لمن شـاء منكم أن يستقيم !
ضيفٌ عزيزٌ في طريقـه إلينـا، المدخنون منا سيستحُونَ منه ومن أنفسهم فيُقسمون بالله أن يُقلعوا عن التدخين إلى الأبـد بمجرد ثبوت رؤيته، والمقـصـرون مـنا في حق المولى عـز وجل سيستحونَ من ربهم ومن ضيفهم فيشرعـون في الصلاة أسبوعاً قـبل إطـلالـته، أما البيوت الجزائرية فستستقبله ــ كعادتها الكريمة المتفرّدة ــ بتيجان الزهـر وأكاليل الرياحين .
- والجزائر فيما أعلم هي البلد الوحيد من بين بلدان العالم الإسلامي الذي يكرم شهر رمضان الفضيل بشكل متميّز لا مثيل له بين سائر بلدان المسلمين، حيث يتخيّله الناس ضيفاً حقيقياً.. بشـراً مـن لحم ودم، فيتأهبون لاستقباله بإعادة طلاء المنازل، واقتناء أوان جديدة بدءاً من الصحون وانتهاءً بالملاعق حتى لكأنه سيشاركهم أكلهم وشربهم، وصيامهم وقيامهم.. ويستعـدون لاستقباله بما ينبغي أن يُستقبلَ به الضيف المبجّل فـيحرصون على التأكيد أنهم هم الضيوف وهو ربّ المنزل.. يرحَـلُ منهم الآلاف كلَّ سنة إلى الأبد، بينما يبقى هـو صاحبَ الدار الذي يعود إلى بيته كل عام منذ ملايين السنين معززاً مكرماً محفوفاً بتيجان الزهـر وأكاليل الرياحين !
ومثلما ينتهـز بعـضكم فرصة حلول الشهر الكريم للاستقامة والإقـلاع عن التدخين والعودة إلى الله، فسأنتهز بدوري فرصة رمضان لأتوقـف عـن الكتابة نزولاً عـند رغبةِ بعـض القـراء الـذيـن تكـرّموا فنصحـوني ــ والدينُ النصيحة ــ بالتوقف عن الكتابة والعودة من حيث أتيت !
والحقيقة أن بعض القراء يخيفونني عندما أقرأ لهم على الموقع الإلكتروني للجريدة تعاليق تفيد بالمعـنى الصريح الواضح أنني لا أكتب إلا كلاماً فارغاً يُـسوِّد الصفحات، وهو ما يجعلني أخشى أن تندرج “كتاباتي” في خانة اللغـو المفسد للصيام.. ولذلك لم أجـد فرصة للاستقامة سوى حلول الشهر الكريم فأطـلبَ من إدارة هذه الجريدة أن تأذنَ لي بوضع نقطة على السطـر وأنصـرف، خيفة أن أفسـدَ صومي باللغـو، وأفسد صيامكم بقراءة ما أكتب !
أي نعم، تخيفـني هذه التعاليق التي تصنِّـفُ “كتاباتي المتواضعة” على أنها من مفسدات الصيام أكثـر مما تسعدني عبارات الثناء والإطراء،، ذلك بأنني عـملتُ ـ خلال أحـد عشر لقاءً معكم ـ على أن لا أتوقف عند محطة واحدة ولا أكتب في موضوع واحـد، حتى إذا “عميتها” في مقال أصلحتُ في المقال الموالي ما أفسدتـه، وقد كـان ذلـك شَـرطـي الأول على الـجريدة عـندما قـررتْ إدارتهـا أن “تفرضَ” عليكم إطلالتي الأسبوعية، وكان الشرط الثاني والأخير أن لا أكتب سوى يوم الجمعة، حيث “مساحة المقروئية أضيق وحجـم التأثير أقــل”!
في البداية استأذنتُ عليكم في الدخول بـ”ورد أقـل” فلم أعـدمْ مـن عنفني ووبخني بشدة، متسائلاً عن السبب الذي يجعل الواحد منا ناقداً بارعاً عندما يُطرد أو يُهمش، مع أن أغلب القراءيعرفون أنني لست موظفاً أجيراً لدى أحـد حتى يطردني أو يهمشني، فقد قدمتُ استقالتي لمؤسسة التلفزيون كموظف منذ العام 1994 من القرن الماضي، أي منذ ما يقـرب من عشرين سنة.. والأعـمال المتواضعـة التي كـنت أقدمها لـكم ــ مرة واحدة في السنة لا أكثر ــ كنت أنتجها من خـلال مـؤسستي الخاصة، كما هـو الشأن بالنسبة لبرنامجي “خاتم سليمان وفرسان القرآن ” ، أو بالتعاون مع مؤسسات إنتاج أخرى، كما هو الحال مع برنامج ” ساعة من ذهب ” الذي قمت بتصميمه وإعداده، وقام بإنتاجه المخرج القدير الفنان الأستاذ محمد أوقاسي من خلال مؤسسته .
وعندما غـنـيتُ أمامـكم “سلامتها أم حـسـن” بلحـن مغـاير انهـال عليّ “الأشقاء” المصريون بوابل من السباب والشتائم على مواقع الأنترنت مسَّـتْ حتى والدتي البتول الطاهـرة التي لا تقرأ لحسن الحظ ما أكتب وما يُكتـَبُ عـني!
وعندما خـُضـتُ في تاريخ بلادي مـن خلال مقارنـة شعـير سنة 2010م بقـمح عام 1830م، قـالــت إحـداهـن إنـه مــجـرد كـلام مـن أجـل الكلام، وقـالت أخــرى: إن “الوطنية” ليست في حفظ النشيد الوطني، بدليل أن أهلها في فرنسا يشدهم الحنين إلى شواطئ الجزائر وتدمع أعينهم لفراق مطاعم سـطاوالي ودرارية رغم أنهم لا يحفظون نشيد قسَماً، وتلك هي الوطنية الحقة في رأيها.. لكنها لم تقـل للقراء إن فرنسا على طولها وعرضها لا توفـر لإخواننا “في غـربة الدوفـيـز” بـ2 أورو يوماً جميلاً على شواطئ سيدي فرج، وبـ10 أورو ما توفـره مشاوي درارية ومثلجات سطاوالي من ملذات لبطون لا تشبع في فرنسا بهذا المبلغ الزهيد !
وعـندما بحـثتُ عـن “خاتم سليمان” بين أكوام المشاكل التي تجابهنا يومياً اتّهمني بعضهم بتصديق أسطورة يهودية لا أساس لها، وانشغـل بعضهم باستخراج “أخطائي اللغوية” التي لم يَفصل بشأنها سيبويه في “الكتاب”، بينما راح البعض الآخـر يطالبني بالحديث عن الإيجابيات بدل تقفّي آثار السلبيات !
وعندما وقـَّعـتُ على مسؤوليتي “تصريحاً بضياع فـلسطين” لم أعـدمْ من نصحني بالتوجه إلى “الأخت جيجيكة” وأخـذِ العـلم على يدها حتى “تكـون لي أفكار جيدة”، مع أنني لم أتـشـرف حتى الآن بالتعـرف إلى “الأستاذة جيجيكة” ولا أعرفُ ما إذا كانت ستقـبلني تلميذاً لديها. . ولا اعتراض لديّ، فأنا مستعـد لطلب العلم ولو عـند ” الـدالاي لاما ” في الصين الشعبية، فما بالك إن كان هذا العلم على مرمى حجـر منّي في بوزريعـة وبين يدي امرأة !
ولما كـتبتُ في موضوع “الأقربين بالمعروف” من بـاب: “من رأى منكم منكرا فليغيره.. بلسانه إن لم يستطع تغييره بوسائل أخرى”، انهالت عليّ عبارات الإشفاق تترجّاني أن لا أقـترب مـن النار حتى لا أحترق، وألح عليّ أصحابها أن أركـز كـثيراً على مسـألة الاحتراق لا عـلى النار،، حتى أن أحدهم نبّهني إلى أن كل ما أكتبه يُسجـلُ في صحائف ستـضـرني يومَ لا تنفعـني الجريدة ولا قـراؤها،، وأخـبرني هذا الصـديق “الطيب الحميم” أن هذه الصحائف لا تسجـَّـلُ فيها مناقبك وإنما تـُدون فيها مثالبك، ولا يُـلتفتُ فـيها إلى جلائل أعمالك الحسنة الخيّرة التي سبق وأن قمتَ بها، وإنما تسجلُ فـيها هـفـوات أعـمالك السيئة،، والسيئة الواحدة ـ في الميزان البشري ـ بعـشـر أمثالها، بخلاف الميزان الإلهي العادل الذي يسجل الحسنة الواحدة بعـشر حسنات، بينما يـسجل السيئة الواحدة كما اقترفتـَها، سيئة واحدة فقط لاغـير، ولا يعامَـلُ فيها مـن اعترفَ بأنه خـَلـَط عـملاً صالحًا وآخـر سـيّئاً معاملة المذنب التائب !!
ولما وقعـتْ بين يدي ورقة تتضمن “قراءة في فنجان مقلوب” وأردت أن أتحفكم ببلاغتها وفصاحتها وعِـبَـرها الصالحة لكل زمان ومكان، انهالتْ عليّ التعاليق تتهمني بالإيمان بالعرافات الشوافات القزانا، رغـم تذييلي للمقال بالحديث النبوي الشريف: كذب المنجمون ولو صدقوا، بينما نصحني القارئ “فـيفـو” أمام الملإ ــ بما يجعل النصيحة ذنباً وذمًّا وتشهيرًا ــ بأن أتجـنّب توظيف الجملة القرآنية في مقالاتي، ويسـتند هـذا القارئ ــ المتـشبه في اسـمه بمن نهى نبينا عـن التشبه بأسمائهم ــ إلى ساداتنا العلماء دون أن يذكر واحداً منهم، مع أن ساداتنا العلماء يُرغـِّبون في بث التعبير القرآني بين الناس حتى تستقيم لغتهم وتـقـوى صلتهم بهذا الكتاب المعجز البديع الخالد.. وذهب قارئ آخـر في تقييمه للمقال بأن مستواه ضعيف بالمقارنة مع المقالات السابقة، وكأنه يطـلب من الكاتب أن تكون كل مقالاته متوازية كقضبان السكة الحديدية لا ترى فيها عِـوَجاً ولا أمْـتا، مع أنه يدرك أنني لا أكتب بأصابع الروبوت المتساوية، وإنما أكتب بيد بشرية من لحم ودم أصابعها مختلفة الطول، وبالتالي فلكل مقـال مقامٌ في الطول والوزن، والضعف والقوة، والنكهـة والمذاق!
وعندما “غاضني” أمـر المتنبي وهو يواجه مع ابن خلدون بصدر عـار سهام صديقي الودود اللدود أمين الزاوي ــ الذي انبرى لذكـر مساوئ موتانا الخالدين ــ ظـنّ بعـضكم أنني مثل محام مبتدئ يبحث عـن شهرة من خلال شهرة موكلـه، بينما يعـرف الجميع أن رجلا عظيماً كالمتنبي لم يتركْ لأحـد فرصة للشهرة على حسابه بعـد أن مـلأ الدنيا وشغل الناس إلى يوم يبعثون.. ثم إن الدفاع فـي بلادنا عـن “شخص” كالمتنبي لا يمكن أن يشهر لصاحبه بل يشهـر به، فيحشر في طائفة منبوذة اسـمها:
” المعربون في الأرض ” !
ورغم حرصي في التعـقـيب بلسان ناقد مؤدب مهذب، فقد “قال الزاوي يا سادة يا كرام” إن الكاتب ضعيف ثقافة تاجـر دين، بل لم يتورّع أن وصفَ ما كتبته بأفضع من اللغـو، إذْ رماني بتهمة التحريض على القتل والتبشير بالكراهية، مـع أنني والله يشهد لم أقـصدْ مـن وراء تعـقيبي على صديـقي الزاوي سوى أن أفـجر “بالون اختبار” في ساحتنا الثقافية الراكدة التي اتضح لي فيما بعـد أنني كنت مخطئاً بشأنها، لأنني كنت أنتظـر أن يـَفتح هذا السِّـجالُ لكُـتاب الشروق باباً في الموضوع فيدلوا بدلائهم، وأن يتحفنا أدباء الجزائر ونقادها بـآرائهم، وأن لا يـنتـظر المدافـعـون عن اللسان العربي ” واحد شاوي مثلي ” لا تربطه علاقة نسب بالعـربية ليخوض فيما ليس له فيه، فيهُـبوا عـن بكرة أبيهم للدفاع عن لسانهم، ولكن .. !!
لكنني قـلَّبتُ كلام صديقي ” الطيب ” على جميع أوجهه، وبالأخـص عـلى صحائفِ السيئات التي تـُدونُ فيها مثالب المرء و ” كتاباته السيئة ” فـتملّكني ــ مـما سبق وأن كتبتْ يداي ــ خوفٌ شديد :
تملّكني مثلاً خوفُ أن تكون سفارة دولة فلسطين الشقيقة في بلدنا قـد سجلتْ عليّ في صحائفها “تصريحي بضياع فلسطين”، وبالتالي فستحرمني من تأشيرة الدخول إلى القدس والصلاة في المسجد الأقصى بعد تحريره عام 2048م كما توقع فيلم يهودي ستشاهدونه بعد شهر!
وخشيتُ أن تكون سفارة العراق قد سجلتْ عليّ في صحائفها حديثي عن الفساد السياسي والديني والطائفي الذي ينخـر بلاد الرافدين فتحرمني من زيارة مهد الحضارة الإسلامية الزاهية والتبرك بالعتبات المقدسة يوم يسترجع العراق استقلاله وسيادته بعـد خروج هـولاكـو من بغـداد مذؤوما مدحورا !
وخـفـتُ أن تكـون سـفارة مـصـر قد سجـلتْ عليَّ أدائي الـنشاز لأغـنية ” سلامتها أم حسن ” فتعاقبني بالحرمان من دخول مصر ” آمـناً ” يوم يضع أحـد ابنيه على العـرش !
وخفتُ أن تـُضاف خطبة الجمعة الماضية إلى صحائفي السوداء في بلدي فأحـرمَ من التبرك بزردة تلمسان ” الهيلولة ” المزمع إقامتها عام 2011م !
أما ” قراءة فنجان الجمعة الأخيرة من شعبان ” فقد صنّفها المعلقون في خانة اللغـو مع سبق الإصرار والترصـد وبحكم نهائي غير قابل للطعـن !
لهذه الأسباب ومن أجلها، وأمام هذا الرعب الشديد الذي يتملكني، وأمام السـيل الجارف المخيف من انتقادات بعض القراء التي تـَنصَبُّ في مصب اتهامي باللغـو الذي أوصى رسولنا المصطـفى في أحاديثه الشريفة باجتنابه ــ خـصوصاً في رمضان ــ مراعاة لآداب الصيام، أجـدُني أستأذنُ الجريدة وأستأذنكم في الانصراف والعودة من حيث أتيت حرصاً على صحة صومي وصومكم،، فـلعـل “الشروق” تصبح أحسن حالاً من وجودي على صفحاتها التي تتوق أن لا يكون فيها خلال شهر الصيام لغـو ولا تأثيم!
أما الإخوة الذين أمطروني بوابل المديح وتعاليق الثناء بطريقة “لا فـض فوك يا سُـليمان” فـأنـا “أوكل عليهم ربي”، لأن شخصا آخـر سواي كان يمكن بمثل هذا الكلام أن يعتلي صهوة الغـرور ولن ينزلَ بعدها إلى الأرض أبدا!فاصل ” غـيـر ” قـصير :
أدرك جيداً أن الجماهير “الشعبية” لن تخرج في مسيرات عفوية للمطالبة بعودتي إلى الكتابة كما تفعل عندما يهـدِّدُ حاكمٌ عربي بالاعتزال، فجماهيرنا ترفع شعار: “واش زاد فيك ربي؟ كلنا أبناء تسعة أشهر”، وجماهيرنا “الشعبية” لا تعترف لأحد بالنجومية، لأنها نشأتْ في ظـل نظام اشتراكي يتساوى فيه الثرى مع نجم الثريا، والأعمى مع البصير، والذين يعلمون مع الذين لا يعلمون، وباختصار شديد: لا فضلَ فيه للنهار على الليل كما زعـم ذلك الروائي القائل: في فرنسا لا يحبونني!
الفضل الوحيد هو للقراء الكرام الذين نصحوني وهاأنـذا أمتثـلُ للنصيحة، والفضل الأوحـد لرمضان فقد أتاح لي منفذاً واسعاً يُخـْرجُ جَمـَلاً بحاله وها أنذا أخـرج من أوسـع أبوابـه، وسأحتفـظ لتعليقاتكم بفضل حسن التخلص، ولرمضان بجميل الهداية إلى الصراط السـوي، فهو فرصة سنوية “لمن شاء منكم أن يستقيم”، وسأسعـد أن أكون في مقدمة من ينشدون الاستقامة، وفي نهاية هذا “البيست أوف Best Of” أعتذر لكم جميعاً عن كل ما قدمتُ وما أخرتُ فلعـلّ الله يغـفـر لي بصيامي ما تقدم، أما ما تأخـر من الذنب فأعينوني عليه بالدعاء، وقديماً بدأ الكاتب مـقالاته في الشروق بعنوان : ” ورد أقـل ” ، وليتـه ختمها اليوم بعـنوان : ” لـغـو أقـل ” !!
ويا رمضان هلّ هلالك، والجزائر هي دارك .. وكل عام وأنتم جميعاً بألف خـيـر ..