-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مسجدان في طي النسيان بقسنطينة

محمد بوالروايح
  • 1278
  • 0
مسجدان في طي النسيان بقسنطينة
ح.م

المسجد بيت الله وهو في اللغة التدوالية الخطابية رمز من رموز الإسلام، لأنه يحتل المكانة الأكبر في المجتمع الإسلامي، فالمسجد علاوة على كونه بيتا للعبادة فهو مقر للقيادة، وهو بتعبير آخر مؤسسة دينية واجتماعية، ونظرا لهذه الأهمية فإنه يجب أن يتوجه اهتمام عموم الأمة حاكمين ومحكومين إلى المساجد من أجل رعايتها وضمان أدائها لوظيفتها الدينية والاجتماعية، هذا ما يجب أن يكون لكن ما هو كائن واقع آخر مختلف تماما يتجاوز التقصير إلى لامبالاة غير قابلة للتبرير، ولا تبقي هامشا لتدارك الوضع إلا بمراجعة الذات وتصحيح المواقف باجتماع إرادة الأمة من منطلق الإيمان الجمعي بأن الاهتمام بالمسجد يعود أثره على عموم المجتمع.
كتبت عن مساجد قسنطينة من مدة، وأجد نفسي مضطرا مرة أخرى للحديث عن مسجدين كبيرين هما المسجد الأخضر ومسجد الكتاني، فقد بقي هذان المسجدان في طي النسيان، وبقي صوت الآذان بهما مؤجلا إلى حين، وبقيا محرابهما يشكو غياب الراكعين والساجدين، أغلق المسجدان في غمرة تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية أو قبل هذا التاريخ بقليل وبقيت نفوس القسنطينيين وكل المؤمنين مشرئبة إلى اليوم الذي يعاد فيه فتحهما فيكون ذلك عيدا لهم ولأولهم وآخرهم، ولكن مرت الشهور وأبواب المسجدين موصدة لا يسمع في أرجائهما إلا تغريد الطيور وهديل الحمام، ورجع الصدى الذي يحدثه كلام المارة الذين يغدون ويروحون، ورغم الألم الذي يعتصر قلوبنا فإننا نؤمن بأن بذرة الخير التي أودعها الله في قلوب المؤمنين وحب الإسلام الذي يغمر قلوب الجزائريين حاكمين ومحكومين سيعجل وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى بإعادة فتح المسجد الأخضر أو الجامع الأخضر كما يسمى عادة ومسجد الكتاني لتعود مظاهر الجو الإيماني ولطائف الرحمات الإلهية التي يجدها المصلون في رحابهما ومحرابهما.
أكتب عن المسجد الأخضر والأسى يعتصر قلبي حينما أمرُّ عليه في الصباح والمساء فأجد الأرضية وقد نسجت على مدخله، والقمامة قد انتشرت في محيطه والغبار قد علا جدرانه، وأكثر من هذا أنه قد غدا مكانا ينزوي فيه كل من همَّه شأنٌ من شؤون الدنيا أو أمر من أمور العشق الممنوع، وقد تعالت بين جنباته وزقاقه أصوات الثرثارين والمتخاصمين الذين لا يتورعون ولا يراعون حرمة المكان ولا حرمة الجيران.
إن قلوبنا تتألم للحال التي آل إليها مسجد عبد الحميد بن باديس الذي كان لزمن بعيد قبلة العلماء والمتعلمين من كل البلاد العربية والإسلامية، لقد كان هذا المسجد نقطة انطلاق انتفاضة قسنطينة أو ما سُمي “أحداث قسنطينة” عام 1934 التي كانت انتصارا للقيم والمقدسات الإسلامية بعد أن سوّلت لليهودي “إلياهو” نفسه بأن يتبول على جدران المسجد متحديا بذلك قداسة المكان والضمير الإسلامي، لم تكن هذه الأحداث “فعلا عنصريا” ولا “ردة فعل ظالمة” كما يدَّعي بنيامين ستورا في كتابه “المنافي الثلاثة” والذي رددتُ عليه في كتابي: “يهود الجزائر في الكتابات اليهودية المعاصرة”، بل كانت قِصاصا من فعل عنصري وغير أخلاقي مجرَّم قانونا وشرعا، ينبغي أن نستحضر الزخم التاريخي للمسجد الأخضر ليكون حافزا لنا للعمل من أجل إبقاء المسجد منارة من منارات العلم ومعْلما حضاريا من معالم الجزائر التي خاضت حربا ضروسا ضد محاولات طمس الهوية الإسلامية والوطنية.
إذا صحّ ما نشرته جريدة “النصر” بمناسبة الذكرى الثالثة والثمانين لحوادث قسنطينة التي اندلعت في 5 أوت 1934 بعد قيام المواطن اليهودي “إلياهو” بالتبوّل على جدران المسجد الأخضر في استفزاز واضح لمشاعر المسلمين، من أن هناك من يكرر نفس الفعلة من بني ديننا وجلدتنا فإن الأمر يكون منتهى الفسوق والجنون، ولا بد أن يواجه بإجراءات ردعية، جاء في جريدة النصر: “.. الزائر اليوم للمسجد المغلق منذ سنوات في إطار برنامج إعادة ترميم مساجد المدينة، سيكتشف الحالة المزرية التي آل إليها بعد أن تحوَّلت واجهة المسجد إلى مكان لرمي القمامة والقاذورات، ما جعل المكان يعج بالأوساخ، والأخطر من ذلك انتشار الجرذان والكلاب الضالة خصوصا في الليل، رغم أن سكان الحي ينظفونه باستمرار إلا أن البعض يصرُّ على رمي القمامة أمامه، بل أكثر من هذا هناك من كرر نفس فعلة اليهودي “ايلياهو” قبل ثلاث وثمانين سنة، والتي كانت سببا في اشتعال شرارة الغضب ضد يهود المدينة. وقد عبَّر بعض سكان الحي ممن التقت بهم “النصر” عن امتعاضهم من الوضعية المزرية للمسجد التاريخي الذي تعاقب عليه ثمانية مشايخ من كبار العلماء”.
أثمن موقف سكان سيدي لخضر وغضبَهم وامتعاضهم من الوضعية المزرية التي آل إليها المسجد الأخضر، ولكن أعتقد أن الموقف لا ينبغي أن يقف عند مجرد الامتعاض، بل يجب أن يتحوَّل إلى حس ديني ووطني يحتِّم عليهم وعلى غيرهم التبليغ عن كل حالات الإساءة إلى هذا المعلم الإسلامي، والإساءة بصفة عامة إلى كل المعالم الإسلامية والوطنية، فهذا في رأيي هو الأسلوب الأنجع لمواجهة بعض الرعونات والسلوكات الجاهلية التي يقوم بها بعض المنحرفين.
أنا من الذين يمقتون العمل المناسباتي، ولكن أقول على سبيل الاستثناء إننا نأمل أن يعاد فتح المسجد الأخضر قبل حلول ذكرى يوم العلم، ويكون هذا تكفيرا عن إرادة النسيان التي طالت هذا المسجد، وتحقق ذلك ليس بعزيز في ظل وجود عاطفة إسلامية ووطنية لدى كل الجزائريين تضعف ولكنها لا تموت.
ويجب أن لا أنسى هنا مسجد الكتاني الذي يبقى هو الآخر في طي النسيان، وقد سكت فيه صوتُ الآذان وعلت في محيطه أصوات الباعة الذين سدَّت طاولاتهم طرقه ومداخله، فبدا كأنه أسيرٌ بينها، وبين أمواج المتسوقين الذين يقصدون المكان صباحا ومساء. في منتصف الثمانينيات كنت أستاذا بمتوسطة الكتاني وكنت أقصد مسجد الكتاني لأداء الصلوات المكتوبة فأدخل المسجد فيغمرني إحساسٌ جميل أتحسسه في كل زاوية من زوايا المسجد، وكنت أحيانا أرسل نظري وأسترسل في رؤية الزخرفة العثمانية الإسلامية، فأرسم في ذهني من حيث لا أشعر صورة فسيفسائية تُرجعني إلى الزمن العثماني.
الخلاصة:

أكتب عن المسجد الأخضر والأسى يعتصر قلبي حينما أمرُّ عليه في الصباح والمساء فأجد الأرضة وقد نسجت على مدخله، والقمامة قد انتشرت في محيطه والغبار قد علا جدرانه، وأكثر من هذا أنه قد غدا مكانا ينزوي فيه كل من همَّه شأنٌ من شؤون الدنيا أو أمر من أمور العشق الممنوع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!