-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ما الفائدة من شهادة الدكتوراه؟! 

ما الفائدة من شهادة الدكتوراه؟! 

في الوقت الذي تبحث فيه السلطات الجزائرية عن مخارج لآلاف الحاصلين على شهادة الدكتوراه في البلاد، نلاحظ أن المشكل ذاته مطروحٌ في كثير من بلدان العالم في القارات الخمس، والجميع يبحث عن الحلول. وفي هذا السياق نشرت مجلة “التعليم العالي الدولي” (IHE) في عددها الأخير (ربيع 2023) مقالا بعنوان “ما الفائدة من الدكتوراه؟”. والمجلة تصدرها جامعة “بوستن كوليج” الشهيرة بالولايات المتحدة.  

 تكاثرٌ تدفع إليه سياسة الحكومات

لاحظت كاتبة المقال، الباحثة والأستاذة كلوديا ساريكو Sarrico، أن المزيد من الطلبة يحصلون على شهادة الدكتوراه في مختلف بلدان العالم، وأن هذا التكاثر تدفع إليه سياسة الحكومات في تلك البلدان. وهناك عوامل عديدة تدخل في الحسبان، مثل التحولات في العمل الأكاديمي، والطلب على باحثين قيد تحضير الدكتوراه في كثير من بقاع العالم، وكذا المكانة التي لا زالت تحظى بها الشهادات العلمية في التوظيف. وثمة أيضا هدف أساسي من وراء فتح الباب لإعداد هذه الشهادات في جامعات البلدان المتقدمة، وهو طعْم لجلب المواهب واللامعين من الطلبة لخدمة تلك البلدان بعد تخرُّجهم.

ويلاحظ المقال أن هناك تشبُّعا عبر العالم في المهنة الجامعية التقليدية لحمَلة الدكتوراه، حتى صار جلّهم (في البلدان المتقدمة وقِلَّة من بلدان العالم الثالث) يُمضون سنين طوالا بشهادة الدكتوراه دون توظيف أكاديمي مستقر. ولذا وجب على هؤلاء الانتقال إلى وظائف خارج الأوساط الأكاديمية. ومن ثمّ، ترى الكاتبة أنه ينبغي إعادة النظر في شهادة الدكتوراه ومناهجها وتطويرها لإعداد حامليها بشكل أفضل كي يمْتَهنوا مهنًا متنوعة.

يعود تاريخ تسارع وتيرة الحصول على شهادة الدكتوراه إلى بداية الثمانينيات في الولايات المتحدة. وقد أثار هذا التكاثر المستمر مسألة “عائد الاستثمار” في الدكتوراه للأفراد والمجتمع. والواقع أن هذا التكاثر راجع إلى توسُّع وانتشار التعليم العالي بحثا عن تكوين النخب في جميع البلدان. وما الهدف الأساسي من الدكتوراه في واقع الأمر؟ إنه تدريب الطلبة على إجراء البحوث العلمية والغوص فيها مدى الحياة.

تشير بيانات البنك الدولي إلى أنه خلال عقدين، قبل 2017، تضاعف عدد حملة شهادة الدكتوراه الممنوحة في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إذ قفز هذا العدد من 140000 إلى 276800. وفي هذا السياق، تلاحظ الكاتبة أن الإنفاق المحلي الإجمالي على البحث والتطوير لم يرتفع سوى بنسبة 18% خلال الفترة بين 2000 و2020. وهذا ما يعني أن العديد من حاملي الدكتوراه لن يشاركوا في الأنشطة البحثية.

وهكذا، فإن تزايد عدد الحاصلين على الدكتوراه أسرع بكثير من الزيادة العامة في عدد طلبة التعليم العالي في بلدان العالم: ففي بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، نما التدريس في مرحلة الدكتوراه بنسبة 25%، بين عامي 2014 و2019، بينما لم يزد نمو التعليم العالي إلا بنسبة 12.7%.

والجدير بالذكر أن الحكومات في مختلف البلدان تشجع على “إنتاج” المزيد من حملة شهادة الدكتوراه على أمل تطوير اقتصاديات المعرفة لتحفيز النمو والازدهار. وقد صُمّم تمويل الأبحاث في المؤسسات، بشكل مباشر، ليشجع تكاثر حملة هذه الشهادة، وزيادة الوظائف لهؤلاء الخريجين. كما يراعي التمويل، بشكل غير مباشر، المنشورات من البحوث والاستشهادات بها. وقد أدت زيادة تمويل الأبحاث العلمية إلى زيادة الطلب على الوظائف الأكاديمية من قبل خريجي الجامعات. وبطبيعة الحال، يتم في بعض المجالات، توظيف حاملي الدكتوراه خارج الجامعة ومراكز البحث، من قبل أرباب العمل الذين يثمّنون الكفاءات التقنية وقُدرات التأقلم لهؤلاء الدكاترة.

الخطر الداهم على الأوساط الأكاديمية

وتلاحظ الكاتبة أن بعض الأفراد قد يستخدمون درجة الدكتوراه ليتميّزوا عن غيرهم في أسواق العمل المشبَّعة بالخريجين، لاسيما في مجال الأعمال والإدارة العامة والصحة. وهناك مثالٌ آخر لاستخدام شهادة الدكتوراه في عديد البلدان المتقدمة وبلدان العالم الثالث، وهو استعمالها لتقلد مناصب سياسية. وجرّاء ذلك، فمنهم من سُحبت منه بعد ذلك شهادة الدكتوراه بسبب ثبوت الانتحال والسرقة العلمية كما حدث في عدة بلدان غربية، منها ألمانيا. يدل هذا الوضع على أن السعي وراء المعرفة لم يكن هدف هؤلاء الطموحين بل هدفهم كان تعزيز حياتهم المهنية ووضعهم الاجتماعي. والواقع أن الوظيفة في هذه الحالة لا تحتاج بشكل عامّ إلى شهادة دكتوراه وإنما تخدم الشهادة مكانة حاملها. وهذا لا يتوافق مع المهام التقليدية المرجوّة من حامل الدكتوراه الذي قام بإنجاز عمل بحثي أصيل لنيل شهادته حتى يواصل في نفس المنهج، أي في البحث عن إنجاز عمل أصيل ومبتكر.

يُعدّ جلب المواهب من بلدان أخرى، لاسيما من العالم الثالث، محركًا رئيسيًا آخر لـ”إنتاج” حملة الدكتوراه. وهكذا نجد أزيد من طالب من بين 5 طلبة دكتوراه في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هم طلبة “دوليون”، أي أنه تم جلبهم في سياق جلب المواهب.

ومن جهة أخرى، وكما أشرنا آنفا، يُعدّ جلب المواهب من بلدان أخرى، لاسيما من العالم الثالث، محركًا رئيسيًا آخر لـ”إنتاج” حملة الدكتوراه. وهكذا نجد أزيد من طالب من بين 5 طلبة دكتوراه في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هم طلبة “دوليون”، أي أنه تم جلبهم في سياق جلب المواهب للأسباب التي ذكرناها. وبهذا الصدد، تلاحظ الباحثة أن استعمال اللغة الإنكليزية أصبح ساريا في كثير من البلدان غير الأنغلوفونية، وذلك لتسهيل عملية “اصطياد” أفضل المواهب علما أن العديد من البلدان تعتمد على هؤلاء المهاجرين بشكل أساسي لتغذية أنظمتها البحثية.

ومع ذلك، فما يحدث الآن وما سيحدث غدا هو أن معظم حاملي الدكتوراه لن يتمكنوا من تقلّد الوظيفة الأكاديمية التقليدية (التدريس والبحث العلمي)، إذ سيظلون دكاترة من دون مناصب قارة لفترة طويلة في الجامعات ومراكز البحث، يعملون بسلسلة من العقود محددة المدة قبل الانتقال إلى وظيفة خارج الأوساط الأكاديمية، وسينتقل قلة منهم إلى مجال البحث، أما السواد الأعظم منهم فسيُساق إلى الأنشطة غير البحثية.

ومن ثمّ، فالخطر الداهم على الأوساط الأكاديمية عبر العالم يكمن في أنها لم تعد قادرة على جذب عدد كبير من الموهوبين والاحتفاظ بهم في بيئتها لأن الوظائف خارج الأوساط الأكاديمية تقدِّم عقود توظيف أكثر جاذبية، وتوفر رواتبَ مرتفعة وآفاقا أفضل للتقدُّم الوظيفي. ولذلك يتعيّن على الأوساط الأكاديمية أن توفر ظروف عمل أفضل حتى لا تتأثر جودة البحث والتقاليد العلمية تأثرا قاتلا.

إنه لمن الأهمية بمكان -إذا استمر “إنتاج” شهادات الدكتوراه بمعدل لا يمكن للمهنة الأكاديمية استيعابُها- أن يقوم تكوين طلبة الدكتوراه بإعدادهم بشكل يفتح أمامهم أبواب خيارات مهنية متنوعة في التعليم العالي، والأعمال التجارية، والحكومية، وفي القطاع الخاص غير الربحي، والعمل الحر. وفي هذا السياق، ظهرت في بعض بلدان العالم محاولات في وضع برامج دكتوراه تعاونية جديدة مع المؤسسات العامة والخاصة… لكنها تثير تساؤلات حول نزاهتها الأكاديمية.

ما من شك أن موضوع التكوين في مستوى شهادة الدكتوراه أصبح يحتاج اليوم إلى إعادة نظر وإلى إعداد الخريجين لوظائف خارج الأوساط الأكاديمية، وكذا لمتطلبات مهنية أكاديمية أوسع، مثل البحث والتعليم والمشاركة المجتمعية ومهام التسيير الإداري، أي المهن المتنوِّعة داخل الوسط الأكاديمي وخارجه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!