-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ماذا بعد تحيّز الرئيس تبون للشعب؟

ماذا بعد تحيّز الرئيس تبون للشعب؟

ما بدر عن رئيس الجمهوريّة مؤخرا بتجميد حزمة من الضرائب والرسوم، على مواد غذائية أساسيّة ومنتجات أخرى مستورَدة واسعة الاستعمال، يشكّل استدراكا محمودًا لإجراءاتٍ خاطئة أثقلت كاهل المواطنين بأعباء ماليّة في زمن تهاوي القدرة الشرائية.

لقد سجّل الرئيس تبون بقراره المذكور تحيّزه للانشغالات الشعبيّة ضدّ خيار الحكومة التي هندست لتلك الضرائب المرهِقة، ولو بحسن نيّة، مصطفّا كذلك ضدّ البرلمان الذي منحها الثقة بغرفتيه من دون تقدير لتداعياتها الاجتماعيّة، حتى لا نقول عدم إحساس بهموم الفئات الهشّة.

ربّما حاول البعض تجريد رئيس الجمهوريّة من حقّ الامتنان الشعبي بتصحيحه خطأ الحكومة والبرلمان، بالقول إنّ مجلس الوزراء هو من يتحمّل من البداية إقرار الضرائب المرهِقة، لكن للأمانة فإنّ التفاصيل الفنيّة واستشراف الآثار المتوقعة لقانون الماليّة يبقى مركز ثقلها داخل الجهاز التنفيذي وفي لجنة الماليّة البرلمانية التي تأخذ فرصتها الكاملة في دراسة المشروع.

وحتّى لو قبلنا بمسؤوليّة هيئة مجلس الوزراء، فإنّ الاعتراف لاحقا بعدم صوابيّة القرار والتراجع عنه في الوقت المناسب، تحت أي ظرف، يستوجب التثمين والتفاؤل بالإرادة الصادقة في تدقيق السياسات العموميّة، مع بروز أولى اختلالات التطبيق والاستعداد الدائم للحوار والتفاعل مع المطالب المعبَّر عنها.

صحيحٌ أنّ التجميد الجزئي لجملة من الضرائب لن يحقّق كل الآمال في تحسين معيشة الجزائريين، لكن من الإنصاف أيضا الإشارة إلى كافة التدابير التي باشرتها السلطات العمومية، على غرار تخفيض الضريبة على الدخل الإجمالي، ومراجعة النقطة الاستدلالية للوظيفة العموميّة، وإقرار منحة للبطالين، وتمويل منتجي العجائن بالقمح المدعم لكسر أسعارها، واقتصار ضرائب الخبّازين على الأرباح، وغيرها من التدابير.

إنّ كل تلك القرارات على تكلفتها الماليّة جاءت لتخفيف العبء ظرفيّا عن المواطنين المتضررين من تقلبات الأسواق العالميّة وآثار جائحة كورونا وتراكم الوضع الاقتصادي السلبي في الجزائر منذ انهيار أسعار النفط في صيف 2014، وما نجم عنه من إجراءات مسّت العملة الوطنية والتجارة الخارجية وتجميد مشاريع التجهيز وتقليص التوظيف على وجه الخصوص، وهي تركة ثقيلة لا يمكن إغفالها موضوعيّا في تقييم مكاسب المرحلة الجديدة.

قد يرى متشائمون من ذوي الأحكام المسبقة أنّ مثل هذا الكلام مجرّد مدح، مثلما يطرح آخرون تساؤلا مشروعًا عن رؤية الإصلاح الاقتصادي ومعالمه الأساسيّة في الجزائر، لأنّ القرارات المعزولة خارج الخطة الكليّة الدقيقة وفق منطق الاقتصاد العلمي لن تجدي نفعًا وقد يكون مفعولها عكسيّا على المدى البعيد.

ما يظهر حتى الآن هو الإرادة الجادة في تطويق الفساد بكل صرامة وقطع كلّ الطرق المؤدية إلى نهب المال العام، والحفاظ على المقدرات الوطنيّة الطبيعية منها والماليّة، من خلال التشدّد في تقييم جدوى المشاريع الاستثمارية وتشجيع الإنتاج الفلاحي بمحاصرة بارونات الاستيراد لكل شيء، والسعي الواضح في التأسيس لقطاع صناعي حقيقي منتِج للثروة ومحقِّق للقيمة المضافة، بعيدا عن المشاريع الوهميّة، ناهيك عن التوجّه إلى خيار الشركات الناشئة وإنتاج المعرفة والتحضير لترشيد الدعم الاجتماعي العشوائي.

ربما يعود الحكم إلى المختصّين لإبداء آرائهم بشأن مدى فعاليّة هذه الخارطة في الاستجابة لتحدِّيات الاقتصاد، لكن ما هو محلّ إجماع بين الخبراء والسلطات العمومية نفسها هو ضرورة تعجيل الإصلاح المصرفي ورقمَنة كافة القطاعات المالية، وعلى رأسها الضرائب والجمارك، والتخلّص تدريجيًّا من السوق الموازية، فضلا عن الاستقرار التشريعي لمنظومة الاقتصاد الوطني.

الخلاصة هو أنّ مؤشرات التطهير الاقتصادي في بلادنا جليّة، وما تبذله السلطات العليا من جهود مكثفة في رفع التحدّي أمرٌ واقع يعكسه معدّل العمل الرئاسي والحكومي حتّى لو اختلف الناس بشأن تقديرهم للنتائج.

 لذلك يبقى التسويقُ الرسمي من كافة الدوائر الحكومية، بلغة العقل والصراحة، لرهانات السلطات العمومية وإنجازاتها، في سياق الأوضاع القائمة، مَهمَّةً أساسيّة ضمن شروط النجاح في تعبئة القوى الحية من المجتمع، وهو ما يفرض مزيدا من الاتصال المؤسساتي الفعال، خاصة الطاقم الحكومي، بروح الانفتاح وتقبّل النقد البنَّاء بكل شجاعة، لأنّ من يعمل يخطئ ويحتاج إلى من يبصّره بحقائق الواقع.

كما أنّ تعقيدات الوضع الموروث وتطلعات الفئات المهنية تفرض توسيع دائرة الحوار الاجتماعي في كل القطاعات، لتصحيح الأخطاء وضمان المرافقة الجماعيّة في تجسيد البرنامج الإصلاحيّ.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!