-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مدرسة الشام

سلطان بركاني
  • 1155
  • 0
مدرسة الشام

العافية نعمة من أجلّ نعم الله على عباده.. وقد كان قدوتنا المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- يدعو الله في كلّ يوم قائلا: “اللهمّ إنّي أسألك العافية في الدّنيا والآخرة، اللهمّ إنّي أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهمّ استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهمّ احفظني من بين يديَّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي”، ومع ذلك فقد ابتلي -صلوات الله وسلامه عليه- بلاءً عظيما.. وهكذا كلّ عبد مؤمن في هذه الدّنيا؛ إذا أراد الله به خيرا أخذ من دنياه ليدّخر له في أخراه.. ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.
ها نحن نرى كيف يبتلى إخواننا في أرض الشام، وتتوالى عليهم المحن بعد المحن.. ونحسب أنّ ذلك لأنّهم يهيؤون لأمر عظيم وأنّ الله قد أراد بهم خيرا للأمّة كلّها.. أهل الشام سيكونون هم قدوة الأمّة في آخر الزّمان، وسيكونون بإذن الله من يوقظ الأمّة من سباتها ويذكّرها برسالتها.. ووالله إنّ الدّروس التي يسْطرونها للأمّة في محنتهم لهي دروس تستحقّ أن تكتب بأحرف من ذهب بعد أن كتبوها بدمائهم وأشلائهم ونطقت بها ألسنتهم.
وقفنا في مقال سابق مع بعض الدروس التي سطرها إخواننا في أرض الشام وتركيا، ونعود في هذا المقال لنقف مع دروس أخرى كتبها لنا نحن الممتّعين بالعافية والأمن والأمان، شيوخُ سوريا وعجائزها وأطفالها، لنتعلّم منها، ونتذكّر أنّنا نعيش في دنيا فانية زائلة لا تستحقّ أن نملأ بها قلوبنا ونتنافس فيها ويعادي بعضنا بعضا لأجلها ولأجل متاعها الفاني.
20 يوما مرّت على الزلزال الأوّل الذي تبعته مئات الهزات الارتدادية وتبعها زلزال آخر يوم الإثنين الماضي بلغت شدّته 6.5 على سلم ريشتر.. وتناقلت الكاميرات مقاطع وصورا تحمل من الدّروس ما يكفي لزلزلة القلوب القاسية وخلخلة الأنفس الغافلة.. منها مقطع يصوّر طفلة سورية صغيرة لا تبلغ السابعة من عمرها، انتشلت من تحت الأنقاض، والكدمات والجروح في كلّ مكان من جسمها.. نقلت إلى المستشفى وعلقت الأجهزة في كلّ جزء من جسدها النّحيل، بالكاد تكلّمت، فماذا قالت؟ هل تحدّثت عن جراحها وآلامها؟ هل سألت عن والديها وإخوتها؟ لا هذا ولا ذاك، إنّما قالت: “يا ربّ أريد أن أصلّي.. البارحة واليوم لم أصلّ، اليوم صلّيت العصر فقط يا ربّ.. عندما كنت تحت الأنقاض، كنت أصلّي على النبيّ وأدعو الله، وما فقدت الأمل…”.. هكذا هم أطفال سوريا في أرض البلاء، يبكون ويحزنون على الصّلاة وهم في ذلك البلاء العظيم، وتتحرّك ألسنتهم الصغيرة بحمد الله والثّناء عليه رغم كلّ الجراح والآلام.. أطفال سوريا يخرجون من تحت الأنقاض وهم يحمدون الله ويبكون على الصّلاة، فبأيّ شيء تنطق ألسنة أبنائنا نحن في الملاعب والشوارع وحتى في المدارس؟ ألسنة كثير من أبنائنا تتحرّك بالكلام الفاحش وسبّ الخالق -جلّ في علاه- صباح مساء، وتتسخّط على الله لأجل خسارة في لعبة أو فوات حظّ تافه من الدّنيا.. طفل سوريّ صغير يقرأ أوائل سورة النبأ وهو لا يزال تحت الركام والهدم، وطفلة صغيرة انتشلت من تحت الهدم، وبها من الجراح ما الله به عليم، حين قدّموا لها الميكروفون لم تجد إلا أنّها قرأت آيات من القرآن الكريم… هكذا يتعلّق أطفال سوريا بالقرآن، في الوقت الذي يتعلّق فيه أطفالنا بالألحان؛ أبناؤنا يحفظون الأغاني التي تتلطّخ بها أسماعهم صباح مساء، ويردّدونها، ويتحدّثون -وهم في سنّ الطفولة- عن الحبّ والعشق والغرام، ويسمعون بـ”عيد الحبّ” ولا يسمعون بذكرى الإسراء والمعراج!
من المواقف المؤثّرة التي سطرها أهل البلاء في سوريا أنّ رجلا خرج بعد 3 أيام من تحت الأنقاض محتضنا ابنته، وهو يحمد الله ويقول: “يا ربّ لك الحمد يا ربّ”، وكأنّه يوجّه رسالة إلينا نحن الذين نعيش في عافية وأمن وأمان، يبعث برسالة إلى كلّ من يعاتب ربّه على قضائه وقدره، بسبب مرض ألمّ بالعبد أو بأحد أولاده، أو خسارة ابتلي بها في تجارته، أو بسبب مبلغ من المال ضاع منه.. تجد عبدا مسلما يخرج سالما من حادث مرور، وبدل أن يحمد الله ويسجد له شكرا على أن أمدّ في عمره ليتوب ويصلح، إذ به يتسخّط على الله، ويقول: “علاش يا ربّي علاش”!
امرأة تركية مؤمنة مكثت تحت الأنقاض 9 أيام بعد الزّلزال، لم تذق خلالها طعاما ولا شرابا، انتشلت من تحت الرّدم عليها خمارها، فرفعت أصبعها السبابة وهي تقول: “أشهد أن لا إله إلا الله”.. وكأنّها تقول لخالقها: “سأظلّ أشهد بوحدانيتك يا ربّ مهما ابتليتني به من مصائب، سوف أظلّ أحبّك يا ربّ مهما أخذت من دنياي”.. كأنّها توجّه رسالةَ شماتة إلى العلمانيين الذين فرضوا العلمانية على تركيا عقودا من الزّمان، وكانوا يظنّون أنّهم قضوا على الإسلام في مهد الخلافة العثمانية، وأنّى لهم ذلك.. وكأنّها توجّه رسالة إلى كلّ مسلمة تعيش في أرض العافية والأمن والأمان تقول فيها: “دينك دينك، وحجابك حجابك، لا تتخلّي عنهما مهما مكر الماكرون واستهزأ المستهزئون.. أنا أتمسّك بديني وحجابي رغم البلاء، فهل يليق بك يا أختي المسلمة أن تبيعي دينك وتتخلّي عن حجابك لأجل عرض من الدّنيا قليل، لأجل منصب فان، أو لأجل كلمات إطراء ممّن يتّبعون الشّهوات ويريدون لك أن تميلي ميلا عظيما؟!”.
الرسائل التي بعث بها إخواننا في سوريا وتركيا، ينبغي أن تحفر في أذهاننا وتنقش في قلوبنا، ولا ينبغي أبدا أن ننساها.. إخواننا علّمونا أنّ هذه الدّنيا دار فانية لا تستحقّ أن تتعلّق بها قلوبنا، دار زائلة لا تصفو أبدا، عمرها قصير ومتاعها حقير.. شابّ تركيّ انتشل من تحت الأنقاض بعد أيام مكثها تحت الرّدم، يقول: “وأنا تحت الأنقاض لأيام، تخيلتُ أني في القبر ويسألني الملك: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ كنت قبل الزلزال أصلي يوم الجمعة فقط، ولكني تحت الأنقاض أدركتُ أني لستُ جاهزا للموت، وها أنا أعلن توبتي، وسأصلي الصلوات الخمس من الآن”.
نعم أخي المؤمن.. يا من تتهاون بصلاتك، ولا تصلّي في المسجد إلا يوم الجمعة، ولا تصلّي صلاة الفجر في وقتها إلا في رمضان؛ أنت الآن في أمن وأمان وعفو وعافية، فماذا لو ابتليت بما ابتلي به إخوانك، أسأل الله أن يسلّمك، وصرت تحت الأنقاض تئنّ، وقد يئست من كلّ سبب إلا من رحمة الله، فبماذا ستدعو ربّك؟ أيّ عمل صالح ادّخرت للبلاء؟ تبيت تعصي الله، وتقضي الساعات الطويلة ساهرا على الصور والمقاطع المحرّمة، وعلى الماسينجر تعبث مع العابثات؛ فهل نسيت أنّ الأرض التي تحتك والجدران التي حولك ستشهد عليك يوم القيامة؟ هل تخيّلت أنّ تلك الجدران يمكن أن تصيرا قبرا لك؛ فبينما أنت في غفلتك ومعصيتك، فجأة تهتزّ الأرض من تحتك، وتتأرجح الجدران من حولك، فتنتفض مذعورا، وما هي إلا ثوان معدودات حتى تجد نفسك تحت الأنقاض تئنّ وتنادي ولا أحد يسمعك إلا ربّك الذي كنت قبل قليل تبارزه بالمعاصي؟!
إنّ أعظم مشكلة نعانيها هي اغترارنا بحِلم الله -عز وجل- وطولُ أملنا؛ يؤخّر الواحد منّا حقّ الله ويعصيه جلّ في علاه، ويؤخّر التوبة، وهو يظنّ أنه ما زال في الوقت متسع للتوبة، ولا يدرك أن الموت يأتي بغتة من دون مقدمات، قال الله تعالى: ﴿ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون﴾.. إنّ أخطر ما وصلت إليه قلوبنا وأحوالنا أنّ الله يخوّفنا بآياته وقوارعه لنتوب، لكنّنا ما نزداد إلا غفلة وإعراضا، بل ما يزداد بعضنا إلا ظلما وطغيانا في الأرض: ((ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا)).
هذه الزلازل التي رأينا آثارها في سوريا وتركيا، ليست زلازل تحرّك الأرض فقط، إنّما هي زلازل للقلوب.. والسعيد من تزلزل قلبه واهتزّت نفسه.. من ماتوا في هذه الزلازل ليسوا معنيين بهذه الموعظة، فقد التحقوا بالرفيق الأعلى ولعلّ الله يحشرهم في زمرة الشّهداء، إنّما نحن المعنيون بهذه الزلازل.
العبد المؤمن يسعى لكسب رزقه وأخذ حظّه من الدّنيا في الحلال، ويعامل النّاس من حوله أخذا وعطاءً، لكنّ قلبه هناك في الآخرة، يعدّ ويستعدّ لها، كأنّه سيموت من يومه.. يحافظ على صلاته، وعلى تلاوة كلام ربّه، ويحسن إلى النّاس من حوله، وإذا أذنب تاب من قريب ولم يؤخّر التوبة، وإذا أخطأ في حقّ أحد ممّن هم حوله، سارع إلى إصلاح خطئه وإلى طلب العفو والصّفح.. إذا خاصمه أحدهم في متاع من الدّنيا تركه له ورحل طالبا العوض من الله في الدّنيا والآخرة. نصب عينيه قول الله تعالى: ((وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ))، وقوله سبحانه: ((قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤولًا)).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!