-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مخابر أم مقابر!؟

د. ياسين بوراس
  • 544
  • 0
مخابر أم مقابر!؟

لا يُخفى عن أحد من الباحثين أو الدّارسين الوضع الذي آلت إليه مخابر البحث العلميّ في الجامعة الجزائريّة، بعد أنْ أُفْرِغَت من محتواها العلميّ، وتحوّلت إلى ملكيّة خاصّة يأمر فيها الرّؤساء ويَنْهَون، ويُقرّبون فيها ويُبعدون بحسب الولاء والعداء، في ظلّ غياب إستراتيجيّة حقيقيّة لدعم البحث العلميّ الجامعيّ، إذا ما استثنينا تلك البحوث الخاصّة بمشاريع البحث الوطنيّة التي تدعمها الوزارة سنويّا، تحت عدّة صيغ: كمشاريع البحث الوطنيّة (PNR) ومشاريع البحث الجامعيّة (CNEPRU) ومشاريع البحث التّكويني الجامعيّ (PRFU).
هذه المشاريع تحوّلت معها المخابر إلى مراكز للتّسجيل وطبع الشّهادات لا أكثر ولا أقلّ؛ إذ بمجرّد التّسجيل في مشروع من هذه المشاريع، ينتهي دور المخبر ليتحوّل إلى مقبرة تتمّ زيارتها بشكل متقطّع، للاطّلاع على بعض المستجدّات حول دفع المستحقّات الماليّة أو تسجيل الحصيلة السّنويّة، التي هي في العادة حبر على ورق، أو نُقولٌ على نُقولٍ من مشاريع أو بحوث مُعَدَّةٍ مسبقا، ناهيك عن مجلاّتها العلميّة التي تحوّلت معها هذه المخابر إلى دور نشر، تُساوم الباحثين بحسب العرض والطّلب، أو ملتقياتها العلميّة التي تحوّلت معها إلى مراكز لطبع الشّهادات والمنشورات.
والحقيقة أنّ الهدف الأساس من إنشاء هذه المخابر، وفقا لما ينصّ عليه قانون البحث العلميّ والتّطوير التّكنولوجيّ، ضمن المرسوم التنفيذي99-243، المؤرّخ في 31 أكتوبر 1999،هو دفع حركة البحث العلميّ في الجامعات الجزائريّة بعد أنْ أصيبت بفترة ركود سنين طويلة، وفقا لما تنصّ عليه المادّة الرّابعة من هذا المرسوم تحت عنوان (المشاركة في تحصيل معارف علميّة وتكنولوجيّة جديدة والتَّحكُّم فيها وتطويرها) إضافة إلى دعم البحث العلميّ الجماعيّ، تحت عنوان (المشاركة في وضع شبكات بحث ملائمة) من هذه المادّة، في ظلّ عجز إنسان هذا العصر عن احتواء هذا الكمّ الهائل من المعرفة، والتطّور السّريع لنتائج البحث العلميّ، بعد أن عجزت الجهودُ الفرديّة عن احتوائها، وهذا عن طريق ما يُسمى بـ(نظامِ الفِرَق) الذي من شأنه أنْ يخلق جوًّا من التّنافس والتّعاون في ظلّ مبدأ تكافؤ الفرص، بما يُمكِّن من تطوير القدرات العلميّة للباحثين، وتعزيز مكانة البحث العلميّ في الجامعة، وهذا طبعا في ظلّ احترام القوانين الخاصّة بإنشائها وإدارتها داخل المؤسّسة الجامعيّة؛ أمّا أنْ تتحوّل إلى مكاتبَ لممارسة السّلطة العلميّة “أنا الرَّئيس وأنت الباحث” والأستاذيّة المَقيتَة “أنا أستاذ وأنت طالب” والإقصاء العلنيّ للأساتذة والباحثين ممن يزاولون نشاطهم داخل الجامعة أو خارجها، لمجرد الاختلاف معهم في الرّأي؛ بدل ممارسة سياسة اليد الممدودة للجميع واحترام رأي الآخر، لأجل صناعة ثقة متبادلة بين الباحثين وأعضائه، أو بين الرّئيس والأعضاء، أو بين الباحثين فيما بينهم، في إطار عمل جماعيّ مشترك وهدف واحد، هو دعم البحث العلميّ؛ فعندها ستتحوّل هذه المؤسّسة العلميّة إلى مرتع لمافيا الكذب على العلم والتّحزّب الإداريّ التي تغذّيها في العادة تلك النّزاعات الخاصّة والصّراعات الشّخصيّة، من منطلق أنا عالم وأنت جاهل!؟ وأنا على صواب وأنت على خطأ!؟ وأنا أوافقك الرّأي والآخر لا!؟ وغيرها من أشكال العِداءِ المُمارس في حقّ مؤسّسة هي أكثر من أنْ توصف بالعلم، ناهيك عن وصفها بقاطرة التّنمية وتطوير البحث العلميّ.
إنّ هذه الحقيقة وغيرها مما يجهله الكثيرون حول طبيعة البحث العلميّ الجماعيّ، جعلت الكثيرين من رؤساء المخابر لا يدركون قيمة هذا النّوع من البحث في ترقية البحث العلميّ على مستوى الجامعة، في ظلّ تراجع مكانة الجامعة الجزائريّة دوليا، وتأخرها في التّرتيب العالميّ، بسبب تراجع القيم وانهيار الأخلاق، في مؤسَّسة هي أجدر من أنْ تحمل لواء العلم والمعرفة ناهيك عن الأخلاق، وأنْ تُصلح بين ذاتِ البين في حال صار النّزاع أو الاختلاف؛ ولكن مع تراجع القيم والأخلاق، صار العمل الجماعيّ فيها أشبه بفوضى عارمة، كلٌّ فيها يبحث عن مصلحته الشّخصيّة وتدبير أموره الخاصّة، وبخاصّة مع استحواذ رؤسائها على كرسيّ الإدارة لسنين طويلة، رغم وجود قوانين خاصّة بتنظيم التّناوب على رئاستها بين أعضائها؛ ناهيك عن تلك الخروق القانونيّة التي تُستَخدَم فيها لأغراض خاصّة، كاستخدام منشوراتها للتّقرب من الباحثين، ونشر أعمالها على صفحات خاصّة لمواقع التّواصل الاجتماعيّ، دون أن يكون لها موقعٌ رسميّ أو حساب خاصّ على هذه الصّفحات التي تعمل على تقريبها من الباحثين، وزيادة مرئيتها؛ بما يمكّن من رفع عدد الزّوار، كمعيار من معايير تصنيفها في الجامعات الدّوليّة. إضافة إلى عدم تجهيزها بالأدوات المكتبيّة اللازمة: كالحواسيب، والمكتبات؛ بما يجعلها وجهة للباحثين والطّلبة، وكذا الغلق اليوميّ لها باستمرار في وجه الباحثين، من دون وضع رزنامة ثابتة تحدّد مواعيد الدّخول والخروج، وغيرها من أشكال التّعسف في إدارة هذه المخابر، ما جعلها شبه مهجورة أو كالمقابر،لا تتمّ زيارتها إلا من حين إلى حين، بهدف التّسجيل في مشروع من مشاريع البحث، أو المشاركة في ملتقى من الملتقيات التي تنظّمها سنويًّا، لزيادة عدد المنشورات أو الشّهادات العلميّة الخاصّة بملفِّ التّرقيّة، أو التّربّصات العلميّة نحو الخارج؛ بل تحوّلت في معظم الجامعات إلى أقسام للتّدريس، يزورها طلاب ما بعد التّدرّج (طلبة الدّكتوراه) تحت طائلة التّهديد، أو الخوف من الإقصاء لا أكثر ولا أقلّ.
إنّ هذه السّلوكات وغيرها مما صار يُعتَمَد في تسيير هذه المخابر، جعلها تعيش نوعا من الفراغ العلميّ، بعد أن تراجع مستوى أدائها، وقلّ مردودُ إنتاجها العلميّ، وعجزت عن خلق مشاريع حقيقيّة كفيلة بمعالجة المشكلات العصريّة التي يواجهها المجتمع في مختلف المجالات، باستثناء حركة النّشر التي أسهمت بها في دفع حركة البحث العلميّ في الجامعات الجزائريّة، بعد أن كانت دور النّشر قد أحكمت قبضتها على الباحثين سنين طويلة؛ ولكن بمردودٍ أقلّ وقيمة علميّة أبخس، إذا ما تمّت مقارنة منشوراتها العلميّة بمنشوراتٍ لمخابرَ ضمن جامعات دوليّة، ما جعل الوزارة تُصدر قرار الغلق الفوريّ لأربعمائة مخبر منها، وتعليق أنشطة البعض الآخر؛ إذ لم تتجاوز هذه المخابر مشكلاتها الدّاخليّة: كعدم توفير الاستقرار، والاعتماد على سياسة الإقصاء، والاقتصار في تسييرها على الأعضاء المؤسّسين، دون إشراك الأساتذة أو الباحثين، إضافة إلى البُعْدُ عن توفير جوٍّ من التّنافس في إطار العمل الجماعيّ والانسجام الجمعيّ، بين أعضاء المخبر ورؤساء الفرق من جهة، وبين رؤساء الفرق وأعضاء البحث من جهة ثانية، خاصّة حينما يتعلّق الأمر بإقصاء أهم عنصر مشارك في تطوير البحث العلميّ في الجامعة، وهو الطّالب الذي أُبْعِدَ كلّيًّا عن هذه المخابر في ممارسة البحث العلميّ، بل صار بعد إقصائه العفويّ أو المقصود، لا يعرف من هذه المخابر حتّى أسماءها ضمن كلّيته أو القسم الذي ينتمي إليه، بَلَهَ الحديث عن مكان وجودها ضمن هذا القسم أو ذاك، وهذا نتيجة الاعتماد في تسييرها على أعضاء المخبر الذي لا يتجاوز عددهم في العادة السّتة مع بعض الباحثين، وفقا لمصالح ضيّقة لا تتجاوز حدود البحث عن الشّهادات والتّرقيّة، في بُعدٍ تامٍّ عن الهدف الرّئيس من تأسيسه أو إنشائه، وفقا لقانون الاعتماد الخاصّ به.
وقد سعت الوزارة في الآونة الأخيرة إلى تدارك وضع هذه المخابر، البالغ عددها 1661 مخبرا حسب إحصائيات 2021، من خلال وضع معايير خاصّة؛ لتقييم أدائها والرّفع من مستوى مردود إنتاجها العلميّ، استنادا إلى ما يسمّى الحصيلة السّنويّة التي يرفعها رؤساء المخابر سنويًّا إلى الوزارة، ولكن في ظلّ غياب معايير حقيقيّة لتقييم هذه الحصيلة وبيان قيمتها العلميّة؛ تبقى هذه المعايير بعيدة كلّ البعد عن خلق معايير حقيقيّة، لقياس مستوى الجودة في إنتاج هذه المخابر، في ظلّ تغليب الكمّ على الكيف، ففي دراسة قام بها الباحث في علم الاجتماع أحمد فلوح حول (واقع مخابر البحث العلميّ في الجامعة ومقترحات تطويرها) توصّلت إلى أنّ ما نسبته 70% من هذه المخابر تدعم سياسة الكم على حساب الكيف، ما انجرّ عنه عدم الاستفادة من هذه البحوث بنسبة 60% وأكثر؛ بالنّسبة للطّلبة والباحثين، نتيجة اقتصار أهداف إنجاز هذه البحوث على التّرقية الإداريّة والمهنيّة فقط، إضافة إلى عدم تحقيق الأهداف المرجوّة من إنشائها، منذ صدور أوّل اعتماد لها في الوزارة، بعد أن انحصر دورها في إحياء التّظاهرات العلميّة، ونشر المجلات، وتوزيع الشَّهادات، بنسبة 75% منها. (للاطلاع على الدّراسة ينظر: مجلّة الشّامل للعلوم التّربويّة والاجتماعيّة، جامعة الشّهيد حمّة لخضر-الوادي، العدد: 01، جوان 2018)، هذا ما تعلّمناه من مشايخنا وإنّ النّجاح صناعة جماعيّة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!