-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مجتمع ما قبل الدولة

مجتمع ما قبل الدولة

إن من أهم مميزات المدينة أن المؤسسات فيها هي المُنظّم الرئيسي للمجتمع، وأن العلاقات الاجتماعية بها تكون ضعيفة بخلاف القرية، وأن قوانين الدولة هي الحاكم الفعلي بين المواطنين، وأن العيش فيها يتطلب حقوقا وواجبات، والإدارة فيها تكون على مسافة واحدة بين الجميع بما في ذلك السلطات على اختلاف أشكالها.

وللمدينة أسلوب حياة، أو كما سماها عالم الاجتماع الأمريكي (لويس ورث): الحضرية كأسلوب حياة، أي إن للحضر، وهم سكان المدن، طريقة وأسلوب حياة تفرضه عليهم المدينة تختلف اختلافا كبيرا عن طريقة وأسلوب عيش سكان الريف أو القرية أو البادية. كما أن المدينة تتميز بتقسيم العمل والتخصص الدقيق فيه، فلا أحد يمكنه أن يؤدي عمل الآخرين، وإذا حدث ذلك، أدى إلى فوضى عارمة، تعيد المجتمع إلى ما قبل قيام الدولة.

وإذا عدنا إلى ما يحدث في جزائر اليوم إثر الانتشار الواسع لوباء جائحة كورونا، لما اختلف عاقلان على أنه بالرغم من العدد الهائل من المدن التي تُكوّن الجمهورية الجزائرية، إلا أن طريقة مواجهتنا لهذا الوباء لا تختلف كثيرا عن طرق مجابهة قبائل الأمازون أو الأبرجيون السكان الأصليون لأستراليا أو جماعات التروبرياند التي تحدث عنها الأنثروبولوجي (مالينوفسكي) عند مواجهتها لأي خطر يهدد حياتها أو بيئتها، بل نحن أقل شأنا منهم إذا ما نظرنا إلى منهجيتنا في التفكير وطريقة تصرفنا، فعلى الأقل هي قبائل لم تعرف لا الدولة ولا مؤسسات الدولة ولا تقسيم العمل والتخصص فيه، أما نحن فقد عرفنا كل هذا، ونعيش في دولة من المفروض أنها تطمح لتحقيق الأفضل في كل الميادين!!.

فهل يعقل في دولة مثل الجزائر، وفي العديد من مدنها، أن يتسبب نقص مادة الأكسجين في صراع دامي بين المواطنين؟! أو أن تمر شاحنة توزيع هذه المادة من مدينة إلى أخرى دون المرور بالمدينة التي تتوسطهما سواء أكان بدافع قوة البدن أو قوة الهاتف؟! أو أن يسعى المواطن للظفر بقارورة أكسجين ثم يصبح حارسا عليها في المستشفى أين يرقد أحد أفراد عائلته مخافة إن تركها وعاد إلى بيته سرقت منه ليسعف بها مريض آخر!!.

هل يعقل أن تعيدنا هذه الجائحة إلى تقاليد القبائل الغابرة أو التي لم تعرف بعد الحضارة والتحضر، فتتشكل على حسن نية جمعيات وجماعات في العديد من مدن الجزائر، لا ترقى حتى إلى درجة جمعيات المجتمع المدني، لتجمع المال والذهب من مختلف شرائح المجتمع من أجل شراء مكثفات الأكسجين للمستشفيات لإنقاذ حياة المرضى، ثم لا ندري كيف سيكون مصير هذه الأجهزة بعد تجاوز هذه المحنة.

إن التدافع والصراع على قارورات الأكسجين التي رأيناها على وسائط التواصل الاجتماعي تذكرنا بقانون الغاب، تذكرنا بما فعل قابيل بأخيه هابيل، وأن تفضيل مدينة على أخرى للتزود بمادة الأكسجين يذكرنا بقانون العصبية التي تحدث عنها ابن خلدون، وسعي المواطن للحصول على قارورة أكسجين ثم يتولى بنفسه توصيلها وحراستها هو فعل دون مرحلة المدنية ودون عصر تقسيم العمل الذي أدى إلى تطور دول وتقدم شعوب.

إن الذي يفترض منّا كمجتمع عصري هو أن تؤدي مؤسسات الدولة دورها بكل مسؤولية، وأن تسود قوانين الجمهورية على الجميع، وأن تؤدي جمعيات المجتمع المدني دورها المنتظر منها، الدور الذي تأسست من أجله، وأن يمارس المواطن نشاطه ودوره دون أن يتعدى إلى أدوار ومهام الآخرين، فيصبح في لحظة ما طبيبا وممرضا وحارسا ورئيس خلية حل الأزمات ومقترح لسياسات ومفسرا لقوانين ومتحدثا باسم المجتمع وفي كثير من الأحيان متحدثا باسم الدولة.

إن المطلوب منّا اليوم قبل الغد، ونحن بصدد محاربة هذه الجائحة أو بعد زوالها، أن نزيل من عقولنا ثقافة ما قبل الدولة وثقافة مجتمع القرية، أن نمسح من عقولنا تفكير “أنا الدولة” ومدينتي هي المركز الذي يجب أن تدور حولها كل المدن، علينا أن نعمل على ترسيخ ثقافة التضامن العضوي على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي (دوركايم)، ونبتعد عن ثقافة التضامن الآلي أو على الأقل أن نبقيها في إطارها ومكانها، فالوطن لنا جميعا، سيقوى ويتطور بتطور مؤسساته، بفعاليتها واستقلاليتها، الوطن يتقدم عندما يؤدي كل منّا دوره وواجباته سواء أكنا أفرادا أو منظمات مجتمع مدني أو سلطات تشريعية أو تنفيذية أو أي هيئة أخرى تخضع لقوانين الجمهورية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!