-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مبارك” المبارك”

مبارك” المبارك”

يتفاءل الناس فيطلقون على أبنائهم عند ولادتهم أسماء تحمل معاني جميلة وصفات جليلة، وهم يرجون أن تتجسد في أولئك الأبناء تلك المعاني النبيلة، ولكن قليلا ما يتحقق ذلك التفاؤل، فلا يتجسد الاسم في المسمّى، ولا يتمثل ذلك المعنى في ذلك المبنى فمن الناس من يسمي ابنه سعيدا فيكون على نفسه وعلى أهله وعلى وطنه وشعبه أشقى من أشقى ثمود، ومنهم من يسمي ولده عزيزا فيكون “أذلّ من الذليل في سلطانه”، ومنهم من يسمي نجله كريما فتكون يده مغلولة إلى عنقه ولو كانت مفاتح خزائنه كمفاتح قارون، ومنهم من يسمي ابنته رشيدة فتكون “أطيش من فراشة”، ومنهم من يسمي كريمته نعمة فتكون شر نقمة، ومنهم من يسميها نسمة فإذا هي عاصفة.. وبذلك يكون المسمّون بعيدين عن معاني أسائهم بعد السماء السابعة عن الأرض السابعة.

وقد كان الأنبياء والرسل، عليهم السلام، لا يكتفون بطلب الذرية من الله عز وجل بل يصفونها بالطيبة والصلاح، فهذا إبراهيم، عليه السلام، “آدم النبوّة”، كما سمّاه الإمام الإبراهيمي، يتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قائلا: “ربّ هب لي من الصالحين”، وهذا زكريا، عليه السلام، يرجو الله العلي القدير قائلا: “رب هب لي من لدنك ذرية طيبة..”..

فأمّا مبارك في عنوان هذه الكلمة فهو الاسم الذي اصطفاه محمد ابراهيمي الميلي ليطلقه على مولوده الذي قدّر الله، العليم الخبير، أن يستهل في يوم 26 ماي 1898، وأن ترجع روحه إلى ربها في يوم 9 فبراير من سنة 1945، وعرف، فيما بعد، بهذا الاسم منسوبا إلى بلدة ميلة، فقيل: “مبارك الميلي”.

وأما “المبارك” فهي الصفة التي أطلقها عليه شيوخه في جامع الزيتونة بعدما أعجبوا به وهم يمتحنونه في شهادة التطويع التي نالها بامتياز، فقد قالوا له وهم يبشرونه بنجاحه: “أنت مبارك علينا، وعلى أمتك، وعلى وطنك(1)“، وقد كررت هذه الصفة المجلة الزيتونية عندما أبّنت الشيخ الميلي فوصفته بـ “الشخصية المباركة(2)“، وعبّر عن هذا المعنى الإمام محمد البشير الإبراهيمي بأسلوبه الفريد، حيث كتب عنه في الذكرى الثالثة لوفاته قائلا: “يملأ معناه لفظه(3)“، ولذلك “لا تؤتى الجمعية من الثغر الذي تكل إليه سدّه، ولا تخشى الخصم الذي تسند إليه مراسله(4)“، فقد كان »فحل عِراك، وجِذْل حكاك”، وقد تجلّى ذلك في الجبهتين الرئيستين اللتين رابط فيهما مبارك “المبارك”:

*) جبهة جدال الذين شوهوا دين الله عز وجل بما أدخلوا فيه من بدع وخرافات وأباطيل وضلالات، و”أكلوا التين بالدّين” كما قال الإمام النووي، رحمه الله، فأرسل عليهم شواظا من حقائق الدين وصحيحه، فبُهتوا، وانكشفت سوآتهم، وفعل الميلي بتلك المقالات التي جمعت في كتاب تحت عنوان “رسالة الشرك ومظاهره” في تلك البدع والضلالات ما فعله سيدنا اإبرهيم، عليه السلام، في تلك الأصنام والتماثيل التي جعلها جُذاذا.

* وجبهة الأعداء الفرنسيين، الذين كذبوا على أنفسهم وكذبوا على العالم كله عندما نفوا وجود الجزائر التاريخي فجاهدهم بكتابه “المجاهد” “تاريخ الجزائر في القديم والحديث”، فكان مبارك الميلي -في سنة 1927- هو أول من طبق عمليا ما دعا إليه المؤرخ الفيلسوف محمد الشريف ساحلي في سنة 1965، وهو “تحرير التاريخ”، (décoloniser lhistoire)، فاستحق الميلي بذلك الكتاب “المجاهد” أن يلقب “رائد المدرسة التاريخية الجزائرية”، و”الرائد لا يكذب أهله”.

وبفضل هذين السلاحي “رسالة الشرك” و”تاريخ الجزائر” اللذين صنعهما الشيخ الميلي استطاعت الحركة الإصلاحية الجزائرية أن تؤدي رسالة الإصلاح الديني، وأن تبلور بكثير من القوة الشخصية الجزائرية ذات الجوهر العربي الإسلامي(5)“.

لقد اعترف أحرار الجزائر وأخيارها وأطهارها بفضل الشيخ مبارك الميلي، وما قدم من خدمات، دون منّ أو استثكار، للدين الإسلامي الحنيف، واللغة العربية أشرف اللغات وأجملها، وللجزائر التي جمعت محاسن الجزر، “لذلك كنَّ مفردات، وكنتِ جمعا”، وقد رأينا آنفا بعض ما قاله فيه آية اللغة العربية في هذا العصر، الإمام المجاهد البشير الإبراهيمي، ونسوق، تعزيزا لقول الإبراهيمي، بعض ما قاله الإمام ابن باديس عن تلميذه، ومساعده، ومؤبنه، حيث قال وهو يستعرض أسماء آخر مكتب إداري لجمعية العلماء في حياته: “الشيخ مبارك الميلي، المعلم بمدرسة ميلة، والمدرس والإمام بمسجدها الحر، وهو مؤرخ الجزائر الذكي الفؤاد، العميق النظر، الصائب التعليل، ومدعم الدعوة الإصلاحية الدينية برسالته “الشرك ومظاهرة”، وأمين مال الجمعية من أول يومها، الذي خدمها بخبرته وأمانته، وأنفق عليها من ذاته رغم مرضه، وهو مدير جريدة الجمعية “البصائر” منذ السنة الماضية”(6).

إن من شهد له هذان الإمامان الجيليلان لا يحتاج إلى شهادات غيرهما، ومن اعتراف له هذا الشيخان فقد استغنى عن اعتراف غيرهما، ومن قدره هذان العظيمان فليس في حاجة إلى تقدير غيرهما، وأستسمح زوجيهما في أن أضيف إلى شهادتيهما شهادة شيخنا الجليل أحمد سحنون، رحمه الله، الذي منعتني موانع من حضور تدشين مدرسته القرآنية بحي مراد رايس يوم الثلاثاء الماضي، إذ صح مني العزم على الحضور، ولكن لم يشأ الله، وشهادة الشيخ سحنون صاغها شعرا، ونشرها في العدد 26 من جريدة “البصائر” ( سلسلة 2 / الصادر في 8 مارس 1948. ص 17) ومما جاء في هذه الشهادة السحنونية مخاطبا روح الشيخ الميلي في الذكرى الثالثة لوفاته:

حررت من سوء اعتقاد بالذي وجلوت “تاريخ الجزائر” بعدما

أديت قسطك من جهادك وافيا حررته في “الشرك” من تبيين

عفى معالمه غبار سنين وقضيت ثقل مغارم وديون

لقد جالت في خاطري هذه المعاني وغيرها، وطافت في فكري هذه الذكريات وأمثالها وأنا أشارك في يوم الخميس الماضي الإخوة والأخوات في الملتقى الذي أقامته مديرية الثقافة بولاية ميلة التي يريدها الأديب المثقف الأستاذ محمد زتيلي، بحزم الإداري وحنكته ووعي المثقف وحكمته.

عقد الملتقى تحت عنوان “مفهوم الإصلاح ودور النخب والمجتمع المدني في فكر ومنهج العلامة مبارك الميلي”.

لقد تميز الملتقى بمشاركة طيبة من ثلة من الأساتذة الأفاضل الذين غطوا جوانب هامة من فكر الشيخ الميلي، كما تميز بالكلمة القيمة التي ألقاها السيد عبد الرحمان كاديد، والي ولاية ميلة، التي دلت على أنه ليس رجل إدارة فقط، ولكنه ـ أيضا ـ رجل ثقافة وفكر، وهذا ما لا نجده ـ مع الأسف ـ في كثير من مسؤولينا في مختلف المستويات.

وأغتنم هذه الفرصة لأشكر الإخوة المسؤولين في ولاية ميلة (السيد الوالي، والسادة الأمين العام للولاية، ومدير الثقافة، ومدير دار الثقافة الجميلة) على ما أحاطوا به ضيوفهم من حسن رعاية، وجميل استقبال، وكرم ضيافة، وقِدْمًا قيل: “الشيء من مصدره لا يُستغرب”.

ورحم الله ـ البر الرحيم ـ علماءنا العاملين، الذين كانوا أشواكا وأحساكا في جُنُوب وحلوق الجهّال والضُّلال والبغاة والطغاة، وجزاهم أحسن الجزاء على ما بذلوه من جهود، وما عانوه من جحود وكنود في سبيل تطهير ديننا مما علق به من أوشاب، وفي سبيل لغتنا وتاريخنا اللذين تآمر عليهما أراذلنا قبل أعدائنا. وإن كانت قبور هؤلاء العلماء بسيطة، ليس عليها قباب ولا أغطية فهم كما قال شوقي:

إن تسل أين قبور العظماء؟

فعلى الأفواه أو في الأنفس


هوامش:

1) محمد الصالح ابن عتيق: أحداث ومواقف….. ص 140

2 ) محمد الميلي: الشيخ مبارك الميلي. ص 280

3) آثار الإمام الإبراهيمي: ج 2. ص 185

4) المرجع نفسه: ج 2. ص 183

5) علي مَرَّاد: الحركة الإصلاحية الإسلامية في الجزائر. ص 107 108

6) جريدة البصائر: (السلسلة 1) ع 137. في 28 / 10 / 1938. ص 1

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
17
  • IBN KHALDOUN

    SALAM ALLAH ALAYKOUM
    Je conseil aux salafiste qui ont les yeux braqués sur l arabie saoudite de nous expliquer en koi une fetwa autorisant marikane de stationer des 1000 de soldats sur la terre sainte est un savoir heureusent que durant notre occupation par les français on avait pas ces salafiste autrement ils nous dirons que leurs oulemas interdisent de lutter contre les français come ils le disent en palestine d aileur, !!

  • جمال الزريبي

    لقد كانوا شيوخا حقا و صدقا رفعوا لواء الإسلام عاليا خفاقا، و حاربوا البدع و الضلالات التي استشرى أمرها في المجتمع آنئذ ، فكانوا علماء عاملين ، صدقوا الله فصدقهم الله ، نحسبهم كذلك ، والله حسيبهم ، ولا نزكي على الله أحدا، اللهم تقبلهم شهداء ، و شفعهم فينا يوم نلقاك.
    و في الأخير لدي رجاء من شيخنا الفاضل الحسني ،حيث أسأله إن كان لديه أي معلومات عن الشيخ المولود الزريبي أن لا يضن بها علينا ، و جزاه الله تعالى عنا و عن المسلمين خير الجزاء.

  • لمين

    إن كان الشيخ حفظه الله قد امتدح هؤلاء العلماء الربانيين بما ليسوا أهلا له ..ا فهل لنا نسمع منكم أو نقرأ لكم عن العلماء الحقيقيين ولو مقالا واحد؟ .. ها نحن أولاء قرأنا للشيخ الحسني .. فمتى نقرأ لكم ..؟

  • سعد

    تعليقا علي التعليق الاول اقول ربما تقصد باهل العلم علماء السعودية الذين افتوا لفرنسا ايام ثورة الامير عبد القادر ضد الاستعمار الفرنسي بعدم جواز محاربة الحاكم علماء يعيشون في قصور فخمة يفتون لارضاء الحكام ويقوم الحاكم بالدعاية لهم علي القنوات الفضائية
    ربما بالغ كاتب المقال في قوله ان مبارك الميلي ليس في حاجة لاي تحكيم بعد الابراهيمي وابن باديس لكن لا بد ان يعرف الجزائري ان هؤلاء الناس جاهدوا بعلمهم واناروا الطريق للشعب بامكانيات معدومة

  • ali bachir

    الى صاحب التعليق رقم1من هم اهل العلم الذين لاقيمة للابراهيمي وبن باديس عندهم اتحداك واتحداهم ان يقرءواللابراهيمي من غير الرجوع الى القاموس ثم اتعلم ماقال الغزاليعن الابراهمي يوم ان طلب منه القاء كلمة في الازهروماادراك مالازهر انذاك فقال(كان ينساب كالطود العظيم وكنت حينها لااقدم ولاااخر )

  • said

    رحم الله جميع شيوخ جمعية علماء المسلمين افنوا حياتهم في اخراج هدا الشعب من عبادة القبور و الشرك و الطرقية المنتشرة في دلك الوقت و لقد عادت هده السنين و العياد بالله مع بعض الاشخاص الي عبادة الله وحده لا شريك له فبفظل الله و شيوخ الجمعية بقيت هده الامة مسلمة جزاكم الله كل خير يا شيوخنا الاشراف احييتم عقل هده الامة الي طريق الخير رحمكم الله و ادخلكم مع نبيه الكريم محمد صل الله عليه و سلم .

  • ناصر

    كاتب المقال يسوق للوهابية بمدحه لأحد أكابرهم في عهد الاستعمار ويتحدث عن القبور كما كان يتشدق أسلافه بهذا الكلام . نحيطه علما كما شاهدناه أخيرا على إحدى القنوات الوطنية بأن قبر أحد شيوخ جمعيته وهو أيضا من معاصري شيخه بن باديس لا يحتوي على كلمة واحدة باللغة العربية. أليس عيبا على من يدعي العلم على زعمه ويحارب الاستعمار ونقرأ على قبره بعد موتهdécédé

  • المهاجر

    لهم جانب من العلم ..المطلوب هو إنزالهم منازلهم الصحيحة ..و ليس المتاجرة الرخيصة بما يضر بهم و بغيرهم...أما هذا الكاتب فهو واقع في شرك و زور من حيث لا يعلم و إن كان يعلم فويل له من يوم تشخص فيه الأبصار...

  • الراصد

    متى تغيير اسمك او على الاقل تحترمه فانك آذيت و أوذيت
    وارى العنقاء تكبر ان تصاد فعاند من تطيق له عنادا

  • ابو تميم

    بارك الله في شيخنا الهادي الحسني

  • محمد

    أستغرب لماذ لا يدرج المباركون أمثاله في التاريخ المدرسي بينما يدرج من هم أقل بركة؟

  • د.عبد النور

    رحم الله علمائنا الدين حاربوا البدع والخرافاث والشرك بجميع مضاهره في زمن انحرف وزاغ فيه المسلمون عن العقيدة الصافيه وللاسف لايزال يمتد الي يومنا هدا فهده اضرحه يطف حولها ويطلب المدد والغوث والعون من اصحابها حتي الجنائز الرسميه وعدنا نسمع عن الطرق الصوفية الثي ردمث ثحت الثري لعقود عديده بفضل علمئنا الافداد الدين سخرهم الله ثبارك وتعالي لاعاده بعث دينه القويم امثال الميلي ابن باديس و غيرهم من ج ع م
    بالمناسبه نعلم الاخوان عن صدور كتاب ثفسير القران الامام ابن باديس رحمه الله بتخريج وتحقيق جديدين

  • ZOURA

    من أرقى ما كتبت و ذكرت يا استاذ، حقا إن الشيخ مبارك الميلي من أعظم شيوخ الجزائر فكرا و تبصرا و جهادا رحمه الله و اعطانا من بعده خلفا طيبا انشاء الله

  • salim

    شخصيات لطالما نساها شعبنا و تناساها مسؤولونا و بقي ذكرهم إلا على أبواب المدارس حتى إذا سألت عن الميلي تجاب بأنها إبتدائية و إذا سألت عن بن نبي يقال لك إنها ثانوية, فلا درسنا عنهم في مدارسنا و لا شهر بإرثهم حتى نستفيد. بارك الله فيك أبانا الحسني فهؤلاء نتذكرهم بكتاباتك و أسأل الله أن يطيل في عمرك لنتعلم منك.

  • محمد الجزيري

    حفظك الله يا استاذ الحسني ونفع بك.

  • أبو بلال

    ربّما أنت اللّي عندك قيمة.
    لقد كشفت عن عورتك بهذه الجملة القصيرة التي كتبت.

  • محمد

    بن باديس والإبراهيمي والميلي لا قيمة لهم عند أهل العلم.