العلماني.

وهذه التسوية لا تعني تحرير الإنسان كما تدّعي أجندة العولمة، بل هي هبوط بالإنسان إلى ما هو أدنى منه وإعلان موت الإله من خلال الحرب على المقدس وعلى كل المرجعيات الدينية المطلقة.

ويأتي الصراع مع اليمين الإسرائيلي كامتداد لسلسلة من صراعات ثقافية يخوضها اليسار مع اليمين في الغرب حول جدوى الدين في خدمة الهيمنة الرأسمالية الغربية اليوم، إذ لم تعد أطروحة ماكس فيبر عن العلاقة التاريخية بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ذات دلالة تفسيرية اليوم بعد أن زالت حاجة التيارات المادية والإلحادية إلى مراوغة الدين للتحكم في الحياة الخاصة للمجتمع بعد أن هزمته في معركة الحياة العامة منذ هيمنة الحداثة، فقد أصبحت الكنائس في أوروبا وأمريكا وقد هجرها المصلون تباع لمن يشتريها، ومنهم المسلمون الذين اشتروا بعض تلك الكنائس وحوّلوها إلى مساجد.

يعيش المسيحيون في الغرب اليوم هجوما غير مسبوق من الدول العلمانية الغربية على كل المقدسات المسيحية بل حتى على المؤسسات الدينية الكنسية، وأبرز مثال على ذلك الإهانات المتكررة لبابا الفاتيكان الحالي كاستقباله بصليب موضوع عليه حذاء رياضي في كندا، وإجباره على الاعتذار للهنود الحمر باعتبارهم من الملونين واعتباره هو ممثلا للرجل الأبيض المستعمِر.

ورغم أن كلًّا من اليسار واليمين لا يخرجان في الغالب عن إرادة الدولة العميقة للرأسمالية الاحتكارية التي تدير دواليب الاقصاد المعولم، إلا أن معدلات الترشيد والعلمنة المتزايدة في الغرب عصفت بكل المرجعيات الثابتة، وشجعت على السيولة وأشاعت النسبية الأخلاقية، بما رجّح الكفة لجهة اليسار اللاديني أو المعادي للدين، الأمر الذي خلق حالة تنمُّر يساري تجاه اليمين المعروف تقليديا بأنه هو حامل لواء الدفاع عن الهوية المسيحية للغرب والنزعة العنصرية للرجل الابيض وهو المشجع أيضا على كراهية الأجانب والملونين، لكن يبدو أن الحداثة الغربية الآن تعيش فعلا مرحلة “المابعديات” والبعض يتحدث أن ما نشاهده اليوم يتجاوز “ما بعد الحداثة” إلى “ما بعد الإنسان” وكلمة “ما بعد” تعني أن النموذج الحضاري السائد قد تفكك وما زال لم يحل مكانه نموذجٌ بديل، وقد عبّر عن هذا الوضع زيغموند بومان في كتابه “الشر السائل: العيش مع اللابديل”.

زال الخوف من تجمع العالم الإسلامي مرة أخرى تحت مظلة سياسية واحدة مثلما كان الحال أيام الدولة العثمانية بعد أن تمكنت الأفكار العلمانية من الأمة الإسلامية شعوبا ونُخبا وجعلت سقف طموحهم السياسي والحضاري لا يتجاوز حدود الخرائط التي رسمها الاستعمار في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهي خرائط لا علاقة لها بأي حلم إسلامي كبير بعد أن تحولت العقيدة السياسية للمسلم من “فاتح” إلى “مواطن”، أي من الحركة إلى السكون.

وبالرجوع إلى الحالة الإسرائيلية يبدو أن اللافتة الصهيونية ذات الديباجة الدينية اليهودية قد تجاوزها الزمن لتبرير الاستيطان اليهودي، وما يحدث لها حاليا في إسرائيل يشبه ما يحدث للمسيحية في الغرب؛ فالصهيونية مثل الفاتيكان ينتميان إلى مرحلة الحداثة المتعايشة مع الدين والموظفة له أحيانا، لكن الديانة المهيمنة اليوم هي ديانة السوق والاستهلاك التي لا تؤمن بالمقدس، ومن ثم فإن إزالة الطبيعة اليهودية للدولة الإسرائيلية لم يعد مستنكرا لدى صناع القرار من أنصار اليسار العدمي في الغرب، وهذا أمرٌ قد يبدو غريبا لكثير من متابعي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذين يكتفون بتحليل الواقع ضمن المستوى السياسي فحسب، ويظنون أن الطبيعة اليهودية لدولة إسرائيل هي وصف جوهري فيها وأن الصهيونية تعني اليهودية، وهذا تحليلٌ سطحي للغاية لأن الوصف الجوهري للدولة الصهيونية هو “الوظيفية” وليس “اليهودية” فالإيديولوجية الصهيونية لم تُخلق من أجل خدمة اليهود باعتبارهم “شعب الله المختار” كما تروّج الدعاية الإعلامية الغربية منذ أكثر من قرن، بل العكس هو الصحيح، فالصهيونية خلقها الاستعمار الغربي الامبريالي من أجل ترحيل اليهود باعتبارهم أقليات من الدول الغربية والزج بهم في دولة وظيفية وصراع مسلح طويل المدى مع العرب والمسلمين نيابة عن الرجل الأبيض الذي لم يعد قادرا على القتال، أي أن الصهيونية كانت تخير اليهود بين المحرقة في أوروبا وبين جبهة القتال مع العرب في فلسطين، وعلى من طالته يد الترانسفير أن يختار بين أمرين أحلاهما مر، لكن الدعاية الصهيونية كانت تخفف الوطأة على اليهود وتساعدهم في حسم الصراع النفسي تجاه الموقفين بأن تجعل خيار الرحلة إلى أرض فلسطين خيارا مقدسا بتوظيف التراث الديني اليهودي وجعله يلهج بحب “أرض الميعاد”، وهي الطريقة الرومنسية ذاتها التي وظفت بها الدوائر الثقافية الغربية الفكر الشيعي الخلاصي لنقل صلاحيات “المهدي المنتظر” الذي سيخرج في نهاية الزمان، ليخرج الآن وهنا يتلبس شخصية “الولي الفقيه”.

إن التاريخ ذاته يشهد على الطبيعة الوظيفية للدولة الصهيونية، فتأسيس الكيان الإسرائيلي في فلسطين كان سنة 1948 أي بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة حين بدأت الدول الأوروبية -خصوصا بريطانيا وفرنسا- تحزم أمتعتها وتسحب جيوشها من المستعمرات في إفريقيا وآسيا، بعد أن حسم الغرب خياراته في طريقة الاستعمار بالتحول من سياسة الغزو المباشر إلى سياسية الحرب بالوكالة والحروب بلفائف المرتزقة وغرس الأنظمة السياسية المؤدلجة بما يخدم تحيزات المستعمِر، فضلا عن حروب الثقافة وقصف العقول، إذ لم يعد بإمكان الغرب توفير الجيوش النظامية الدائمة بعد أن طحن الأوروبيون أنفسهم في حرب الثلاثين السنة (1914-1945) التي خلفت عشرات الملايين من القتلى فضلا عن الآثار الجانبية الأخرى.

وقد أصبحت هذه الإستراتيجية هي الوصفة المفضلة للأمريكان في حروبهم كلها منذ أن ورثوا الأوروبيين في قيادة العالم إلى غاية الحرب الروسية الأوكرانية، التي ستكون علامة فارقة تشهد على بداية التحول في ميزان القوى بين الشرق والغرب.

وإذا كانت إسرائيل قد خُلقت لتكون “الدولة الثكنة” التي تخدم الإمبريالية الغربية بأقل التكاليف مقارنة بالغزو المباشر، في وقت كان للأصوليات الدينية، يهودية كانت أم مسيحية، جمهورها الذي يفهم خطابها في الغرب وهو خطابٌ يعتمد في الغالب على ما تبقى من فكرة “المقدس” في الوعي الغربي، فإن هذه الفكرة تفقد مدلولها بشكل متسارع بين أجيال العولمة ومنهم الشباب الإسرائيلي الذي يبتعد يوما بعد يوم عن الخطاب الثيوقراطي الصهيوني ليقترب أكثر نحو الخطاب السائد في الغرب، أي خطاب العولمة، وقد ساعد على تخلخل اليمين الصهيوني وفكرة الدولة اليهودية نضوب مردودية هذا الخطاب في حشد اليهود من الغرب إلى إسرائيل، فقد أصبحت الطريقة الوحيدة لعكس النزيف الديمغرافي الإسرائيلي هي التجنيد مقابل المال وهي ذات الطريقة التي تعتمدها المقاولات الأمنية للدول الكبرى اليوم مثل بلاك ووتر الأمريكية وفاغنر الروسية والفيلق الأجنبي الفرنسية وغيرها. ولا عجب إذن أن يصبح النسيج الديمغرافي في إسرائيل اليوم يعج بالمشردين المرحلين من الدول الغربية ممن لا مأوى لهم ولا عمل، والمسبوقين قضائيا ممن يخير بين السجن والعيش في إسرائيل، أي أن الخطاب أصبح نفعيا بالكامل ولا يحتاج إلى أي موعظة توراتية.

هذا النسيج الاجتماعي الإسرائيلي الجديد بطبيعته يميل إلى اليسار ولا يميل إلى اليمين، ومن هنا نفهم سر ضغط بايدن المدعوم من اليسار الأمريكي على حكومة ناتنياهو لينتبه إلى أن دولة المحافظين التي تدعمهم في أمريكا قد ضعُفت وينبغي أن يحسبوا خطواتهم بحذر، وكان رد الحكومة الإسرائيلية هو الحشد الراديكالي لكل قوى اليمين داخل الكيان الإسرائيلي من خلال أعمال الاعتداء التقليدي على المصلين في بيت المقدس والإطلاق المفتعل لصواريخ من لبنان، لا يبعد عن البال أن يكون للحكومة الإسرائيلية علاقة بمن أطلقها أو أنها أوعزت إلى من يفعل ذلك نيابة عنها، قصد خلق جو الخوف والترهيب لتبرير استعمال الحلول الأمنية ضد المتظاهرين كما تنص الوصفة التقليدية لصناعة الإرهاب.

يمكن بوضوح لكل من يتابع المنصات الإعلامية الكبرى في العالم الغربي، أن يلاحظ معالم الخطاب غير المكترث بالصهيونية في الآونة الأخيرة، بل إن سقف نقد إسرائيل ارتفع بشكل يؤهّل قائله فيما مضى للاتهام المباشر بـ”معاداة السامية”، إذ أن النقد لم يطل فقط العدوان الهمجي على المصلين في بيت المقدس بوصفه تعديا على حقوق الإنسان، بل وصل حتى مراجعة الأساطير المؤسِّسة للفكرة الصهيونية، كما فعلت منصة Le Monde المصنفة على أنها من اليسار المعتدل في فرنسا في وثائقي بعنوان: “إسرائيل- فلسطين: لماذا يبدو السلام مستحيلاً؟” وهو أمرٌ كان ممنوعا الخوض فيه إعلاميا أو حتى فكريا وثقافيا في أوروبا، وما حدث سابقا مع المفكر الفرنسي المسلم روجي غاردوي خير مثال على ما نقول.

في الأخير يبدو أن الدور الوظيفي للكيان الصهيوني يعيش ذات الأزمة التي يعيشها الغرب الامبريالي الذي أسند إليه هذه الوظيفة، وهذا أمرٌ يبعث على التفكير في السيناريوهات التي يمكن أن تحدث لهذا الكيان مستقبلا إذا وصلت أمريكا وأوروبا إلى حالة من الضعف لا تمكّنها من الاستمرار في دعم إسرائيل، فهل سيحدث للإسرائيليين ما حدث للمعمرين الفرنسيين في الجزائر حين غادروها دفعة واحدة دون رجعة؟ أم أن الطبيعة الوظيفية للكيان ستسهِّل عليه تبديل الولاء نحو المركز الجديد للنظام العالمي حتى لو اقتضى الأمر التخلي عن العقيدة الصهيونية أو التخفيف من حدتها؟ أم أن إسرائيل ستتحول إلى دولة طوائف مثل لبنان وتصبح كيانا هشا بعد أن يزول عنها الدعم الخارجي؟ أم أنها ستتخلص تماما من طبيعتها الدينية اليهودية وتصبح أقرب ما تكون إلى نموذج جنوب إفريقيا؟ لا شك أن كل هذه السيناريهات لا تمتّ بصلة لسيناريو تحرير فلسطين الراسخ في المخيال الإسلامي، لأن هذا السيناريو يقتضى ضمنا أن يتحول العرب والمسلمون إلى قوة دولية لها كلمتها في النظام العالمي، ما يعني أن تحرير أقطار العالم الإسلامي واتحادهم سياسيا واقتصاديا وعسكريا ينبغي أن يكون سابقا لتحرير فلسطين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!