-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا لا يمكن للرأسمالية الغربية أن تجدّد نفسها؟

بقلم: محمد دياب
  • 552
  • 0
لماذا لا يمكن للرأسمالية الغربية أن تجدّد نفسها؟

عندما حلت الحداثة الرأسمالية على العالم منذ بضعة قرون كان لابد لها حتى تستقر كثقافة ونظام وطريقة حياة من إحداث تغييرات جذرية على طريقة حياة الإنسان السابقة، هذه التغييرات لم تشمل علاقات الإنتاج فقط كما يتناولها الاقتصاديون بل إن الأمر كان أعمق بكثير، إذ أثرت طريقة الحياة الرأسمالية على طبيعة المجتمع والحياة العائلية والروحية للأفراد وقدرة المؤسسات الأساسية على التجدد بل حتى على نظرة الناس إلى الكون والحياة.

في بداية الأمر استطاعت الرأسمالية أن تشق طريقها في الغرب وتجدد شبابها باستمرار عن طريق “دينها الجديد” المسمى بـ”ديانة التقدم” أو “الفردوس الأرضي”، كانت فكرة التقدم تعني تحرير الإنسان من الخوف وجعله سيدا، وهدف برنامج التنوير إلى فك السحر عن العالم، والتحرر من الأساطير والاستناد إلى العلم في الحكم على الأشياء. بشرت الحداثة الغربية بالفردوس الأرضي من خلال أفكار التقدم (Progress)، الذي تحول إلى سردية كبرى بُنيت عليها “ديانة” الحداثة الغربية برمتها. جوهر فكرة التقدم هو الاعتقاد بأن التاريخ الإنساني تاريخ ارتقاء مستمر ومتصل من الأسوأ إلى الأفضل، فالاعتقاد الحداثي كما يقول جلال أمين يفترض في التقدم أنه تقدمٌ في الحياة كلها بوجه عام، وفي الحياة كلها مأخوذة ككل، والتفضيل العامّ للحاضر على الماضي، وللمستقبل على الحاضر، ليس في هذا الشيء بعينه أو ذاك، بل بصفة عامة، أي الاعتقاد بأن الإنسان لا يطرأ عليه قط تقهقرٌ إلى الوراء أو إلى الأسوأ، بل إنه يتحسّن باستمرار. هذا الاعتقاد في التقدم مبثوثٌ في منتجات الحداثة المادية بأسرها من أفكار وإيديولوجيات وكتب ومقررات دراسية وبرامج إعلامية وسياسية، وحتى المواد الاستهلاكية تقدمها الدعاية التجارية على أن منتَج اليوم يفوق منتج الأمس في كل شيء. بهذه الطريقة اطمأن الإنسان أنه ليس بحاجة إلى الدين أو إلى أي مطلقات أخرى تفسر له الكون والحياة وتضمن له المستقبل، فقد تكفلت الحداثة الرأسمالية بذلك، ولا داعي أيضا للإيمان بالآخرة وانتظار جنة غيبية لا يعلم عنها الناس شيئا سوى ما يخبرهم به رجال الدين الذين ثبُت أن الكثير منهم فاسدون وكاذبون، في المقابل فإن “أنبياء” الحداثة الرأسمالية على ما يبدو أكثر صدقا فيما يدّعون؛ فالعلم الطبيعي الذي يطورونه يحّسن فعلا طريقة الحياة اليومية ويسهّل بشكل ملحوظ أساليب التنقل والتواصل والزراعة والصناعة والعلاج ويصنع الرفاه بما ابتكرته هذه الحداثة من منتجات، فعلى ما يبدو أن “دين الحداثة” الجديد جادّ فيما يبشر به من تقدم ومن تعجيل بإنزال الجنة من عالم الغيب والآخرة إلى عالم “الآن وهنا”، فدينُ الحداثة إذن أصدق وعدا من دين المسيح الذي يعد بما لا ينجز. وبهذه الطريقة تحول الناس من دين الكتاب إلى دين العلمانية الرأسمالية أفواجا أفواجا وأصبحت العلمانية بالفعل ديانة عالمية.

بدّلت ديانة الحداثة العلمانية الرأسمالية المفاهيم التقليدية عن الكون والحياة رأسا على عقب، فأصبح العلم الحديث هو المجيب عن الأسئلة الكبرى بدلا عن الكتاب المقدّس، وتغيرت طبيعة الوجود أيضا، فبينما كان العالم هو مجموعة من الأجوبة مصدرها الدين، تحول إلى مجموعة من الأسئلة عند فلاسفة التنوير الرأسمالي. وتحولت أيضا طبيعة المعاش، ففي المجتمعات التي لم تعرف الرأسمالية عمد الناسُ إلى صنع البضائع أو امتلاكها من أجل استخدامها في معظم الأحوال، بينما يعمد الناس في ظل الرأسمالية إلى إنتاج البضائع أو امتلاكها في الغالب لا من أجل استخدامها بل من أجل مبادلتها، والأمر أكبر ثوريةً في حالة النقود، فالسمة الأساسية في الرأسمالية هي أنه يمكن استخدام النقود لصنع نقود أخرى بطريقة أسرع بكثير من صنعها عن طريق التجارة والصناعة، فعندما وُلد “الإئتمان” والعمل المالي أصبح الحديث عن النقود وعن المال يشبه الحديث عن كائن حيّ يتوالد وينمو، وعبر إعطاء النقود صفة الكائنات الحية تم تطبيع الحس العامّ على الطريقة الجديدة لخلق المال وتم إخفاء التفاعلات الخفية وراء خلق هذا الكائن الخرافي الجديد الذي يولّد النقود من الدين، وهي تفاعلات سامة على الأمد الطويل لم يكن بوسع المؤمن العلماني الجديد أن يكتشفها إلا عن طريق آثارها اللاحقة.

في البداية بدأت العلمانية الرأسمالية بتغيير بمفهوم الناس عن الزمن، فقبل الرأسمالية كان الناس يقيسون الزمن بالنشاط في حد ذاته؛ فحين ينتهي نشاط ما يبدأ الذي يليه، وبذلك يتحدد الزمن دون قياسه بعقارب الساعة، لكن مع التصنيع أصبح الوقتُ كيانا لا يمكن إضاعتُه فقد أًصبح “الوقت هو المال”، وهذا يعني أنه قد حان الوقت لتشجيع الفكرة القائلة إن الكسل هو “شرٌّ كبير” وبشكل سريع تم ربط البطولة بالتعب والعمل والخيبة والعاربالخمول والكسل، وبذات المقياس أيضا تمت شيطنة “المتعة” و”الترف” فصار وقت الترفيه عرضة للإنتقاد من طرف المجتمع إذ أصبحت المتعة والكسل “وجهين لعملة واحدة”. وساهمت النسخة المعدلة رأسماليا من المسيحية في هذا الأمر إذ كانت الأوساط الدينية تعتبر أن “الترفيه خطيئة” فلا بد لكل الجهود أن تتوجه إلى “الإنتاج”. والتحق التعليم أيضا بركب الديانة الجديدة للرأسمالية، ففي أواخر القرن التاسع عشر اقترح المصلحون الاجتماعيون في الغرب -كما يروي إدوارد تومسون- أن يرسل الأطفال الفقراء إلى العمل في المشاغل في سن الرابعة من أجل التطبُّع على العمل، وبعد ذلك يلتحقون لمدة ساعتين بالدراسة كل يوم. يقول تومسون: “هناك استخدامٌ ملموس لهؤلاء الأطفال، كونهم بطريقة أو بأخرى يعملون باستمرار لمدة اثنتي عشرة ساعة يوميا سواء كانوا يكسبون رزقهم عن طريق هذا العمل أم لا، لأننا نأمل من خلال اتّباع مثل هذه الطرق أن يستطيع الجيل الناهض الاعتياد على العمل المتواصل لكي يبدو الأمر لهم في النهاية مقبولا ومسليا في الوقت ذاته”.

ما الذي حدث بعد ذلك؟

أدى مشروع بناء العامل الذي لا يملّ إلى إنتاج سلع كثيرة ساهمت بدورها في خلق المستهلِك الذي لا يشبع، وظهرت التناقضات الكامنة في ثقافة الرأسمالية. استغرقت عملية بناء المستهلِك في دول الغرب الصناعي قرنا من الزمان حتى اكتملت ثقافة الاستهلاك كما هي الآن، لكن تصدير هذه الثقافة إلى العالم بعد اكتمالها في الغرب لم يستغرق إلا بضع سنوات، فحسب دراسات حديثة يمكن اعتبار27 بالمائة من سكان العالم أعضاء في المجتمع الاستهلاكي، يقول ويليام ليس: “إن الرأسمالية تمسك وبدون منازع بكل ناحية من نواحي الحياة الأمريكية، من السياسة إلى الثقافة بحيث تبدو الولايات المتحدة أمام باقي العالم مثل معرض للموضة، فبالنسبة للأمريكيين أدى تنامي قوة الاستهلاك إلى تفسّخ وانحلال ما تعنيه أن تكون أمريكيا أو ما تمثله أمريكا”. بهذه الطريقة تغيّر دين الرأسمالية؛ فبعد أن كان العمل هو المقدَّس صار الاستهلاكُ هو القداسة، وبعد أن كان الكسل عيبا مشينا، صار من الغباء أن تصرف عمرك في العمل، فمع وفرة الإنتاج بفضل تقدّم التقانة، بدأت عقيدة الناس تتحوّل من الإنتاج إلى المضاربة في أسواق المال، ومن الاقتصاد الحقيقي المبني على الجهد إلى المقامرات والديون.

هل تسير الرأسمالية عكس عقارب الساعة؟

الجواب باختصار، لا. لأن عقيدة التقدّم العلمانية التي تفترض أن التاريخ يتقدم دائما نحو الأحسن، والأحسن دائما وجهته إلى الأمام، ستحول دون حصول أي فرصة للمراجعة، والعقيدة العدمية المنافِسة لعقيدة التقدم والتي أرخت بظلالها منذ بداية القرن العشرين لا تسمح أيضا بإجراء أي مراجعة للرأسمالية لأنها عقيدة لا تؤمن بالبدائل، وإن كانت تحسن توصيف أزمات الرأسمالية، لكنها في الأخير ترى بأن نهاية الإنسان تنتهي بنهاية الرأسمالية. في ظل هذا الوضع يبدو أن التحولات العميقة التي طرأت على الحياة الروحية للإنسان وعلى طبيعة النقود وعلى علاقة الإنسان بعالم الأشياء غيّرت شكل المؤسسات الاجتماعية المتولدة عن العلمانية ولم تترك أي فرصة لإصلاح عيوب المجتمع الإستهلاكي، ومن هنا نفهم ماذا كانت مارغريت تاتشر تعني وهي تبشّر بالليبرالية الجديدة حين أعادت تعريف المواطن بأنه “المستهلِك”.
ولعل هذا هو السر في أن الغرب الرأسمالي سمح مضطرا بنقل تكنولوجيا التصنيع خارج الجغرافيا الغربية تحت ضغط الحاجة إلى السلع الاستهلاكية المستورَدة بعد أن قلّ من ينتجها في البيئة الاستهلاكية المفرطة في الغرب، وهي بيئة مترفة حسب تعبير جون كينت جلبرايث، ومعادية للعمل الشاق بسبب ضمور أخلاق البطولة التي تأسست عليها الرأسمالية الصناعية التي تعلي من قيمة الوقت وتقدّس العمل المُرهق وتحاصر الاستهلاك والمتعة. ومن هنا نفهم ماذا يقصد المفكّرون الغربيون عند حديثهم عن نهاية الغرب ونكول الحداثة عن وعودها بالفردوس الأرضي بعد أن تبيّن أنه حتى رجال دين العلمانية الرأسمالية يكذبون.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!