-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

متى يتمُّ إصلاح الإدارة الجزائرية ؟

متى يتمُّ إصلاح الإدارة الجزائرية ؟

يُعدُّ جهاز الإدارة التنفيذي في المنظومة الحكومية والسلطوية بمثابة الأذرع والأيدي والأرجل وقرون الاستشعار والمجسَّات في جسم الإنسان والكائن السليم، والتي يتم بها مباشرةُ وممارسةُ وتنفيذُ ما تم فهمُه ووعيه ودرسه وتقريره في العقل. فهي -في حقيقتها- مجرد وسائل وأدوات وسبل التنفيذ والتطبيق والإنجاز الواقعي. وكل إنسان حُرم من أطرافه الأربع صار معوقا ومعطلا وعالة على غيره، ينتظر أن يتقدم أحدٌ من الجماعة المحيطة به كي يعينه على إعاقته ويجبر نقصه وقصوره لتنفيذ ما يحبه ويهواه ويريده ويقرره.. فكيف حال مشلول الجسم أو مقطوع أحد الأطراف؟

تُعدُّ الإدارة التنفيذية الجزائرية إحدى أهم أذرع النظام القائم، وأخص ركائز السلطة الحاكمة في التوجيه والتحكّم والسيطرة، فبواسطتها تحكمت فيه -للأسف الشديد- في العقود الستة الماضية 1962-2021م بخيرها وشرها وتخلفها وهزالها.. فقد كانت ومازالت تكلفة استخراج وثيقة أو إجراء معاملة إدارية.. دونها الوقت الشاقّ الطويل، والجهد المُضني الكبير، والملل والسفر والانتظار في الطوابير، دون نسيان مأساة استخراج شهادة الميلاد البيومترية فترة الحقبة الماضية التي شبعنا ذلا من أجلها ثم ألقينا بها في الأرشيف لعدم نفعها، ومأساة استخراج جواز السفر وبطاقة التعريف ورخصة السياقة وعقود الملكية.. ونحوها.

ولعل أحد أهم أسباب نفور الغالبية العظمى من الشعب الجزائري من تصديق السلطة والركون إليها هو سوء وبشاعة الممارسات الإدارية البيروقراطية التي يتلذذ بها أعوانها المرضى والسقيمون في التفنن في إذلال المواطن وسحق كرامته عند بوابات مكاتبها الظالمة وسلوكات غالبية موظفيها الآثمة.

ولعله من شرِّ ابتلاءات الله لعباده في الجزائر أن يضطر أحدٌ من المواطنين الأبرياء –بل هو مدفوع ومضطر شاء أم أبى- للتردد بشكل أو بآخر على مكاتب الإدارة الجزائرية ومصالحها الحكومية لقضاء مصلحة أو تحصيل حق أو دفع باطل أو تكوين ملف إداري حكومي أو استخراج وثيقة أو تجديد بطاقة أو إتمام ملف أو تحيين حالة في أي إدارة كانت.. حتى لو كانت إدارة متعلقة بالعلم أو المعرفة أو الثقافة أو حتى الدين الإسلامي والشؤون الدينية.. ويا ويحه لو توقفت أموره وانسدّت منافذها، ودُفع قسرا للتردد على المصالح الإدارية والحكومية.. لحلها وتسويتها.. فإنه سيتعرض لسلسلة من الارتكاسات والإهانات والصدمات التي يكون لها بلغ الأثر والتأثير في نفسيته حتى ولو كان من أشد الناس وأصلبهم قلبا وروحا وإيمانا..

وإذا قضى الله أمره العادل فيك، وأراد أن يُريك شيئا من عقابه المنتظر فيك دفعه في الحياة الدنيا، وقرر تعذيبك في الأرض التي لا تساوي عنده شعرة بعوضة، وكتب لك أن تقف أمام أبواب الإدارة وجلاديها المتجبرين، حيث لا يشفع لك علمٌ أو مكانة اجتماعية أو درجة أو مكانة وظيفية أو نحوها.. وكأن تخطئ فتقول: “أنا دكتور أو أستاذ في جامعة كذا أو كذا”، أو أن تبدو نبرات صوتك للحراس المنصتين لا السامعين فقط أنك من منطقة ما مغايرة تماما لمكان إقامتك.. وحيث لا يشفع لك سوى معارفك ووسائطك ونفوذك وقراباتك ومكانتهم من تلك الإدارة في تذليل مطبات وعوائق الحواجز الإدارية القاتلة، التي تبدأ من سطوة وجبروت أعوان الحراسة والمراقبة المتربصين بالداخل والخارج، والمستعدين للانقضاض عليك.. حتى تتذلل وتتصنّع إليهم بشتى وسائل التعبير والأدب وتخبرهم بالمهمة التي جئت من أجلها.

أذكر مرة أنني دخلت إدارة من الإدارات لاستعجال ملف مكث يروح ويجيء زورا وكذبا وبهتانا.. مدة ثماني سنين آثمة 2013-2021م، وقصدت أفضل موظف فيها وفرحت أنه يبدو عليه أمارات الطيبة والحيوية والثقافة واللسان الإداري الفرنسي.. وقلت في نفسي: “هذا إداريٌّ فرنسي الثقافة ومتحرر الضمير والسلوك، ولعلني أجد الخير وحل مشكلتي عنده”. وظللت أنتظر أمام مكتبه رُبع ساعة وهو يتكلم لحل مشكلة لأحد أقربائه مع رئيس إدارة أخرى بيروقراطي مثله، جاءه باكيا لأنه وقع مثلي في مصيدة الفاسدين والمفسدين، وظللت أنتظر وأنا أذرع البهو جيئة وذهابا، وأعلّل نفسي بالصبر والحلم حتى يفرغ من قضاء مصلحة قريبه وأنا أدعو الله أن يحلها له حتى أجد سيادته في أبهى وجدان نفسي، وأجمل قلب وعقل وروح.. وحتى لا ينقلب عليَّ جراء انتكاسته في حل مشكلة قريبه مع مثيله البيروقراطي المتجبِّر، فينقلب حينها عليّ من غير رحمة ولا شفقة. وما إن دخلت عليه المكتب حتى قال لي بالحرف الواحد حسنا إنه يوم الاستقبال: “وإن حل مشكلة ملفك عند المكتب الفلاني، ولكن الموظفين الاثنين غائبان، فأحدهما منهمكٌ في حملته الانتخابية فهو شبه غائب منذ أكثر من شهرين، والثاني مرض ابنه يوم الاستقبال”، فشكرته وأثنيت عليه أدبه وحسن استقباله لي، لأنني لا حيلة لي ولا وسيلة في بلدة أعمل فيها وليس لي فيها قريبٌ أو معارف، بل أنا للأسف الشديد غريب عنها باعتبارات الانتماءات الترابية والدموية والعصبية.. إذ ماتت فينا، بل انتحرت قيمُ الانتماء الروحي والديني واللغوي والأخلاقي والثقافي والأدبي والسلوكي..

وخرجت من عنده مقهورا حزينا رافعا رأسي وقلبي إلى السماء أشكو ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.. وتجتاحني عشرات الأسئلة الوجودية القاتلة: وأتساءل عن حال هذه الأمة المتخلفة والتائهة والضالة والمتنكبة عن طريق النهضة والحضارة عموما، وعن حال ثالث مؤسسة في الدولة وهي الإدارة التي كان الأولى بها ألا تكون بهذا الشكل والوسم المهين؟

واضطررت يوما لتتبع معاملة إدارية مهمة في إحدى الإدارات الجزائرية، فتعرضت فيها للتعنيف لا لشيء إلاّ لقولي للحارس الغشوم الظلوم: “لقد رأيتُ المدير خرج من الباب السري الخلفي”، وكدت أدخل في عراك لولا استسلامي المطلق واعتذاري لسيادة الحارس المكلف من طرف المدير بانتقاء من يدخل عنده ومن يخرج.. ولما أردت أن أرفع شكواي ذهبت إلى صديق لي يعمل إداريا في الجامعة وأخبرته ما جرى معي، فقال لي: حذار، وروى العجب العجاب عن أعاجيب هذه الإدارة وغيرها، بل ربما كل الإدارات الجزائرية للأسف الشديد تحتلها أسرٌ وعائلات بعينها، بدءًا من الحارس والحارس الليلي وانتهاءً بالسكرتيرة والمدير العام، بل سَرَتْ النكتة والنادرة المضحكة لتقول تندرا على هذه الإدارة الميتة: “إن أي موظف أو مسؤول أو حتى المدير، إن توفي أو مات أو حُوِّلَ سيخلفه واحدٌ من العائلة يحمل اللقب نفسه”..

والأمثلة كثيرة وكثيرة جدا -ولا تنتهي مادام أمثال أولئك العابثين والتائهين عن رسالة النهضة بالأمة والوطن- عن عبث الإدارة الجزائرية بمصالح المواطن من خلال مسؤوليها وإدارييها التائهين عن مهامهم الرسالية والحضارية والتنموية والنهضوية، ثم تتساءلون بمكرٍ أو باستهزاءٍ أو بوعي أم من دون وعي حضاري: لماذا يعاكسنا المواطن؟ ولماذا يقف في وجه كل ما نريده؟ ولماذا يكرهنا ويكره أن يذهب إلى الإدارة؟ ولماذا يخذلنا في الانتخابات والاستفتاءات وسائر النشاطات والفعاليات؟ لماذا لا يصدقنا حتى ولو كان الأمر في صالحه كالتطعيم من وباء “كُفاد”؟ ووالله قصصي مع الإدارة الفاسدة كثيرة جدا، وهذه خلاصة وعبر ومواعظ مآسيها.

أعتقد أن الإدارة الجزائرية اليوم بحاجة ماسّة وضرورية إلى الدم النظيف والجديد.. وإلى الكثير من الإطارات والكفاءات الرسالية والنزيهة والكفيئة والمخلصة والمتفانية في خدمة الوطن، والساعية والعاملة لرفعته ورقيِّه ونهضته..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • توفيق حريزي

    اين الرقمنة

  • ابن الجبل

    نحن في حاجة الى اصلاح الانسان قبل اصلاح الادارة .. بحيث أن هذه الادارة يسيرها الانسان ، فالادارة الصالحة من الانسان الصالح ... فما دامت الأمراض الاجتماعية كالرشوة والظلم واستغلال النفوذ والمناصب والسرقة منتشرة ، لا يمكن اصلاح الادارة في الوقت القريب .. لأن الانسان هو العقل المدبر لكل اصلاح يا سيدي الفاضل .

  • جزاءري

    ستصلح الإدارة الجزاءرية عندما تصلح ثقافتنا . الإدارة مراة لثقافتنا . ثقافتنا les dos d anes. Les batons dans les roues.

  • mourad

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اما بعد عندنا حل وحيد ولا غيره رقمنة الادارة و التعامل عن بعد بواسطة الانترنت .... والله غير عيب الوضعية اللي رانا فيها دول صغرى كل معاملاتها بواسطة الهاتف النقال والمحمول ...انظروا كم سنستفيد من اقتصاد الاموال المهدورة+الاموال التي سنربحها من التطور و الانتاجية المكبلة ....لا نملك إلا الدعاء لتحسن الأوضاع ولا حول ولاقوة إلا بالله