-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لوح الصّلصال.. واللّوح الالكتروني

لوح الصّلصال.. واللّوح الالكتروني

لقد أصبح البون شاسعا بين جيل لوح الصلصال وجيل اللوح الإلكتروني… فقط أن الجيل الأول كان يَصنع لوحه ومِداده وقلمه وصلصاله بيده، أما الجيل الثاني فلم يَبق بيده سوى أصبعه يُحرِّكه يُمنة ويُسرة وهو يعتقد أنه امتلك التكنولوجيا والعلم وبإمكانه أن يستغني عن خدمات الجيل الأول لأنه قَديم وأصبح مُنتهي الصلاحية…

أزعم أنني استطيع كما كل جيلي أن يحكم بموضوعية في مسألة الاستقطاب الملاحظ اليوم بين الجيلين الأول والثالث إلى حد الصراع أو التهديد باستخدام القوة في شكل خروج للشارع ورفع شعار: ارحل… نحن جيل تعلمنا في الكتاتيب مستخدمين اللّوح الخشبي والمداد المصنوع محليا من الصوف المحروق وبعض الأعشاب، وكَتَبنا أولى الحروف العربية بقلم القصب الذي كان يهديه لنا كبار القرية كصدقة جارية، ولكننا في ذات الوقت تعلمنا أولى الحروف الفرنسية على يد النزر القليل من المعلمين الجزائريين وما بقي من معلمين وأساتذة فرنسيين ممن فضَّلوا عدم مغادرة الجزائر بعد الاستقلال، ثم في سنوات لاحقة على أيدي ثلة من أولئك الأساتذة الذين تم استقدامهم من كافة القارات لفتح أولى الأقسام الثانوية والجامعية من باكستان إلى كندا مرورا بالعالم العربي وأوروبا وأمريكا.. وكانت الفرصة بعدها لعدد كبير منّا أن يستفيد من منح دراسية بالخارج ليُتم ما بقي له من تعليم.. عاد معظمنا وبقي البعض الآخر إلى اليوم. ولكننا إلى اليوم رغم قدرتنا على مسايرة العصر، وتمكُننا من استخدام اللّوح الإلكتروني بالكفاءة اللازمة، لم ننس أننا أيضا كُنَّا ذات يوم نكتب بقلم القصب الذي صنعه لنا شيخنا “سي بن يحيى” في القرية التي كنت أسكنها أو أي من الأسياد والشيوخ الآخرين الذين كانوا يؤمنون حق الإيمان بأن القلم والحرف هما أساس التقدم. “»ن * والقلم وما يسطرون« صدق الله العظيم.

جيلنا لم ينس أبدا لوح الصلصال، لذلك ما زال اللوح الإلكتروني لم يبهره بعد، أما الجيل الأول فهو إن عرف لوح الصلصال لم يعد يرغب، بل ولم يعد يستطيع حتى وإن رغب، في أن يعرف أي شيء عن اللوح الإلكتروني، أما الجيل الثالث فلوح الصلصال هذا من ماض غريب عنه قد يعود إلى القرون الغابرة وليس فقط إلى عقود خلت، أما اللوح الإلكتروني فهو الحاضر والمستقبل والحقيقة المطلقة.

جيلنا يدرك ما للوح الإلكتروني من أبعاد ودلالات وتأثيرات، أما الجيل الأول فهو بالنسبة له، مجرد أداة عبثية لا يمكنها أن تصنع التقدم، ولا أن تشكل خطرا على استقراره بل وعلى بقائه وبلده أيضا، أما الجيل الثالث فهو من غير نقاش لا يريد سوى هذه الألواح، ولا يترقب سوى الانتقال إلى أعلى جيل منها غير مبال بما تحمله من مخاطر ولا باحث عن صناعتها بنفسه باعتباره ينظر أن تلك هي مسؤولية الآخرين…

  لذلك، أزعم أن الجيل الأول لا يدرك بالدرجة الكافية خطر التكنولوجية الجديدة على الدولة وعلى الصراع السياسي وعلى الاقتصاد والتعليم والتنمية والقيم والأخلاق وحتى الدين: الأرض بالنسبة له لا يمكنها أن تُحكم عن بعد، والسيطرة على العقول لا يمكنها أن تتم عبر من يتحكمون في تكنولوجيا الفضاء، واستغلال الثروات الباطنية وتسيير الأموال التي تدرها لا يمكنها أن تستنزف إلكترونيا، والمعلومات التي تحافظ على أسرار الدولة لا أحد يستطيع وضع اليد عليها لأنه مازال يعتقد في إمكانية محوها بالماء كما تُمحى كتابة الصلصال…

كما أنني أزعم أن الجيل الثالث لا يدرك هو الآخر نفس هذا الخطر وبنفس الدرجة أو أكثر، باعتباره ليس فقط من المستهلكين إنما من الذين أصبحوا غير قادرين على الاستغناء عن هذا الاستهلاك، وممن لا يريدون طرح السؤال: هل الأقلام والألواح الإلكترونية التي بأيديهم هي من قبيل الصدقة الجارية كما هي تلك التي كانت تُقدم لنا أيام زمان أم هي من قبيل السلاح الذي لا نعرف كافة استخداماته ولا نستطيع إصلاحه عند العطب، بل ولا نعرف مكوناته وما إذا لم يكن بعض ما فيها مما سيخرب عقولنا ذات يوم…؟

ولذا أصبح لزاما علينا اليوم أن نطرح ضمن رؤيتنا المستقبلية موضوعا كبيرا عنوانه: “إشكالية تعامل الجيل الثالث مع التكنولوجيات الجديدة للمعلومات وأساليب التكيف معها في القرن الحادي والعشرين”، وموضوعا آخر عنوانه: إشكالية الصراع بين جيل لوح الصلصال وجيل اللوح الإلكتروني وعلاقة ذلك بالأمن القومي الوطني وبقاء الدولة الجزائرية” وثالث بعنوان: مخاطر وتهديدات الجيل الثالث من انترنت عل توجيه الجيل الثالث من الشباب لبناء أو تحطيم الدولة”…الخ، وهكذا إلى ما لا نهاية من المواضيع الشائكة التي تندرج جميعها ضمن عنوان واحد تلخصه جميعُ الإيحاءات التي تحملها عبارة ” لوح الصلصال واللوح الإلكتروني”!

إننا كبلد واكب استقلاله تحولا سريعا حصل في تكنولوجيا المعلومات منذ منتصف السبعينيات، في حاجة إلى النظر إلى واقعنا بكيفية مختلفة عن الشعوب الأوروبية والآسيوية التي تمكنت لأسباب تاريخية واقتصادية أن تصنع بذاتها التحول وتعيشه لحظة بلحظة، لذلك لا تَصطدم به.

 إننا كبلد تم إخراجه تماما من التاريخ طيلة أكثر من قرن وربع القرن من الزمن، وتم تجهيل أبنائه وبناته، لا يستطيع في لحظة من استفاقته أن يلم شتات فكره ليرى بموضوعية كل ما حوله، لذا تجده مذهولا تائها غير قادر على الاختيار وبإمكانه في أية لحظة أن يخطئ الاختيار. وهو ما حدث في أكثر من موقع وبدون سابق إنذار، ونحن لا نريده أن يحدث مرة أخرى، وإن حدث لا نريده أن يعم ليُصبح خارجا عن السيطرة.

وليس أمامنا من حل لهذه الحال المتشابكة والمتداخلة أفضل من استباق الفعل قبل حدوثه، من التعرف على مخارج بقية الطريق اليوم قبل الغد. وهو ما نسعى إليه: أن ننزع فتيل الصراع بين جيل لوح الصلصال وجيل اللوح الإلكتروني. وليس هناك من بيده هذه القدرة سوى الجيل الثاني القادر على فَهم رموز اللوحين معا.

إن مسؤولية جيلنا، في هذا الظرف بالذات هي هذه ولا يمكن لغيرنا أن يتحملها، وليس من قبيل الأنانية أبدا أن ندعو إلى ضرورة أن يلعب الجيل الثاني دوره لأجل مستقبل بلدنا واستقراره وأمنه، لأنه إذا لم يقم بذلك، فالصراع لا محالة سيكون صفريا إذا ما حدث بين من لم يلمسوا قط اللوح الإلكتروني ومن هم الآن يعتبرون حديثي عن لوح الصلصال الخشبي والقلم القصبي والمداد الذي كنا نسميه “الصمغ” وأحيانا نتذوق طعمه بألسنتنا، من قبيل الحديث المقتبس من ألف ليلة وليلة ولا علاقة له بالحاضر أو بالمستقبل… 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • بدون اسم

    عيب عليك....كما تدعو على الناس تقول الملائكة. و لك مثله. ايضا لا تضع كل البيض فى سلة واحدة.ليس كل الاساتدة انتهازيين او سراقين....