-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ليسوا سواءً

سلطان بركاني
  • 554
  • 1
ليسوا سواءً

كثيرا ما ينظر الواحد منّا في حاله، وفي علاقته بدينه؛ فيرى التّفريط والتّقصير، ويرى أنّ الدّنيا أصبحت همّه الأكبر، وأنّ طاعة الله أضحت ثقيلة على نفسه؛ لا يؤدّيها إلا بمشقّة وعناء، وأنّ نفسه غدت غافلة عن الله والدّار الآخرة.. ثمّ ينظر مِن حوله، فيريه الشّيطان أنّ كلّ النّاس من حوله لا تختلف حالهم عن حاله؛ منهمكون في تحصيل حظوظهم من الدّنيا، غافلون عن الله والدّار الآخرة.. فيسلّي نفسه ويقول: “لا بأس. إذا عمّت خفّت”، وربّما يبرّر لنفسه فتوره وغفلته بأنّ الحياة غدت معقّدة والزّمان أصبح صعبا، وهو ليس كزمان الصحابة والتابعين والصّالحين.

يظنّ الواحد منّا أنّ النّاس من حوله جميعهم قد تعلّقت قلوبهم بالدّنيا ونسوا الآخرة، وتكذب عليه نفسه فتقول له إنّ الصّالحين والصّالحات لم يعد لهم وجود في هذا الزّمان، وحتى من يبدو عليهم الصّلاح، توسوس له نفسه وتسوّل له أن يتّهمهم بالنّفاق.. وهذا كلّه من تلبيس إبليس ومن تزيين النّفس الأمّارة بالسّوء، لأنّ الله قضى وكتب أنّ الخير في أمّة نبيّه محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- سيظلّ باقيا إلى يوم القيامة.. يقول الحبيب المصطفى عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام: “مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرى أوّله خير أم آخره” (رواه الترمذي).

زماننا هذا فيه صالحون وصالحات كثر ولله الحمد.. ربّما لا يراهم جلّ النّاس لأنّهم –أي الصّالحون- لا يهتمّون بنظر الآخرين إليهم، وربّما لا يتحدّث عنهم أكثر النّاس، لأنّ الله أراد لأعمالهم أن تكون خالصة لوجهه الكريم.. رجال ونساء في زماننا هذا، زمان الفتن والشهوات والشّبهات، تعلّقت قلوبهم بالآخرة، يقتدون بالصّالحين الأولين ويضربون من أروع الأمثلة والنّماذج في التعالي عن بهارج هذه الدّنيا ومتعها الفانية وفي التطلّع إلى ما عند الله في الدّار الباقية.

هذا أحدهم، نحسبه من الصّالحين، ولا نزكّيه على الله.. رجل من بلادنا الجزائر، متواضع الحال، يشتغل بناءً، يقطن في سكن ضيّق متواضع، وكان يبني سكنا آخر، يضع فيه جلّ ما يكسبه من حرفته.. بعد سنوات أتمّ بناء السّكن وأتمّ دهانه وتنظيفه، وكان يتهيأ ليرحل إليه مع أسرته بعد أيام، كان يملك جارا يكتري منزلا بجواره.. عاد البنّاء ذات مساء إلى بيته، ففوجئ بأثاث جاره مرميا في الشارع، سأله: ما بك؟ وما الذي حصل؟ قال: لقد طردني مالك المنزل! قال: ألا تملك منزلا تأوي إليه؟ قال: لا والله. قال البنّاء: تعال نذهب لصلاة المغرب أولا، وبعدها يكون الخير بإذن الله.. صليا المغرب في المسجد وعادا إلى الأثاث، فقال البنّاء: سنحضر شاحنة وننقله. قال الرّجل: إلى أين؟ قال: لا عليك لا تهتمّ.. بعد شحن الأثاث في الشّاحنة، أصرّ الرّجل على أن يسأل جاره البنّاء إلى أين ينقل الأثاث؟ وهنا أجابه: سننقله إلى سكني الجديد.. فشكره ودعا له بكلّ خير. بعد إنزال الأثاث وترتيبه في المنزل، قال البنّاء: اسكن حتى يفرّج الله عنك.. لم يتمالك الرّجل نفسه من الفرح، ولبث في السّكن الجديد مدّة معينة، حتى أتاه صاحب البيت وقال: والله يا أخي، لا ندري كم بقي لنا في هذه الدنيا.. أرجو أن تعطيني بطاقة تعريفك لأستخرج لك وثيقة رسمية، لأنّي أخشى إن متّ أن يطردك أبنائي من البيت.. ذهب الرّجل، وعاد وهو يحمل إلى جاره عقدا بتمليك السّكن.. لقد ملّكه السّكن وجعله باسمه.. كان في إمكان هذا البنّاء أن يعطي جاره سكنه القديم، لكنّه آثره بالجديد الذي قضى سنوات من عمره يبنيه ويمنّي نفسه بسكناه، وكان يتهيّأ للانتقال إليه.. أيّ نفس يحملها هذا الرّجل بين جنبيه! رجل ليس عالما ولا طالب علم، وإنّما هو من عامّة النّاس، لكنّ مقامه عند الله ربّما يكون أعلى وأعظم من كثير من العلماء وطلبة العلم الذين لم يحوّلوا علمهم إلى واقع.

قصّة الرّجل لم تنته هنا، فلها تتمّة مؤثّرة، تمثّل مصداقا من مصاديق حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: “من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه”.. بعد فترة وجيزة، يقدّر الله –سبحانه وتعالى- أنّ مقاولا من العاصمة، يُعطى مشروع بناء عدد من السّكنات غير بعيد عن مقرّ سكن ذلك البنّاء الذي كان من بين من اتّصل بهم المقاول للعمل عنده.. مرّت الأيام والأسابيع ورأى المقاول من البناء ما أعجبه في إتقان عمله وأمانته، فتحدّث عن ذلك إلى بعض العمّال، فقالوا له: أنت لم تر شيئا من هذا الرّجل، وقصّوا عليه قصّته مع جاره.. استغرب المقاول أن يوجد رجل من هذه الطّينة في هذا الزّمان، ولمّا تأكّد من القصّة، ذهب إلى البناء وطلب منه أن يعطيه بطاقة تعريفه ليؤمّنه عند مصالح الضّمان الاجتماعيّ، فذهب المقاول واشترى للبناء قطعة أرض مساحتها 200 متر، وبنى له عليها سكنا واسعا من طابقين، وكتب السكن باسم البنّاء، وأحضر له عقد الملكية ووضعه في يده، ولمّا سأله البنّاء عمّا حمله على فعل هذا؟ قال: “الجنّة ليست لك وحدك، لن أتركك تدخلها وحدك”.

بيننا صالحون وصالحات، قلوبهم معلّقة بما عند الله ربّ البريات. لسنا نعرف كثيرا منهم وما ضرّهم ألاّ نعرفهم ما دام الله يعرفهم.. ومن نعرف منهم ربّما لا نعرف عنه غير قليل من علاقته بالله، ولا نزكي على الله أحدا.. منهم من يعيش حقيقة الإسلام في خشوعه وخضوعه لله، وفي صدقه وإخلاصه، يراه النّاس من حوله كواحد منهم، لكنّ له أسرارا مع مولاه، ومنهم من يعيش حقيقة الإسلام في إنفاقه لماله، وفي بذل النّدى وكفّ الأذى، ومنهم من يعيش حقيقة الإسلام في علاقته بأهله وتربيته لأبنائه، وإذا كان كثير منّا يعيشون في بيوتهم على هموم الدّنيا ويربّون أبناءهم على أن يسعوا لطلب النّجاح في دنياهم ودنياهم فقط، فهناك عباد صالحون في هذا الزّمان، يربّون أبناءهم على أن يكونوا ناجحين في الدّارين، في الدّنيا والآخرة، يربّونهم على التعلّق بالقرآن ولزوم الذّكر والاستغفار والدّعاء، وعلى محبّة الدّين والعمل للآخرة.. ويربطون قلوبهم بالجنّة وما أعدّ الله فيها لعباده الصّالحين.

يروي أحد الأساتذة وقائع عاينها بنفسه لأطفال يعيشون بين أسر مسلمة في زماننا هذا، يقول: كنت في مناسبة عند أحد الجيران وكان بجانبي طفل صغير لم يتجاوز التّاسعة من عمره، في الصف الثّالث الابتدائي، سمعته يقرأ القرآن بينما كلّ واحد منا منشغل بالحديث مع من بجانبه، وهو الوحيد بيننا الذي استفاد من وقته، حفظه الله.. قابلت والده في اليوم الثاني وأخبرته بقصة ابنه مع القرآن فقال: ابني بفضل الله أتم جزء عم وهو لم يدخل المدرسة، وهو الآن في سورة المزمل بفضل الله أولاً ثم بمتابعة والدته جزاها الله خيراً، ولعله كان يراجع حفظه بالأمس، وهذا من توفيق الله له، ووعدته إن هو أتم حفظ جزء تبارك أن أشتري له الدراجة التي يريدها بإذن الله.

ويتابع الأستاذ سرد بعض الوقائع التي وقف عليها، فيقول: حدثني أحد طلابي في الفصل الأول المتوسط قال: يا أستاذ أحمد! لو تكرمت، هناك سؤال واحد في الاختبار غير متأكد من إجابته، أرجو منك إعادة الاختبار حتى أحصل على الدرجة الكاملة، فشكرته على حرصه، ثم فوجئت به يقول كلمات أحسست بأنّها خرجت من قلبه قبل أن تخرج من لسانه، قال: أمي توفيت قبل شهرين رحمها الله، وهي التي كانت تراجع لي دروسي، واللهِ لا أذكر أنها انزعجت مني في البيت، دائماً أحوز المرتبة الأولى على الفصل والمدرسة، وهذا من فضل الله يا أستاذ، لم تنزعج مني أمّي حينما كانت على قيد الحياة، ولا أريد أن أزعجها الآن وهي في قبرها رحمها الله.. يقول الأستاذ: تعجبت من شأن هذا الولد الصّغير في برّه العجيب بوالدته، ليس في حياتها فحسب ولكن أيضا بعد وفاتها، ودعوت الله له وطيّبت خاطره، وطمأنته بأنّه سيبقى الأوّل على مستوى فصله ومدرسته بإذن الله، وأنّ أمّه ستبقى فرحة به في قبرها رحمها الله.

يقول الأستاذ أيضا: كنت مع صديقي لزيارة أحد المعلمين في منزله وكان معه ابنه الصغير الذي يدرس في الصفّ الأوّل الابتدائيّ، وبعد أن خرجنا من منزل المعلّم، ونحن في الطريق إلى السيارة، رأيت الولد الصغير -ما شاء الله لا قوة إلا بالله- يستغفر الله -عز وجل- كثيراً بيده، من دون أن يذكّره أحد منّا بفضل الاستغفار، فسألت صديقي عن سر هذا الولد؟ فقال: بفضل الله أولا، ثم بفضل والدته جزاها الله خيرا، فهي التي عوّدته أن يستغفر الله مائة مرة في اليوم، ويبدو أنه الآن يردّد ورده اليومي.

هذه الوقائع التي رواها هذا الأستاذ في بلد آخر غير بلدنا، يوجد مثلها في بلادنا هذه الجزائر، وفي كلّ بلاد المسلمين، لأسر يتربّى أفرادها على الصّلاح وعلى محبّة الدّين والعمل بشرائعه وشعائره وفضائله.. فعلينا أن ننتبه لأنفسنا الأمّارة بالسّوء، حتى لا تسوّل لنا الغفلة والتّفريط في جنب الله بالنّظر إلى حال الغافلين والمفرّطين أمثالنا.. فالنّاس من حولنا ليسوا سواءً؛ منهم الغافلون المفرّطون، وهؤلاء هم الأكثر، ومنهم الصّالحون المجتهدون، وهؤلاء هم الأقلّ، وما ضرّهم أنّهم الأقلّ، فهم سيكونون يوم القيامة حجّة على كلّ غافل مفرّط مسرف على نفسه بالغفلة والذّنوب، والله -جلّ وعلا- بعدله لن يجعل الصّالحين والغافلين سواءً في الآخرة ولا في الدّنيا، يقول سبحانه وتعالى: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون)) (الجاثية، 21).. ووالله لو تأمّلنا هذه الآية بقلوبنا وجعلناها منهجا لحياتنا، لما كان تنافسنا في الدّنيا، وفي الغفلة واللّهو والعبث، وإنّما في الأعمال الصّالحة وفي درجات الجنان والقرب من الرّحمن.. لو تأمّلنا هذه الآية بقلوبنا لكانت غيرة بعضنا من بعض لأجل الأعمال الصّالحة وليس لأجل الأموال والسيارات.

لقد سوّل الشيطان لكثير منّا أن ينظروا في أمور دينهم إلى من هم دونهم حتى لا يشعروا بالتّفريط والتّقصير، وينظروا في أمور دنياهم إلى من هم فوقهم، حتى يزدروا نعمة الله وينسوا فضله.. وهو ما أدّى بهم إلى أن يحسدوا ويغاروا لأجل الدّنيا ومتاعها، وينسوا التّنافس على جنّة عرضها السّماوات والأرض.. ((سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم)) (الحديد، 21).. يقول أحد الصّالحين: “إذا قارنت دنياك بدنيا الأغنياء، فمن العدل أن تقارن دينك بدين الصّالحين”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • يوغرطة

    ما اجمل الاقوال وبلاغة الكلام المزخرف وما اكثر القيل والقال والثرثرة لكن الواقع شيء آخر لا يوجد تطبيق في الواقع اطلاقا اللهم النزر اليسير . نحن نعيش في زمن النفاق العربي المقيت يا سادة نحن نعيش في زمن القتل والتدمير وتحريف الاديان نحن نعيش في زمن قطع الرقاب . ديننا الاسلام بريئ منا برائة الذئب من دم يوسف عليه السلام