-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

ما بين السدّيْن دروس عميقة

أبو جرة سلطاني
  • 791
  • 0
ما بين السدّيْن دروس عميقة

ترَك ذو القرنين هؤلاء الأقوام وما تواضعوا عليه واتّخذ الأسباب ميمّما وجهه شطر ما بين المشرق والمغرب: ((ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا)) (الكهف: 92)، لفظة “أَتْبَعَ” (وفي قراءة اتّبَعَ) تشي بأنّ ذا القرنيْن كان صاحب رسالة واسعة يسعى إلى وضع أسسها الكبرى في أوسع رقعة جغرافيّة تصلها قدماه بين ظاهر الشّروق حيث تطلع الشّمس على قوم ليس بينهم وبينها ستائر وبين أقوام متاخمين لأرخبيل في الأماكن الرّخوة بالأراضي المنخفضة، وبين مكان تتعالى فيه جبال وتلتوي فيه تضاريس صعبة. فكان له في هذا الموقع موعد مع أقدار الله.

((حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)) (الكهف: 93 – 97).

قادته أقداره إلى أرض يسكنها قوم يتكلّون كثيرًا ولا يفعلون شيئا. قوم أوتوا الجدل وحُرموا العمل. قوم لغْوُهم كثير ولكنْ لا فقه فيه تقوم به الحياة ولا يترتّب عنه عمل. يخوضون في كلّ شيء ولكنّهم قوّالون ولم يكونوا عمليين. لذلك كانوا لا يفقهون قولا لأنّ فقه القول هو العمل به، فإذا صارت الأقوال حرْفة المتحدّثين صاروا سفسطائيين لا يفقهون من قول صناعة الحياة شيئا سوى كلام يمحوه كلام وهرْف بما لا يُعرف. وإذا أراد الله بقوم سوءً ابتلاهم بالجدل وسلبهم لذّة العمل فيصير الجدل مبلغ علمهم: فإنتاجهم كلام وحياتهم خصام وأمرهم فرُط لا يترتّب عن أقوالهم أعمال ولا يفقهون من أسرار الحياة سوى اللّغط: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا)) (الكهف: 93). فمن أدمن الجدل حُرم العمل.

تلك حال أقوام كانوا يقيمون بين سدّيْن، وكانوا يواجهون معضلة سهلة الحلّ ولكنّهم لم يهتدوا إلى إيجاد حلّ لها بسبب ما برعوا فيه من تنظير بارد هو “فنّ المِراء”، وهو فنّ إذا ابتليّ به قوم ألفيتهم يمارون في كلّ شيء ويخوضون في كلّ حديث ولكنهم لا يُتْبعون ما قالوا أفعالا. قوم ليسوا قادرين على صناعة حياتهم ولا دفع الضرّ عن أنفسهم إلاّ بكثرة الجدل وقلّة العمل مع ما كانوا يتوفّرون عليه من عوامل نهوض وأسباب إقلاع.

فما اقترحوه على ذي القرنيْن من خراج وفير دليلٌ على أنّهم كانوا يمتلكون كنوزا كثيرا ولكنها كانت مكدّسة تنتظر من يستثمرها في مشاريع التّنميّة والرّفاه الاجتماعي.. وهي حقيقة تؤكّد أنّ الثّروة وحدها لا تجلب الأمان ولا تصنع الرّفاه ولا تسعف أصحابها إذا أحيط بهم، وفي هذا المعنى توكيد على أنّ الأزمات التي تعانيها الشّعوب لا تعود أسبابها إلى قلّة الموارد وشحّ الأموال وإنما تعود -بالأساس- إلى ضعف الإرادة وقلّة فقه إدارة الشّأن العام وانعدام الرّشادة في الفكر والتّخطيط وتحديد الأولويّات..

ففقه القول ليس فصاحة لسان وإنما هو إرادة تخطّي الجوائح وتجاوز الصّعاب وقدرة على الإنجاز وإدارة الأزمات. فمعنى: ((لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا)) (الكهف: 93)، ليس افتقارهم إلى لغة خطاب شفهيّ يشرحون بها لذي القرنيْن ما هم فيه من قلق وخوف وترقّب لهجمات يأجوج ومأجوج. فلم يكن بهم نقص فصاحة لسان ولا شقشقة بيان وإنما كانوا يفتقرون إلى رجل رشيد يقودهم إلى تشخيص ما هم فيه ويقترح عليهم سبيلا للخروج. وتلك معضلة الأمم المتخلّفة؛ تلوك أضخم الكلمات ثمّ تقعد مع الخوالف تندب حظّها وتعلّق مشكلاتها على مشجب الأقدار.

فلما طلع عليهم ذو القرنيْن وجدهم أصحاب جدل تستغرقهم الخطب النّظريّة ويستهلكهم الخوض في اللّغو الذي لا يفقه أحدٌ عن أحد منه شيئا. فهم يقولون ولكنّهم لا يفقهون. والفرق واسع رحيب بين القوْل وفقهه، وبين الثّروة وتصنيعها، وبين المال واستثماره، وبين العلم وتحريكه في بناء المدنيّة وإشادة العمران وقيّام الحضارة. تماما كالفجوة العميقة بين من يعلم ولا يعمل، وبين من يعمل بغير علم. فكلاهما لا يفقه صناعة الحياة التي لا تقوم إلاّ على علم وعمل: “فالعلم بلا عمل جنون. والعمل بغير علم لا يكون”، كما يقول صاحب إحياء علوم الدّين (رحمه الله).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!