-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ماذا يريد المخزن من التطبيع؟!

خير الدين هني
  • 2024
  • 0
ماذا يريد المخزن من التطبيع؟!

كل عصر من العصور له أيديولوجيته وبراغماتية ومصالحه التي تحكم مخططاته الإستراتيجية، والتخطيط لمشاريع الدولة تحكمه قواعد التنمية والمنافع العامة التي تعود على البلاد والعباد والصالح العامّ، ورجال الحكم في أي عهد يختلفون في أفكارهم وميولهم وعقائدهم السياسية والثقافية التي يؤمنون بها، وهذه الأفكار والعقائد هي التي تخلق في نفوس الأكثرية منهم، الشعور بالتفوق والتميز والتفرد في استحقاق العرش والقدرة على النظر في شؤون الحكم ومسائله المعقدة، وهذا الشعور هو الذي يجعلهم يبطرون ويستعلون في الأرض، وينزعون نحو إشباع أهوائهم في الظهور والأثرة والتفرد في اتخاذ القرارات الحاسمة، التي تستلزم مشورة أهل الرأي والحصافة ورجال الدولة في المؤسسات، والرأي الجماهيري المعبَّر عنه في احتجاجات الشارع.
أو هي التي تجعل الأقلية من الحكام الصالحين، متواضعين متوددين خافضين جناح الرحمة والرأفة بشعوبهم، وهم في سعي حثيث بغية التقرب من أفراد أممهم، بالخدمة ذات المنفعة العمومية وبالسهر الدائم على تنمية مشاريعهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تحفظ كينونتهم الدينية والأخلاقية والعرفية والحضارية التي يؤمنون بها، ولكن المشكلة المستعصية التي كرستها أزمات الفساد والتسيير العشوائي لمشاريع الدول ومواردها، والتي أدت إلى ضياع الثروات وهدرها وتهريبها وتعطيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولاسيما في الدول المركزية سواء أكانت ملكية مطلقة أو ملكية دستورية (حكم العائلات) أو كانت جمهورية الغاشية أو أيديولوجية فكرية أو قومية (أقليات مسيطرة بالقوة والدعايات الديماغوجية على الحكم)، هي التي جعلت هذه الدول في أغلب الأحوال مندفعة في قراراتها السياسية، بسبب عمق الأزمة النفسية التي تراكمت في نفوس الذوات النزعوية، وجعلتها تعاني من نرجسية الشعور بالأنية ومركزية الذات المتفوقة على الغير، بامتيازات الحكم الفردي الذي لا يعلوه سلطانٌ ولا قانون ولا دستور ولا مؤسسات دستورية أو اجتماعية أو ثقافية.

ومن أساليب الدعاية للذات العليّة في الأنظمة المركزية، ولاسيما المخازنية منها هو تجنيد الزبائنية لحشد قوى جماهيرية مؤمنة بسلطان الأقوى المقدس للمخازنية، يلتفُّون حول مشروع وهمي أعدَّته العائلة للتلهية وجذب أكبر عدد من الموالين المنتفعين، وصرف المعارضين عن الخوض في السياسة وشؤون الحكم، ونفسية الشخصية المركزية هو الانتصار للذات العليّة، التي تعبد الهوى والرأي الشخصي، وإن كان هذا الرأي معارضا للرأي الجماهيري، لأن النزعة الفردانية حين تستبد بصاحبها تجعله يتمركز حول ذاته، ويتصرف في شؤون الحكم وفق أهوائه ومصالحه ونزوعه الشخصي، مثلما حدث مع زعماء النازية والفاشية والشيوعية والحكام المغضوب عليهم في ثورات الربيع العربي، وبعض حكام العائلة كحكام المخزن ممن حوّلوا دولهم إلى مزارع خاصة يفعلون بها ما يشاؤون، من غير نظر إلى دين أو أخلاق أو أعراف وطنية في التسيير.
والمخزن معروف بنظامه السياسي الرجعي، الذي يتمحور حول النظام الملكي وأعوانه من الأعيان وكبار ملاك الأراضي، وزعماء القبائل وشيوخها وكبار العسكريين، ومديريْ الأمن ورؤسائه ومطبِّلي الإعلام المنتفعين، وهو النظام الذي تعود قواعد الحكم فيه إلى بروتوكولات العصور الوسطى، إذ ما زال يخضع لطقوس البروتوكولات الأرستقراطية التي كانت تميز ملوك القرون الوسطى، وهي البروتوكولات ذات الصبغة العقائدية والإقطاعية الاستعلائية المعظِّمة لذات الملك، ولذلك مازال المشرِّعون في هذا النظام شبه الإقطاعي، وبأمر من المخزن يشرِّعون لقواعد حكم صارمة، تقضي بوجوب تعظيم الملك وعائلته، وتبرئته من الخطأ والزلل والآثام وإن عبث بمصالح المملكة وجعلها بضاعة مزجاة في سوق النخاسة الدولية.

مثلما فعله مع الصهيونية العالمية التي أجبرته على بيع قضايا دينه وبلده وأمته مقابل شراء وَهْمٍ لا يحقق له أي قيمة نفعية، فطبّع مع كيان سرطاني جرثومي معتدٍ على الأرض والشرف والعرض والقوامة السياسية، إذ استطاع هذا الكيان الغشوم أن يجلب له –مجانا-بعض عروش العائلات والألغارشيا الانقلابية من دول عربية كبيرة، ومن هم على دربهم سائرون من الألغارشيا ذات الكيانات الصغيرة، التي هي في طور التهيؤ والاستعداد لإعلان بيع بلدها وشعبها لهذا الكيان المغتصب، وقد أخذت هذه الألغارشيا الصغيرة تمهد لسياسة التطبيع بجلب السياح الصهاينة إلى منتزهاتها، وإحاطتهم بسياج من رجال الأمن، والصهاينة السياح سكارى بنشوة الانتصار على الشرف العربي، إذ قالت إحدى المتنزهات: “أكاد أموت من فرط الابتهاج، بهذه الحراسة التي جعلتنا نشعر-حقا- بأننا شعب الله المختار”، سمعتُ هذا بأذني في تسجيل مصور.
وتنظر سلطة المخزن الاحتكارية إلى التطبيع على أنه أمر قضى به “أمير المؤمنين”، وأمرُه نافذ لا يردّ لأن التشريع السياسي منحه هذا الحق لكونه “سلطة الله في الأرض”، وهو لذلك يتسمى بـ”أمير المؤمنين” وقائدهم الأعلى الذي لا يجوز عليه الخطأ لكونه “مفوضا من السماء”، ولتحقيق هذه الغاية شرع المخزن لسلطة “أمير المؤمنين” قوانين تصون هذا الحق وتحافظ على هذا الامتياز، بمقتضى القانون الذي يمنع مس “أمير المؤمنين” بأي فعل أو قول أو لمز أو غمز، لأن سلطته مطلقة ولا يجوز الطعن فيها أو نقدها، ولتكريس هذا الأمر شرّع المخزن مراسيم، توجب تقديم فروض الطاعة والولاء لـ”أمير المؤمنين” بمراسيم مهينة ومذلة لكرامة المواطن المغربي.

فضلا عن كونها غير منسجمة مع البروتوكولات العصرية، وهي البروتوكولات التي تجعل كرامة الإنسان وعزته وأنفته أولوية من أولويات الدولة الحديثة، وقدسية “أمير المؤمنين” التي كرستها قوانين المخزن في مواثيقها، هي من جعلت مكانته عذرية في الطهر والنقاء وعراقة المنبت، وجعلت هذه القداسة عقيدة سياسية وثقافية ينشأ عليها الصغار ويموت عليها الكبار، كيما تبقى هذه العقيدة راسخة في المخيال السياسي والعقائدي لدى الإنسان المغربي، بغية الحفاظ على بقاء هذه العائلة على رأس المخازنية، ودوام كينونتها الأبدية في أرض المغرب الذي استبدّت به إدارة المخزن قرونا عديدة.

ونظام المخزن لا يتورع رأسهم عن الادّعاء بأنه “ظل الله على الأرض”، من طريق صيغ رتيبة تقليدية اعتاد ترديدها في خطاب العرش، حين يقول “شعبي العزيز”، وحين يركب سيارته الفارهة المكشوفة، وحين يمتطي فرسه المجللة بالطرز المذهبة، والناس يتراكضون في اندفاع من حوله وهم يتصايحون باسم جلالته، فكانت هذه المظاهر المتخلفة المقززة للشعور العصري، تبعث على الحسرة والبكاء على إخواننا المغربيين الذين قهروهم بهذه البروتوكولات المذلة لآدميتهم وشعورهم وإحساسهم، وهي مظاهر لا تختلف في جوهرها عن مظاهر الخلفاء العباسيين والفاطميين والبويهيين والموحدين والمرابطين والمرينيين وأسلافهم السعديين، أما بنو أمية فلم تكن هذه هي مراسيمهم، لأنهم كانوا قريبي عهد بعصر النبوة والبداوة العربية.

ونظام المخزن لا يختلف عن النظم القديمة، التي تحكمها العائلات المستبدة التي تقهر إرادة شعوبها، ولا خيار في الرأي إلا لما يراه حاكم المخزن، فهو الذي يجري أمره على الدولة والشعب سواء، ومصلحة الدولة منوطة بمصلحة “الحاكم بأمر الله”، وكذا بمصالح عائلته وحاشيته وزبانيته المقربين، ودوائره السياسيين ممن يزيِّنون عمله ويلمِّعون صورته ويُظهرونه للرعية في صورة القديس المثالي، الذي لا يأتي منه إلا النفع واليُمن وحسن الطالع، فهم يصوِّرونه للشعب بأنه لا يأتيهم الشر من حيث أتاهم الخير، كما قال أبو جعفر المنصور في خطبته الأولى التي بويع فيها، ولكن المنصور لم يلبث أن تحول إلى طاغية مستبد، تجاوز استبداد الأمويين الذين أسقطوهم بالدعاية السياسية، قبل القتال بالسلاح.

وتأتي مصلحة الدولة (الشعب) في الرتبة الثانية بعد مصلحة المخزن ودوائره السياسية، والدولة في نظام المخزن وسيلة لخدمة العائلة، لأن العائلة هي رمز وجود الدولة وبقائها وديمومتها، فإذا ذهبت العائلة سقط صرح الدولة ومن ورائه مصالح الأمة، هذا ما توهم به سياسة المخزن المغالطة، ولذلك طبّعت مع الكيان رغم أنف الشعب المغربي، لأن الصهيونية العالمية باعت للمخزن وهما غير مقبوض الثمن، حين اعترفت -صوريا- بسيادته المزيفة على الشعب الصحراوي، ثم أخذ المخزن يستعدي العالم المتصهين على جارته الجزائر، ويكوّن الأحلاف لإجراء مناورات ما يسمى “الأسد الإفريقي”، ليخيف إخوانه في الدين والنسب والمصاهرة والجوار، ولكن المخزن يكيد ويمكر والله خير الماكرين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!