الرأي

مخابر ومشاريع البحث الجامعية وجهٌ قذر لنهب المال العام

أرشيف

بحسن نية وصفاء طوية وحرارة اكتشاف وبحث علمي مجرد، قرَّرتُ أواخر شهر نوفمبر وبداية ديسمبر أن أُضيف جزءًا سادسا لكتاب (معجم تراجم وسير أعلام الأوراس) الذي أفلحت في تسجيله كحلقة بحث في دائرة مشاريع البحث العلمي بوزارة التعليم العالي (2019-2022م)، وقررت أن أقوم بزيارة لكليات وأقسام جامعتنا لأحث من اتصلت بهم قبل سنوات من الأساتذة الجامعيين كي يزودوني بسيرهم الذاتية، أو أتعرف على آخرين جددٍ علّني أُفلح في إضافة سيرهم إلى معجم تراجم وسير أعلام الأوراس، وبدأت النشاط والزيارة والاتصال.. وكلما دخلت مكتبا أو إدارة أجد الجميع غير مكترثين بما أدعوهم إليه من مجد وسؤدد، متخلصين مني بلباقة متقين مني ومن طلبي بعبارات التسويف المشهورة (إن شاء الله) عندما نتفرَّغ ونجد الوقت الكافي سنجتهد لكتابة تلك الصفحات ونرسلها لك بالبريد الإلكتروني، فأودع مكلوما محسورا لنخبٍ تأتيها الفرصة لتكتب عن نفسها بيدها خير من أن يكتب عنها غيرها فيصيب ويخطىء ويشوه..

ولكنني رأيت العجب العجاب، فالكل الذين قابلتهم: رجالا ونساء، صغارا وكبارا معروفين ومجهولين في عالم الكتابة والنشر والتأليف والتدريس الجامعي.. رأيتهم منهمكين في ملء تقارير الانتهاء من شطر البحث العلمي الذي يخصُّهم، ولاسيما وأن أجل إيداعها قد قارب على الانتهاء، وتساءلت بيني وبين نفسي قائلا: (لماذا تظلم هؤلاء الباحثين الجامعيين المخلصين، فـهؤلاء كتّابٌ وباحثون مثلي ألا ترى أنهم يملؤون تلك التقارير والاستمارات التي ملأتها أنا أيضا؟) و(لابد وأنهم قد ألفوا الكتب والمجلدات مثلي وإلاّ لماذا يملؤون تلك الاستمارات؟) و(لماذا يطالبون بالمكافآت والمنح المالية المستحقة كل آخر عام؟)، وأخيرا رابني الشك المرعب، وقلت في نفسي: إن هؤلاء جميعا أعرفهم أشدّ المعرفة من خلال مواقع كلياتهم، فهم عطل وخلو من الكتابة والتأليف والنشر عدا البعض القليل منهم،  ثم عدت إلى عقلي وحصاتي، وتشجعت وقررت أن أسأل –ببلاهة وغباء وقلة خبرة ومعرفة بألاعيب الإدارة- كل مكتب أو إدارة أو أستاذ أو مسؤول ألاقيه هذا السؤال: (تصور يا أستاذ لو أن الوزارة قررت أن تطالبكم بما دوَّنتموه في تقاريركم، وتطلب منكم نسخا من تآليفكم وكتاباتكم؟)، وكانت الإجابة الصاعقة والأكثر غرابة والتي اتفق الجميع حولها وتواطؤوا –للأسف عليها- شكلا ومعنى وعبارة، ومفادها: (هذه التقارير هي أمورٌ شكلية ولن يطلع عليها أحد، والوزارة وضعت هذه الأموال مقابل هذه التقارير الكاذبة لمساعدة الأساتذة ماديا)، فدُهشت من وحدة الإجابة بين عشرات الذين سألتهم من كبار وصغار الأساتذة والأستاذات.

والغريب في الأمر أن الكثير من أشباه الأساتذة والباحثين والباحثات صار يشرح لي كيف سجّل أول وحدة بحث في حياته سنة 1995م ولم يكتب حرفا واحدا.. وتقاضى المال الكثير فضلا عن الرحلات والعملة الصعبة والمؤتمرات والأدوات والوسائل وأجهزة الإعلام الآلي وآلات التصوير.. وغيرها من المنافع..  وما سأله أو ساءله أحد.. ثم كيف سجل الثانية والثالثة وكيف سجل العاشرة وتقاضى المال الكثير ولم يكتب حرفا، بل كل ما كتبه فقط هو تلك الاستمارة الغادرة المغدور بها.. ومنهم من قال لي: (فلانة هذا رابع مشروع تسجله وتنال فيه كذا وكذا ولم تقدّم شيئا)، وتذكّرت يوما أني كنت عضوا في مناقشة رسالة دكتوراة في كليتنا قبل سنتين وكانت معنا أستاذة قادمة من ولاية مجاورة وسمعتني أتحدث عن مشروعي العلمي والتأريخي هذا مع زميل لي فتدخلت في الحوار وعرضت عليّ أن تطبع لي هذا العمل على حساب مخبرها لأنها تملك المال الكثير ولا تعرف كيف تُنفقه، كما عرضت عليّ أن أكتب معها في مجلة المخبر والكتاب الجماعي للمخبر.. وغيرها.. ووقت المناقشة قالت المسكينة تلك الكليشيهات المعهودة من النخب التي لا تقرأ، والتي نسمعها في كل مناقشة، فاضطررت أن أسألها (وهل ألَّفتِ كتابا وضعت وشخّصت فيه هذه المنهجية التعجيزية؟) فصمتت المسكينة!

وبعد سماعي هذا الجواب المخزي والبشع الذي تكرر على مسامعي عشرات المرات ذُهلت وفشلت وتلاشت قواي وصرت أكلم نفسي وأحدِّثها كالمجنون (إذن هي تقارير كاذبة والوزارة لن تقرأها وهي لمساعدة الأستاذ المتآمر على منظومة قيم وأمة وحياة وماض وحاضر ومستقبل بأكمله..)، وذهبت أسأل أقرب الناس إليَّ في العمل: هل صحيح بالفعل أنّ الوزارة لا تقرأها، ولا تكلف نفسها عناء تكوين لجان تدرس تلك المنتجات العلمية؟ فقال لي أحد هؤلاء وكان قد درس عندي قبل رُبع قرن وصار مسؤولا إداريا مرموقا.. (نعم يا أستاذ أحمد كم أنت طيِّبٌ ومسكين..) واستحى أن يقول لي: كم أنت ساذج.. فعاجلته قائلا: (أنا بين يدي خمسة مجلدات كاملة وتامة من البحث ومتى طلبوها قدَّمتها لهم ليطبعوها)، فضحك عليّ وقال لي: (اِذهب فاملأ استماراتك ونِل أجرك)، فقلت له: (سأنال أجرا حلالا إن شاء الله وسأفيد أمتي إذا أرادت أن تطبع هذا العمل). وتركته شاكرا إياه على نصائحه الذهبية التي حصّلها في عقد من الزمن والتي فشلتُ في التعرف عليها طيلة أربعة عقود من الزمن الدعوي والتعليمي والتربوي الفاعل والخالص لوجه الله تعالى..

وتساءلت بعدها: (لماذا لا تطالب الوزارة كل صاحب مخبر أو مشروع بنتاجه العلمي؟) و(لماذا لا تضع لجانا متخصصة لدراسة كل تلك التقارير الكاذبة؟) و(لماذا لا تأخذ بيدٍ من حديد من هؤلاء الكذبة والغشاشين والمارقين؟) و(لماذا لا تضع حدا لمثل هؤلاء الأراذل الذين دنَّسوا أطهر فضاء وهو فضاء العلم والبحث العلمي؟) و(هل هي جادة في ذلك أم هي أيضا تودُّ أن تشتري صمت وتآمر هؤلاء المفلسين من العلم والدين والخُلق؟).. وغيرها من الأسئلة الوجودية والأخلاقية المشروعة، التي يترتب عليها نجاح أو سقوط وانهيار أمة بأكملها.. ولعلني بتساؤلاتي تلك وجدت تفسيرا صحيحا ومقنعا لسبب ترتيبنا في ذيل الأمم.

وللتدليل على صحة هذا السقوط العلمي والأخلاقي قرَّرتُ البحث العميق والمقصود في رفوف المكتبة بمساعدة عمالها عن الأعمال والمؤلفات والإصدارات الصادرة عن مخابر ومشاريع البحث الموجودة في المكتبة، بالرغم من سكناي مكتبة الكلية ذات العشرين ألف عنوان ومائة ألف نسخة من الكتب والمؤلفات والتي تعاني من غبار النسيان وعاديات الهجران والنوى من قِبل مرتاديها من الطلبة والأساتذة والباحثين.. فماذا وجدت له صلة بتلك المشاريع أو المخابر؟ لقد وجدت أرضا يبابا وسرابا بلقعا.. أما مشاريع البحث فما وجدت شيئا مطبوعا، وأما مخابر البحث فوجدتها قد أصدرت مجلة أو مجلتين أو ثلاث أو أربع مجلات على الأكثر، وأنفقت أموالا طائلة على الإطعام والمبيت وتذاكر النقل والهدايا لعقد ملتقى تخرُج منه بكتاب هزيل، وهكذا يسدل الستار عن ميزانية تقدَّر بمئات الملايين دون أن يكون المنتوج مفيدا.

وقد روى لي أحد الأصدقاء المحترمين جدا عن حال مخبر أنشأه أحد عمداء الكليات في جامعة تقع في شرق الوطن وخصصت له الوزارة مئات الملايين أو أكثر منذ أكثر من عشر سنوات، وخصصت له إدارة الكلية قاعة كبيرة كانت مكتبة الكلية سابقا، وكاتبة وملأته بالأجهزة والمكاتب والطابعات وسائر الأجهزة المكتبية المكدسة فيه إلى حد كتابة هذه السطور والتي كساها الغبار وسكنتها الفئران.. ووضعوا على بابه لافتة تشي بالعلم والمعرفة والبحث (مخبر كذا وكذا وكذا لدراسات كذا وكذا) ووضعوا في الرواق كاميرا مراقبة لمن تسوِّل له نفسُه أن يمزق تلك اللافتة الكاذبة الآثمة.. وقد سألت يوما أحد أعضاء فريق البحث هذا عن إمكانية تصوير ورقة في ذلك المخبر فأخبرني بالعبارة قائلا: (لا يجوز لنا أن ندخل هذا المكان فضلا عن أن نتصرف في جهاز من تلك الأجهزة المكتبية التي جُلبت باسم هذا الباحث الطيِّب).

ويروي لي هذا الصديق أن مدير هذا المخبر رفعت العصابة من قدره وعيَّــنته مديرا لإحدى جامعات الوطن فعاث في الأرض فسادا حتى صار مطلوبا للعدالة على حد تصريح المدير الذي خلَفه، ففرَّ إلى إحدى الدول الأوربية، ويضيف محدثي أن المخبر مازال مغلقا، واللافتة مازالت معلقة.

ولعلني أنقل لكم مشهدا هزليا عاينته بنفسي عن أحد مخابر البحث العلمي تحتضنه جامعة الحاج لخضر في قسم الرياضة سابقا، عن الطاقة الشمسية التي نتشدق بها الآن بعد أن سبقنا إليها النابهون قبل أربعة عقود، وهي مشاريع قديمة وبالية جدا، وقد عاد بي هذا المجسم البدائي جدا إلى سنوات 1977-1979م بجامعة عنابة في عهد الوزير (عبد الحق برارحي) وعمادة (قادة علاب) و(عبد الحميد أبركان) عندما كان الأستاذ التونسي (البشير التركي) يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته رئيس تحرير مجلة “العلم والإيمان” وعضو المجمع النووي بفيينا والمدرِّس بالجامعات الأوربية قد أنشأ مخبرا في الطبيعة مثله تماما، فالبرميل واللوحة الزجاجية هما ذاتهما والأنابيب كذلك، ومن لم يصدِّق هذا الخبر، عليه أن يرجع إلى مجلة “العلم والإيمان” وسيكتشف كم تأخرنا عن الطاقة الشمسية.. ثم نأتي فنسمي هذا “مشروع بحث عن الطاقة الشمسية”، وللعلم فقد كان الدكتور (البشير التركي) من أنصار التيار الإسلامي وكان يقيم دروسا مسجدية لنا في علم الإعجاز فتضايق منه اليساريون الذين كانوا يجثمون على المشهد الجامعي فطردوه يرحمه الله.. وكثير من عمداء الجامعات حاليا يعرفون هذه الأحداث.

هذه هي قصة –ومن دون تعميم- مخابر البحث العلمي في جزائر التغيير والاكتشافات وتطوير البحث والرقي بالباحثين.. يا وزير التعليم العالي والبحث العلمي.

مقالات ذات صلة