الرأي

مداخلة حول الربيع العربي

علم المستقبليات علم قائم بذاته، له قواعده وأهله. وقد تعلمنا في التاريخ أنه يجوز للسياسي والإعلامي وأمثالهما التنبؤ بما سيقع ولكن ذلك لا يجوز للمؤرخ. لذلك تجدني محرجا في التحدث عن علم ليس لي فيه نصيب، متطفلا على اختصاص غيري، فأهرف بما لا أعرف.

وللخروج من هذا الحرج رأيت أن أتحدث عن الماضي لأن فيه العبرة للحاضر والمستقبل، وأنتهي بملاحظات مستقبلية استخلاصا مما عاشته منطقة المغرب العربي في الماضي.

كنت أقرأ كتاب العبر لابن خلدون في موضوع يخصني فوجدته يكثر من الحديث عن أمور لفتت نظري ورأيت فيها موعظة بالغة للأجيال مستقبلا:

أولا: كثرة ما يسميه “الدول” عند أهل البلاد قبل الإسلام وبعده، فهو يكاد يسمي كل تجمع قبلي بزعامة مغامر أو شيخ قبيلة: “دولة”، فليس عنده فيما يبدو مقياس لمفهوم الدولة. ويسري ذلك بالضرورة على الدولة عندما تقدمت بها السن وأصبحت محصورة في منطقة جغرافية وحدود سياسية تقليدية غير دولية، وأصبحت تحت حكم “عائلة” ترث وتورث (كما حدث في العصر الحفصي والزياني والمريني). وكان يسمي الأمة الإسلامية دولة الإسلام، ودولة بني أمية ودولة بني العباس.. ولا ندري ماذا كان سيسمي ابن خلدون دولة بني عثمان وأقاليمها المترامية التي اتخذت أيضا شكل دول (الحسينية في تونس، والقرامانلية في طرابلس، ودولة الدايات في الجزائر).

ثانيا: وصف ابن خلدون وكرر الوصف الطرق والوسائل التي تخلص القيادات ببساطة وسهولة من بعضها البعض، وأكثر من ذكر التآمر وما في معناه كالدس والضغينة والخديعة والتوريط… فكل حاكم لا يمكنه البقاء على كرسيه إلا بالتخلص من أعضاده وحاشيته وموظفيه البارزين بالظنة والوشاية لبث الرعب وإشباع شهية الانتقام، فأنت لا تجد الحاكم (الأمير، السلطان، العامل، الوالي..) إلا شاهرا سيفه أو سيف جلاده، واقفا بباب قصره، لقطع رؤوس “الأعداء” الوهميين أو الحقيقيين، سواء كانوا من أقاربه أو من موظفيه أو من الثائرين عليه أو من الخائنين له، بل حتى البراء المتخيلين. فتاريخ ما سماه ابن خلدون بالدول لا يكاد يخرج عن مفهوم مسلسل جرائم بالمفهوم الحاضر، فهو سلسلة من الخوف وعدم الاستقرار وانعدام الوفاء، ولا يكاد يحمل أي بذرة لمفهوم الحق والعدل والمواطنة، فضلا عن تطبيق الشريعة الإسلامية التي وضعت حدودا في نصوص صريحة لتطبيق الجزاء والعقاب.

ثالثا: سيادة الحكم المطلق أو الاستبداد المطلق، فالأمير أو السلطان لا يسأل عما يفعل، والرعية غائبة عن المشهد إلا إذا عبرت بالثورة عم غضبها. وما يسمى البيعة لا معنى له في الواقع، فإذا صدرت البيعة فعلا فهي صورية من علماء يخافون الحاكم ولا يخافون الله، وكان السجن أقرب مسافة لمن خالف أو شذ عن البيعة، وكان النفي وحتى القتل هو مصير المترددين أو المتمردين. لذلك كان على الممتنع من البيعة أن يختفي عن عيون السلطان، كما فعل ابن خلدون نفسه وجعلته يقول إن العلماء أبعد الناس عن السياسة. وقد زهدت النخب النظيفة في السياسة وأصبحت تحذر من خدمة السلطان، وفيها من كان يعتزل القضاء ويلجأ إلى التصوف والعبادة والخلوة.

فأي تاريخ لدول وممالك وسلاطين ليس لهم منها إلا الألقاب، فهم كما قال فيهم الشاعر ابن رشيق عندما رفض الذهاب إلى الأندلس بعد سقوط القيروان والمهدية:

مما يـزهّدني في أرض أندلـس سماع مقتدر فيها ومعتضـد

ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

وأية رعية هذه التي تقبل ألا يكون بينها وبين حكامها انسجام ولا تشاور ولا احترام، رعية تتمنى زوال النعمة عن سلاطينها وإحلال النقمة بهم وبذويهم ومواليهم ونظام حياتهم، وهي رافعة عينيها ويديها إلى السماء.

رابعا: اعتداء الدويلات بعضها على بعض، فليس هناك تفاهم على حدود ولا علاقات ودية ولا مراعاة لحسن الجوار ولا تفاهم على مصالح الناس. وقد نشأت تحالفات ومصاهرات غريبة ليست من الدبلوماسية ولا من الإسلام في شيء، يكفي أن نشير إلى التحالف الذي وقع مع بعض الطغاة (حسب لغة ابن خلدون، وهو يعني بهم الحكام غير المسلمين) ضد سلطان دولة إسلامية. هذه هو نموذج الدول التي ساق ابن خلدون أسماءها في نبرة تثير عندنا التقزز والاشمئزاز.

خامسا: مهما كانت الدولة، صغيرة أو كبيرة، قبيلة أو اتحادية من القبائل، تابعة لهذا المذهب أو ذاك، فهي دولة بالوراثة، فليس هناك من يترك أمر السلطة شورى لتختارالرعية الأفضل لها، الوارثة هي الأساس ولو كان الوريث جنينا في بطن أمه، أو صبيا لم يبلغ الحلم. لا ثقة في أحد غير ولي العهد الذي طالما انقلب على والده إذا كان من صلبه، أو على أخيه غير الشقيق أو ابن أخ، والغالب أن ينتهي الأمر نهاية مأساوية.

سادسا: كيف يمكن لحكام يخشون على حياتهم من أبنائهم وعلمائهم وقوادهم أن ينتجوا حضارة أو يبنوا مؤسسات تبقى على الدهر أو يرعوا ذمة للفنون والعلوم والآداب. لا غرابة أن كان تاريخ المغرب العربي- مع استثناءات نادرة- تاريخ السلسلة من الحوادث المصنفة في قاموس السياسة في باب الجرائم ضد الإنسانية بالمفهوم المعاصر، إلى جانب تزييف الأنساب وعدم الأهلية وتجاوز الأحكام الشرعية.

ورغم أن المجتمع كان مهملا ومتروكا لنفسه من حيث التعلم واكتساب المهن الحرة فإننا سجلنا مواقف كريمة ومشرفة لما يمكن أن نطلق عليه تجاوزا المجتمع المدني. فهو الذي له فضل كبير في إعطاء مفهوم خاص للمنظومة الحضارية المتمثلة في خدمة الدين والعلم. وهذا المجتمع هو الذي جاد بالأوقاف وأعمال البر والإحسان، والنفقة على الزهاد والعباد وبناء المدارس والمساجد والملاجئ والمشافي والقباب. كما كان لأهل التصوف فضل في الجانب التربوي بوضع ملامح لثقافة خاصة في التعامل مع السلاطين والعلماء ورجل الشارع، وفي إقامة الربط وبناء الخلوات والزوايا للتربية الروحية.

نحن هنا لا نحاسب ابن خلدون طبعا، فهو في الواقع أكثر المؤرخين علمية وأصدقهم وصفا للواقع الذي عاشه وأبلغهم شكا في حسن النوايا. وهو يتفادى الإثارة ولا يستعمل عبارات المدح أو القدح مجانا، ولا يسوق حكايات خفيفة يروح بها على ذهن القارئ. فقد سجل الوقائع وسمى الأسماء والشواهد وترك لنا ثروة من الحوادث وانطباعا يتمثل في أن تاريخ المغرب العربي كان تاريخا سلبيا لا يرفع رأسا ولا يخرق أرضا ولا يبلغ الجبال طولا، لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الثقافة ولا في الاستقرار الاجتماعي والإبداع الحضاري. إنه تاريخ مليء بالأشياء المحزنة والحوادث المؤسفة، لا يحتكم مرتكبوها إلى عقد اجتماعي وسياسي مع الرعية ولا يرجعون فيها إلى قرآن أو سنة. وقد نبالغ فنقول إنه لا حكم عندهم إلا غريزة الغاب ومنطق الدم. والخطير هو أن هذا السلوك قد جرى في دماء حكامنا المعاصرين وما زال يجري، ولم توقفه أحيانا إلا بعض الثورات الشعبية التي تفضح المستور وتقلب الأمور.

في الجانب الآخر كان الغرب الأوروبي منذ العصر الروماني يعيش أيضا عيشتنا ويحيى حياة يصدق عليها وصف ابن خلدون لحياتنا، وتبعا لنظرية التطور والارتقاء وجد الغرب نفسه يخرج من عصر الظلام إلى آفاق العصر الحديث ويستيقظ على وقع حضارة الإسلام من جهة وتراث الإغريق من جهة أخرى، فاستعار الغرب ما ناسبه وتعلم فلسفة الحكم وحرية الدين والعقل. ولكن الطرق إلى ذلك لم تكن سلمية أيضا بل ربما كانت أكثر دموية من تجربة الربيع العربي، والفرق أن هذه التجربة كانت تدور في فلك مغلق، بينما تجربة الغرب كانت تدور في آفاق مفتوحة. فكانت نخبتنا تتآمر على بعضها لتتقرب من السلطان، وكانت نخبتهم تتجمع لتطلب حقوقها من سلطانها، وإذا شاركته في الحكم فمن أجل تجريده من الحق الإلهي والحكم المطلق وإخضاعه إلى عقد اجتماعي مشترك. كما وضعت قواعد للتداول على السلطة والحد من سلطة الكنيسة. وفي سبيل ذلك سقط كثير من الضحايا، وهم يسمون ذلك معراج الديمقراطية وثمن الحرية- وهكذا تيقن الغرب أن طريق الديمقراطية طريق شائك ومشوك، وفيه منعرجات كثيرة، ومع ذلك واصل السير إلى نهاية الطريق من أجل التوفيق بين الدين والعقل وبين السياسة والمال والأخلاق.

في ضوء التجارب السابقة هل يمكننا أن نخرج بتصور مستقبلي لما سيحدث في أقطار المغرب العربي، وهل نمط ما سمي بالربيع العربي هو المثل الأعلى للتغيير؟ الحق أن هناك تشابها في الانتقال من حالتنا الحاضرة إلى حالة النظام الأوروبي في بعض منعطفاته. فالاستبداد واحد، وطرق التخلص من المستبد تكاد تكون واحدة، ومحاولات الاستئثار بالحكم واحدة، والخروج عن المعايير الدينية والأخلاقية واحد. ولكن أقطار الربيع العربي عندنا ما تزال تنتظر تفتح الأزهار لأن الهدف من التجربة وهو الديمقراطية ما يزال بعيدا عما توقعت الشعوب، فالعبرة ليست في تغيير الهياكل والأشخاص ولكن في تغيير الذهنيات ورفع مستوى الوعي، وهذا لا يكون إلا برفع الأمية عند الشعب وبلوغ حكامه ما يسمى في بعض اللغات درجة ستيتسمان أو رجل الدولة. ثم إن بعض دول الربيع تحولت إلى حمامات دم وخراب بيوت وتقسيم أوطان، وإذا شئت تحولت إلى شتاء قاس تعبث بها العواصف والأنواء.

.

إلى أين تسير قافلة الربيع بالمغرب العربي؟

الحق أقول إنني مازلت غير متفائل بموسم الأزهار، لأنني غير متأكد من أن هذا الموسم قد حل بيننا طبيعيا وتلقائيا أو كان مبتسرا ومدفوع الأجر. فالوعي بالأهداف غائب وإن كانت الأسباب معروفة، والانتهازية مكشوفة للعيان، ورجل الدولة مفقود في المعادلة، فكيف يكون التفاؤل. إن تفعيل اتحاد المغرب العربي لم يحصل حتى الآن، وهو تفعيل لا بد أن تفرضه الشعوب إذا عجز رجال الدولة عن تحقيقه، وقد أظهروا حتى الآن عجزهم لأن حل مشكلة كنزاع الصحراء ما زالت تنتظر معجزة أو إملاء من الخارج.

ثانيا: لأن شعوب الربيع ما تزال في مرحلة الطفولة أو المراهقة فهي لم تفرق بين حقوقها وواجباتها وما تزال ترد الفعل بعواطفها لا بعقولها، وهي طبعا تعيش في أمية قاتلة، شعوب غير مندمجة في المجتمع الدولي وتعقيداته.

ثالثا: لأن الحكام الجدد ليسوا بالضرورة مؤهلين لقيادة المرحلة، فهم بدون شك من نتاج مرحلة سابقة خلفت فيهم جراحات وعقابيل من الصعب التخلص منها في زمن قصير. يضاف إلى ذلك الضغوط الداخلية والخارجية التي لا قبل لهم بها أحيانا.

رابعا: لأن مجتمعات الربيع العربي، وإن قرأت رسالة الربيع، فإنها لم تقرأ رسالة الهوية التي وضعتها أو تنشدها القيادات الجديدة؟ هل الربيع العربي يتناقض مع تحديد الهوية؟ وهل نجاح الربيع العربي يعني بالضرورة تحقيق الهوية والدفاع عنها؟

هذه هي بعض المرتكزات المستعجلة والمستخلصة من تاريخنا وواقعنا، فما رواه ابن خلدون عن إرهاب الحاكم، وما يسميه بعض علماء الغرب استبداد الإنسان الشرقي، وما خلفه الاستعمار الأوروبي فينا من ندوب وكلوم- كلها تستلزم بناء هوية عربية مغاربية ذات بعد إنساني وديمقراطي وفضاء حر للدخول في عصر التنوير.

مقالات ذات صلة