الرأي

لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله؟

التهامي مجوري
  • 12395
  • 10
ح.م

لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله ما قلتها.. هكذا نقلت العبادرة عن الشيخ عبد الحميد ابن باديس رحمه الله، عندما طلبت منه فرنسا أن يرسل لها ببرقية تأييد مناصرة لها في حربها ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية سنة 1939.

تذكرت هذه القصة عندما رأيت العدد الجديد لمجلة “جون أفريك” الأخير المكتوب على غلافه “أحمد القايد صالح: الرجل الذي يهدد الثورة”… وتساءلت بيني وبين نفسي.. ماذا تقول “جون أفريك” لو كانت قيادة الجيش بيد خالد نزار، وقصف بضعة آلاف أمام البريد المركزي، كما قصف بضع مئات وهم عائدون إلى بيوتهم فالعاشر من أكتوبر سنة 1988؟ بل وماذا قالت يومها؟ ورحت أتساءل هل “جون أفريك” تتكلم من فراغ؟ هل هي جادة فيما تقول؟ ما علاقة ما تقوم به اليوم فرنسا الرسمية؟ وما دخلها بما تقوم به مؤسسة الجيش؟ وما علاقة موقف “جون أفريك” هذا بموقف الجيش من حلفائها الطبيعيين؟ وما دام أحمد القايد صالح متآمر على الثورة!! لماذا تأخرت جون أفريك” إلى الآن؟ أم أنه كان داعما للثورة فسكتت، ثم لما تراجع وتخلى عنها تكلمت انتصارا للشعب الجزائري؟

إن تبني مجلة “جون أفريك” خطاب معاداة الجيش الجزائري، عن طريق لمز رئيس هيئة أركانه، لا يمكن أن يكون بريئا.. فقول مجلة “جون أفريك” كلاما عن أي مسؤول في الجزائر وعن قيادة الجيش بالذات، لا يمكن أن يفهم إلا بعكسه، وهو ليس كقول أي جزائري.. يحب البلاد ويحرص على سلامتها، سواء كان هذا المسؤول من العسكريين أو من المدنيين… ولذلك لا أجدني مضطرا لأن أعمل عقلي أو أستدعي المنطق الأرسطي، لأفهم ما تريد “جون أفريك” ومن ورائها الموقف الفرنسي الرسمي، بجميع روافده بالجزائر وفرنسا.

إن قيادة الجيش الجزائري مهما قلنا عنها فيما يتعلق في المخالفات السياسية، لا يمكن أن تكون بالحجم الذي يخدم فرنسا، وقد حصلت عليه –بكل أسف- في بداية التسعينيات بفضل عمالة أتباعها، عندما قاموا بالانقلاب على الشعب سنة 1992، يوم كانت قيادته بيد أناس من غير جنسه..، نزار وجماعته -واجهة حزب فرنسا- ولكن المتابع للشأن السياسي بالجزائر يلاحظ أن الانقلاب وقع في يناير 1992، وما إن دخل العام 1993، حتى استدعي الجنرال لمين زروال –المجاهد- المحسوب على التيار الوطني، الذي لم يكن منهم، لتولي منصب وزير الدفاع الوطني، ثم رئيسا للدولة قبل انتخابات 1995، وأنا شخصيا أعتبر أن تلك اللفتة من قيادة الجيش، كانت بمثابة البراءة مما قام به حزب فرنسا ضد الشعب، ولكن بحكم أن منطق العقل يومها كان غائبا، فقد ارتكبت أكبر الجرائم بحيث كانت مرحلة زروال هي الأكثر دموية على الاطلاق، وكأنهم كانوا يريدون إلباس الجريمة زروال وفريقه، ومن ورائهم الجيش الوطني، في حين أن السلطة الحقيقية كانت بيد أتباعهم الأخفياء.

وفي نفس اليوم الذي رأيت فيه غلاف مجلة “جون أفريل”، واستفزني عنوان موضوعها الرئيسي الذي ملأ كل الصفحة، رأيت لعبة للأطفال من صنع شاب جزائري باسم بوتفليقة، متمثلة في كرسي متحرك وعليه بوتفليقة، مُسَيَّرة بالتحكم عن بعد، تسير بسرعة وببطء وتنتهي اللعبة بعد عدة دورات بتعثر أخير تتوقف بعده اللعبة عن الدوران وتنقلب، فيسقط بانقلابها بوتفليقة على وجهه.

ذكرني هذا المشهد أيضا، كما ذكرني غلاف “جون أفريك”، بمقولة ابن باديس، بمشهد سقوط تمثال الرئيس العراقي صدام حسين على يد المارينز في وسط بغداد، يوم سقطت بغداد على أيد المارينز والمعارضة القادمة من الخارج على الدبابة الأمريكية.

ويقدر ما أطعن في صدقية مجلة “جون أفريك”، بتبني وجهتها المعاكسة تماما من غير تفكير أو تردد في ما أقول وأفعل، أرفض أن يتحول رمز الدولة الجزائرية -الرئاسة- إلى لعبة يسقط فيها من كان رمزا للدولة تلك السقطة المهينة.. وذلك ليس تقديرا للشخص، فالشخص وأعماله يمكن وضعها على محك النقد والتقييم، ويحكم لها او عليها، بل يمكن ان يحاكم محاكمة عادلة ويحكم له او عليه، وفق ما تراه العدالة الجزائرية، أما أن يتحول من كان رئيسا للبلاد ورمزها إلى لعبة يلعب بها الأطفال تخليدا للإستهانة برموز الدولة، فمرفوض بكل المقاييس، لأنه مساس برمزية رئاسة الدولة، بقطع النظر عن موقفنا ممن كان يمثلها، ولأن اللعبة في ذاتها ليست تخليدا لبوتفليقة الفاسد الفاشل في حكمه، وإنما هي تخليد لغباء شعب بأكمله قاده رجل لا يستحق الاحترام.

إن المواقف الوطنية المبدئية، ليست دائما موافقة لمنطق الأشياء، التي تنسينا مسلمات الأمور المبدئية، وإنما تكون بحجم وقدر القيمة التي ينبغي المحافظة عليها، وهي القيمة الأساس التي يخضع لها الكثير من الجزئيات التي تخفي الوهام التي تلبس الحقائق.. لا شك أن بتر عضو من الانسان لا يستسيغه عاقل، ولكن عندما يكون بقرار من طبيب ماهر لمعالجة مرض أخطر فإن بتر العضو يصبح من المسلمات، بل من الواجب الذي يفرض نفسه…

قد نضطر لاتخاذ موقف غير عقلاني، كما اتخذه ابن باديس العالم المتدين الذي يعلم علم اليقين مرتبة “لا إله إلا الله” ومعناها وموقعها من منظومته الدينية، ولكن لا إله إلا الله عندما تأتيه من غير منبعها يرفضها رغم انها هي هي..

وذلك لا يعني أن هذا الموقف مخالف للحق أو مصطف مع الباطل، وإنما لأنه من لوازم حقيقة ثابتة، وهي أن فرنسا وكل ما يأتي من مشتقاتها وامتداداتها وأصولها وفروعها، لا يقبل إلا بما يخالفه، ومن ثم فإنك إذا خالفت فرنسا فقد أدركت الحقيقة ولو من غير تفكير منك، مثلما يكون كلامك عن الظلام تفسيرا لمعنى النور ومفهومه.

هناك مواقف يغني عن التفكير فيها مواقف الخصوم، إذا اتخذ الخصم موقفا فقف موقفا ضده..، وهناك مواقف تضطرك للموقف الأقل سوءا وليس للموقف الأحسن..، وهناك مواقف تفرض عليك التريث والتردد.. وأخرى تلزمك التردد والحياد… وأخرى تجرك إلى جولة من الاتصالات، تدبيرا وتحديرا وتهديدا إنذارا وإقامة للحجة، وذلك عندما تشتبه عليك الأمور فتعجز عن اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب في الموضوع المناسب وغير المناسب.

إن المواقف في قضايا الشأن العام ليس علوما دقيقة، ولكنها من الناحية الأخلاقية كلها صوابا، بما في ذلك أخطاءها؛ باستثناء المواقف الانتهازية التي لا تبحث إلا عن المكاسب والمناصب.

ولذا أرى من المناسب إيراد بعض النماذج من المواقف الوطنية التي تلامسها الروح أكثر مما هي خاضعة لمنطق العقل..

قال الرئيس هوار بومدين رحمه الله: إذا غضبت فرنسا من مواقفنا، فغضبها دليل على صوابنا، او قال كلاما هذا معناه.

عندما انقلب هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة سنة 1965، قيل لهواري بومدين، قدِّم الرئيس بن بلة للمحاكمة واطلق سراحه، فقال “لا نقدمه للحاكمه حتى لا يقال إن الجزائر تحاكم رئيسها”، لا سيما في تلك المرحلة المبكرة من استقلال الجزائر الذي لم يمر عنه سوى 3 سنوات أو أقل، بعد استعمار دام 132 سنة و7 سنوات من الحرب.

وفي بداية عهد التعددية السياسية في الجزائر استمعت لكلمة قالها سليمان عميرات رحمه الله: “لو خُيِّرت بين الجزائر والديمقراطية فإنني لا أتردد في اختيار الجزائر”.

لا شك أننا نعيش هذه الأيام مواقف سياسية متضاربة، فيما بين السلطة والشعب، وفيما بين الشعب ونخبه، وفيما بين التيارات النخبوية المختلفة…، ولحساسية المرحلة لا يمكن إطالة عمر هذا الاختلاف؛ لأن إطالة عمر الاختلاف يهدد الوضع بالتشرذم والانفكاك والتمزق الاجتماعي، وإنما الواجب الآن هو البحث عن القواسم المشتركة بين الفرقاء والارتفاع بها إلى الأفضل والأرقى، وإلى الجمع بين المطالب الضرورية وزمانها ومكانها وحالها، لا سيما المطالب السياسية التي يختلف حولها الكثير ولا يجتمع عليها إلا القليل.

إن المطالب السياسية: الحزبية والشعبية قد تكون مشروعة في أصلها، ولكنها تتحول إلى مطالب غير مشروعة، عندما تكون في غير مكانها، أو في غير زمانها، أو موجهة إلى غير أهلها. ونفي المشروعية هذا ليس خاصا بجهة أو بأخرى، وإنما هو عام وشامل للطّالب والمَطْلوب.

وإضافة إلى أن مشروعية المطالب، تستمد قوتها من ربطها بمكانها وزمانها وأهلها، فإن الغرقاء لا يصلون إلى نتائج مثمرة ما داموا يفكرون بعقلية التفاوض والتنازل في الحوارات المفترضة، لسبب بسيط، وهو أن التفاوض يكون بين الأعداء من أجل تحقيق الحصول على مكاسب للمتفاوضين، والتنازل بين المتحاورين الجادين؛ لأن حقيقة الحوار تفضي إلى إعادة ترتيب أولويات المتحاورين، وبمجرد أن نفكر في تحقيق مكاسب للشعب الجزائري –بدل مكاسب المتفاوضين-، فإننا نصل حتما إلى الارتقاء بالحوار لا للتنازل.

وأخيرا ما يغيب عن الفرقاء السياسيين، أنهم إذا كانوا خارج السلطة، لا يشعرون بموقع المسؤول المحاصر بكثرة المطالب، وإنما يتقمصون موقع صاحب الحق الذي يُحاسِب ولا يُحاسَب، وإذا كانوا داخلها لا يشعرون بالمسؤولية إلا بالقدر الذي يرفع من شأنهم السلطوي، وهذا لا يساعدهم –جميعا- على ان يفهموا أن الحزم في قضايا المجتمع مهما كانت عيوبه أولى من التردد مهما كانت محاسنة، وأكمل الحزم ما كان على الأمور الجامعة والبعيد عن التشدد والفرقة والانقسام.

ولذلك لا نرى أحد من الطرفين يقر للآخر بالأحقية والفضل، بما في ذلك موقف الموالي من السلطة.. يوالي ولكنه يتردد في القول بأنه مع السلطة؛ لأن الشعب لا يحب السلطة.. وليس لأن السلطة على باطل، ويواليها خوفا وطمعا أكثر منها مسندا لمبدإ أو موقف.

مقالات ذات صلة