-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

متلازمة القانون الخاص ووزارة التربية الوطنية

محمد بوخطة
  • 9850
  • 0
متلازمة القانون الخاص ووزارة التربية الوطنية

نتحدث هنا عن المرسوم التنفيذي 08ـ315 المتضمن القانون الأساسي الخاص بالموظفين المنتمين للأسلاك الخاصة بالتربية الوطنية المعدل والمتمّم بالمرسوم التنفيذي 12ـ240 المؤرخ في 29 مايو 2012. وقد استهلك الحديث عن تعديل هذا الأخير من الوقت 10 سنوات ومن الوزراء (3) ومع ذلك لم يتغير منه شيء رغم الضجيج والوعود، ما يعني حتماً أنه كان أفضل الممكن.
حتى حين تجرأت وتشجعت الوزيرة وأعلنت تبني بعض التعديلات وإعلانها سنة 2018 والتي تحمس لها بعضهم، كتبت حينها مقالاً تقنياً مركّزاً بيّنت فيه أن تطبيقها غير ممكن، وقد أثبتت الأيام أن صواب ما كتبت.
لكل ذلك قصة سنخوض في بعض تفاصيلها من حيث الدوافع والمطالبات والعوائق والمؤثرات.
إن القوانين أو القوانين الخاصة القطاعية ليست مجرد مواد جامدة، إنها نصوص مرنة تعبر ـ هاهناـ عن خيارات سياسية، تربوية، إدارية، تنفيذية تتبناها إدارة الدولة في ظل خدمة مشروعها العامّ، وتحقيق توازن ما بين أداء المهمة الوظيفية والعناية بالموظف.
فهي من حيث تسميتها تستجيب لبعض الخصوصية القطاعية التي لا يتسع لها القانون العام للوظيفة العمومية من حيث طبيعته العامّة فيحيلها على القوانين الخاصة، لذلك أثبت هنا أن المبالغة في المقارنة بين مختلف القوانين الخاصة يخرج بها عن طبيعتها.
أذكر أنه بعيد صدور المرسوم 12ـ240 المعدِّل والمتمم، عبَّر بعض الشركاء الاجتماعيين الفاعلين بقوله: إن هذا القانون حقق 90% من أحلام موظفي القطاع. وقال آخر: إن هذا أفضل قانون لمستقبل قطاع التربية. ولكن فجأة تحوّل هؤلاء إلى رافضين شرسين للقانون ذاته الذي أشادوا به من قبل وامتدحوه، أنا هنا لا أنتصر لذات القانون ولا أرفضه ولكنني أشخِّص مسلكاً لأبحث دوافعه لا أكثر.
بمجرد ذهاب الحكومة سنة 2012 وقدوم الوزير الجديد إلى قطاع التربية، انبرى بعض المحيطين به من حراس المعبد القدامى ـ ممن يستهويهم ممارسة البطولة بأثر رجعي ولعل منهم من يتبوأ مكاناً مؤثراً اليوم (ولا أزيد إلى حين)ـ إلى التودد إليه بالطعن في سابقه وتحميله أوزار الماضي والحاضر والمستقبل.
لم أقوَ على الصمت حينها وقد قلت للسيد الوزير إذ ذاك ـ ولعله يقرأ هذه الكلمات ـ “إن هؤلاء الذين يتوددون إليك بالطعن في سلفك جميعهم دون استثناء جاء بهم هو ولم يكونوا يجرُؤون، وحين تذهب سيسلكون نفس المسلك مع خلَفك. قلت له بالحرف: لعلي آخرهم التحاقاً بوزارة التربية، لن أقدح في سلفك مجاناً ولن أفعل ذلك معك حين تذهب ويأتي من يخلفك، ليس ذلك في أخلاقي”.
لست ممن يمارس البطولة بأثر رجعي.. وأتوقف هنا ففي الخاطر كثيرٌ مما يؤلم أتمنى ألا يأتي أوان الخوض فيه.
كان من بين ما اقترحوا عليه فتح ملف القانون الخاص من جديد ليثبت تقصير سلفه، وقد أثبتت الأيام أنه كان اقتراحاً مفخخاً استهلك كثيرا من الجهد وكثيراً من الوقت للإدارة وللشركاء الاجتماعيين ولم يُفض إلى شيء حتى الآن.

فما هي الدوافع الموضوعية لهذه المطالبة؟

هما دافعان رئيسان يشكلان خلفية هذه المطالبة لدى الشركاء الاجتماعيين:
البحث عن تحسين الوضعية المادية للموظفين وتكييف بعض علاقات العمل لاسيما ما تعلق بعقدة ممارسة السلطة السلمية في الإدارة التربوية.. وماعدا ذلك متفرِّع عن هذين الدافعين.
بخصوص الدافع الأول: فإن ما يجب التنبيه إليه أن مرتبات الموظفين ليست مرتبطة حصراً بالوضعية القانونية التي يكرسها القانون الخاص، ولكنها ترتبط بمرونة وفاعلية أكثر بالنظام التعويضي الذي يكرسه المرسوم التنفيذي 10ـ87 المؤرخ في 24 فبراير 2010 الذي يؤسس للنظام التعويضي للموظفين المنتمين إلى الأسلاك الخاصة بالتربية الوطنية.
إن الشق الأضعف من أجر الموظف الذي يثمِّنه القانون الخاص، مرتبطٌ أساساً بمؤثر “المؤهل العلمي” وهو مؤثرٌ ثابت ومستقر بالنسبة للموظف الواحد، إنه يحدد الوضعية القانونية الأساسية للموظف تجاه الوظيفة كما نص على ذلك المرسوم الرئاسي 07ـ304، المؤرخ في 29 سبتمبر 2007 الذي يحدد الشبكة الاستدلالية لمرتبات الموظفين ونظام دفع رواتبهم، بينما الشق الأكثر مرونة وتأثيراً هو مركبة النظام التعويضي الذي يتضمنه المرسوم التنفيذي 10ـ87 المغفَل الحديث عنه كثيراً. والذي يقوم أساساً على مراعاة خصوصية الوظيفة وشروط أدائها.. (تفاصيل أكثر يمكن الرجوع إليها في مقالي المنشور سابقاً: شبكة مرتبات الموظفين: الإطار التشريعي وفلسفة البناء.. جريدة الشروق 9 أبريل 2018).
أما بخصوص النزاع حول ممارسة السلطة ـفي المؤسسات التربويةـ والتي هي في الغالب مرتبطة بمؤثر اجتماعي سياسي أكثر منه تربوي، ممهور أساساً بغياب هيبة الدولة ومؤسساتها لدى الكثيرين وضعف الشعور بالانتماء والرغبة في التملص من أداء المهام الذي نتج عنه تشابكٌ وتداخل في الصلاحيات أفضى إلى نزاعات غير موضوعية.. لن تعالجه النصوص القانونية.
عندما تقلّ الكفاءة والجدارة فيمن يمارس المسؤولية باسم الدولة ويعجز حتى عن بلورة سياساتها وتجسيد توجُّهاتها والدفاع عنها بكفاءة واقتدار، فإن ذلك سينعكس تهويناً لهيبة الدولة في النفوس ويُضعف الشعور بالانتماء ويُجرِّئ على المطالبات الأنانية البعيدة عما يليق بأداء الخدمة العمومية واحترامها.
إن مثل هذا الوضع لن تعالجه النصوص القانونية وتعديلاتها، إنه انعكاس لاختلال في مختلف المنظومات المجتمعية يقتضي تصحيحاً شاملاً وجريئاً.
هناك مفاهيم أساس من الضروري ألا تغيب حقائقها عن أذهان من يتناولون مثل هذه القضايا حتى لا يصادروها.
إن النصوص القانونية التنفيذية تعبِّر عن خيارات تتبنَّاها إدارة الدولة للتعبير عن خياراتها المعتمدة في أي مجال تربوياً كان أو غيره، فهي لا تخضع لمنطق الخطأ والصواب بقدر ما تعبِّر عن مدى وضوح الرؤية لدى إدارة الدولة وجدارتها في تجسيد سياساتها وبلورة خياراتها، وكفاءة القائمين عليها في الإقناع بها والدفاع عنها بالمنطق والحجّة.
أزعم هنا أن العجز وعدم الوضوح في التعبير عن خيارات الإدارة وفلسفتها شكل مرتكزاً قوياً لكثير من المطالبات، بعد أن تحولت الإدارة المركزية في التربية الوطنية إلى مجرد مكتب ضبط يجمع الآراء الواردة وفي أحسن الأحيان تحاول التوفيق الملفق بينها من دون استظهار لخياراتها المعتمدة، المؤيدة بالحجج الواقعية والموضوعية المقنِعة.
إن تبني أسلوب المجاملات ومحاولة إرضاء الجميع ولو بإذكاء الخلاف بينهم، أسلوبٌ قد يمكِّنك من تجاوز أزمة مؤقتة، ولكنه لن يستمرّ منهجاً مضطرداً يرتقي بعلاقات العمل ويؤسس لتعامل هادئ ومنضبط.
إننا بحاجة إلى إعادة النظر في علاقات العمل بما يعبِّر حقيقةً عن أخلاق الدولة المتوازنة وخيارات الخادمة للشعب المستهدفة ترقية الاجتماع.
هذا أساس المعوقات من وجهة نظري.
أمرٌ آخر لا يقلُّ خطورة وهو غياب الثقافة القانونية التي تدفع إلى احترام القانون والتزامه بدل التحايل عليه والتملُّص من التزاماته عند الإدارة وعند عامة المواطنين، وهو موضوع بحث جدير بالعناية لأن الغلو في التشريع والتلويح بالنص القانوني في مواجهة أي ظاهرة أو سلوك دون النظر العميق وتحديد المسؤولية سيجعل المواطن يتصور القانون خصماً يجب معاندته بدل الاعتماد عليه في إثبات الحقوق وأداء الواجبات.
إن القانون يجب أن يتجرد من سلطة من يطبقه وأن يستمد هيبته من عدالته وموضوعيته واستقراره ليصير مرجعاً حقيقياً يُتحاكم إليه. هذا معوق آخر.
إن عدم امتلاك آلية قراءة النص القانوني التي ستؤدي حتماً إلى سوء فهمه وأحياناً سوء تطبيقه إذا كان صاحب القراءة المعتلة يملك صلاحية التنفيذ مصدرٌ آخر لمظاهر التأزم والجدل.
من بين الأخطاء المرتكبة في معالجة ملف القانون الخاص أن وُضع كله على طاولة النقاش في حين أننا ندرك أن أي قانون مهما كان لا يمكن أن يكون محل تساؤل جملة واحدة، كان الأحرى أن تُشخَّص مَواطنُ الجدل والنزاع أولاً وأن تبادر إدارة التربية الوطنية بتبيان موقفها وبسط خياراتها والإقناع بها لتكون مرجع الانطلاق ومن ثم تفسح المجال للآراء المختلفة وتتفاعل معها أخذاً وعطاءً، كانت المهمة ستكون أسهل وستستغرق وقتاً أقصر وتستهلك جهداً أقلّ، أما سياسة التعويم وخلط الحابل بالنابل فليس لها من فائدة سوى ترحيل النزاع والجدل من زمن إلى زمن لاحق ومن وزير إلى وزير لاحق ويستمر المسلسل دون فائدة تجنيها الإدارة أو يجنيها القطاع ومنتسبوه.
إن المرجعية القانونية مهمة لأي تغيير يمكن أن يجري على القانون الخاص في قطاع التربية الوطنية، ولأن طبيعة هذا القانون طبيعة مغلقة، أقصد بذلك أن التوظيف الخارجي فيه موقوف على الرتب القاعدية وكل الترقيات بعد ذلك محصورة في داخل موظفي القطاع لـ80% أو يزيد من موظفيه خاصة في سلك التدريس، لذلك فإنَّ المرسوم التنفيذي 02ـ319، المؤرخ في: 14 أكتوبر 2002 المتضمن إنشاء شهادة معلم التعليم الأساسي وشهادة أستاذ التعليم الثانوي.. أولى بالمراجعة والحسم والاستقرار، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن تعذُّر تنفيذ المرسوم 14ـ266 مرده إلى تأثير المرسوم التنفيذي 02ـ319.

ما هو دور الشركاء الاجتماعيين؟

ليس مطلوباً من الشركاء الاجتماعيين صياغة نصوص قانونية في شكل رسمي، تلك مهمة تضطلع بها جهات مختصة ومؤهلة، ولكن المطلوب بلورة رؤى وأفكار وتوجُّهات وظيفية تربوية واجتماعية ناظمة لأداء المهام وعلاقات العمل، ذلك يكفيهم لتتولى بعد ذلك تلك الجهات المختصّة تشكيلها رسمياً في انسجام ودون تعارض مع مرجعيتها القانونية وخيارات الدولة المرجعية.
إن تعدد الشركاء الاجتماعيين ـ غير المفهوم أو غير المبرر أحياناًـ سيولد مراكز مصالح متعددة، أو ربما مراكز منافع متداخلة أو متعارضة، فيكرس التنافس والصراع بينها بقدر قد يشتت جهودهم وجهود الإدارة أيضاً في التعاطي معهم ويؤسس لصراع طبقي وظيفي، بل قد يأتي بنتائج مخيبة لمنتسبيهم.
أمرٌ مهمّ لا يجوز إغفاله:
إن النص القانوني الذي يسعى الشركاء الاجتماعيون إلى صياغته وتكريسه متفرّقين سيكون مُحَكَّماً فيهم مجتمعين، أن لم يتوافقوا عليه ابتداء، فلن يكون من اليسير أن يتوافقوا عليه انتهاء، أين هي العبقرية التي ينتظرون منها أن تجمع المتناقضات في سلة واحدة ولا يغضب منها أحد؟ تلك مهمة مستحيلة ومن ادّعى بأنه سيرضي الجميع فهو ملفِّق.
إن تجاوز هذه المعادلة تجاوزٌ لحدود الواقعية والمعقولية.. إنه مجرد تسويف ودحرجة لكرة الثلج.
في العالم نظامان للوظيفة العمومية:
ـ النظام المفتوح: الذي يركز على الوظيفة ـ لا على الموظف إلا من خلالهاـ ويراعي التخصص الدقيق في أدائها، هو نظامٌ مرن لا يخضع لتقنين خاص ومستقر في علاقة المستَخدِم بالمستَخدَم، تتبناه أمريكا وكندا.
ـ النظام المغلق: وهو نظامٌ يهتمّ بالموظف أكثر بحيث يقنِّن له مساراً مهنياً وينظم علاقته بالجهة المستخدِمة بشكل دقيق تتحول الوظيفة فيه إلى مهمة، وتقوم علاقة العمل فيه على مبدأ الدوام والاستمرار، تتبناه فرنسا وبلجيكا وألمانيا.
نظام الوظيفة العمومية عندنا هو نظامٌ مغلق في أصله العامّ يتبنى بعض الانفتاح مراعاة للظروف السياسية والاقتصادية، ولا أراه يخرج عن هذا النسق مهما كانت التعديلات التي يمكن أن تجري عليه، خاصّة وأن التفكير الوظيفي العامّ والسائد في المجتمع وعند السلطة السياسية لا يبتعد عن هذا المسار، ولذلك، فإن أي تعديلات يمكن أن تجرى عليه لن تكون عميقة ولا مؤثرة في القوانين الخاصة إلا بقدر شكلي محدود ـ التعديلات الدستورية أنموذجاً ـ
لنا عودة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!