-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مصالي الحاج ماله وما عليه!

خير الدين هني
  • 2463
  • 0
مصالي الحاج ماله وما عليه!

ليس من اليسير أن يكتب كاتبٌ عن سير الزعماء وتاريخ  الكبار الذين صنعوا التاريخ وغيّروا مجرى دروبه، بنضالهم الدؤوب ضد قوى الشر والبغي من المستعمِرين الغاصبين الظالمين، كما أنه ليس من اليسير الكتابة عن الصراع بين الزعماء الثوريين ممن كان لهم فضلٌ كبير على استقلال البلاد وتخليصها من الاستعمار البغيض، والثورات كما هي طبيعتها في كل زمان ومكان يكتنفها الصراع على المناصب والزعامة والمكاسب السياسية، ولاسيما حينما تكون الثورات مبنية على السرية والقدسية وحب الزعامة والفردانية في التسيير والتفكير السياسي والنضالي، والتمركز حول الذات الملهِمة التي لا تقبل الاستماع إلا لصوتها، لكون الشخصية المركزية تمثل حالة نفسية مضطربة، وهي في الطب النفسي تعتبر شخصية مريضة بداء العظمة.

لذلك نجد الذات المركزية تنزع نحو إشباع غرائزها بكل ما يلذ ويطب، وإن كان خارج القانون والأخلاق والأعراف، وهذا ما يقع بين الزعماء التاريخيين والسياسيين في كل زمان ومكان، وزعماؤُنا ليسوا بدعا من الزعماء في كل ثورات الدنيا، وقد وقع بينهم صراعٌ مرير، وبخاصة بعد مؤتمر الصومام، كما وقع من قبل بين قيادة الجبهة ومصالي الحاج غداة إعلان الجبهة الكفاح المسلح على الاستعمار، أي: بين المركزيين والمصاليين بعد قرار المؤتمر (1953)، الذي نصَّ في لوائحه على تحديد صلاحيات رئيس الحركة، وإدخال نوع من الديمقراطية داخل قيادة الحركة، واعتماد قرار الأغلبية، وكان مصالي يلح على منحه السلطات المطلقة لتسيير الحركة، فنشب الخلاف والانقسام.

ومما لاريب فيه أن لا أحد من الجزائريين يشك في الزعامة الروحية والسياسية والتاريخية، للزعيم التاريخي مصالي الحاج، فهو أول من أسس حزبا سياسيا عام 1926 (حزب شمال إفريقيا) ثم تحول إلى حزب الشعب ثم إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية، كان مصالي الحاج هو أول سياسي جزائري يطالب بالاستقلال التام عن فرنسا، في الوقت الذي كان فيه بعض السياسيين الجزائريين يطالبون بالاندماج وحسب، وفرنسا الاستعمارية كانت تتأفف من أن تدمج الجزائريين “الأنديجان” في وسطها الاجتماعي والسياسي والثقافي والقومي، فمصالي الحاج –بحق- هو عراب الفكر الثوري للنضال الجزائري، والأب الروحي للشخصيات السياسية والتاريخية التي فجرت الثورة الكبرى.

ولكن التاريخ ما أكثر أن يتحين الفرص المواتية! فيقف عند أبواب العظماء من الأبطال السياسيين والزعماء الثوريين حينما يتحسس فيهم الموهبة والمقدرة، ويستنهضهم من رتابة الحياة وقتامتها ليشدوا على رباطة جأشهم، ويمضوا عزائمهم ويشدوا على سواعدهم ويعدوا العدة الكاملة للنهوض بأممهم الجريحة من سباتهم وغفلتهم مما أصابهم من ظلم وضيم وقهر وجبروت ومنكر، وينفضون على أنفسهم غبار النسيان والجمود والركود، هذا هو دأب التاريخ منذ أن ظهر على مسرح الحياة، ولكن التاريخ لا يرحم من  يتعالى ويستكبر ويخال نفسه كيانا فوق التاريخ والبشر وحركة التطور، فإذا رأى الصراع على المصلحة العامة يسكت ويكتم غيظه، لأن المصلحة العامة فوق الجميع والاختلاف على سبل الوصول إليها أمرٌ تقتضيه الطبيعة الأزلية  للبشر، ولا غضاضة في ذلك ولا ضير، طالما أن المصلحة العامة سائرة في طريق الفوز والنجاح والظفر، أما إذا رأى الصراع ينحرف عن مجرى المصلحة العامة وينزع نحو إشباع غرائز الذات ونزواتها وأهوائها، فإنه (التاريخ)، ينتفض ويبدي غضبه وانزعاجه، ويعلن ثورته على من استعلى على المصلحة العامة التي اتفق عليها الجميع.

ومصالي الحاج حينما أعلنت الجبهة الثورة المقدسة، انتصر لذاته وأبى أن يستأثر جماعة من الشباب المتحمسين الذي تربوا في مدرسته السياسية التي بناها بسواعده قبل أن يولد هؤلاء الشباب الثائر، ولم يقبل أن يجتمع هؤلاء الفتية في غيابه ويقرروا أمرا عظيما في غيابه ومن غير مشورته وأمره، ومن هذه النقطة أخذ الزعيم الروحي يجنح بنفسه نحو طريق الخطأ، وهو الطريق الذي أبته المجموعة السياسية بزعامة جبهة التحرير الوطني التاريخية، ولم تجعله ضمن اختياراتها الثورية والنضالية.

كانت جبهة التحرير الوطني بزعامة قيادتها الجماعية، قد سئمت حكم الفرد المهيمن على كل شيء، لا يُقطع أمرٌ دون مشورته وموافقته وهيمنته، وكان من حسن طالع الجبهة -يومئذ- أن تبوأ قيادتها جماعة من الشبان الذين نمت مداركهم وارتفعت درجات وعيهم، وقد أنضجتهم الخبرة العملية و التجربة المريرة في العمل السياسي والنضالي، وقد وهَلَ إلى يقينهم أن العمل الثوري هو اللغة الوحيدة التي تحقق لهم الاستقلال الذي طالما نادى به زعيمُهم الروحي مصالي الحاج، كما اقتنعوا بأن الاستعمار تلميذٌ غبي لا يفهم بالإشارة والرمز والاستعارة ولغة المجاز.

وإنما سبيله إلى الفهم هو لغة واحدة ووحيدة، وهو لذلك لا يصغي إلا  لصوت واحد، وهو صوت اللغة التي دخل بها إلى الجزائر وقهر بها شعبها وأذلّ كبرياءه، وما دون ذلك من وسائل التحرر السلمية التي كان ينادي بها زعيمهم التاريخي مصالي، كانت آذان الاستعمار صمّاء مسدودة لا تسمع شيئا مما كان ينادي به السياسيون السلميون والاندماجيون، وإن كان من طريق الذل والمهانة والاستسلام التي اقترحها بن جلول وجماعته من الاندماجيين أحباب فرنسا ولغتها وثقافتها وتاريخها وحضارتها.

المشكلة عندنا أن التاريخ يُكتب بالهوى، وليس بالمعايير التاريخية والمنهجية التي تقرها مبادئ الحق والعدل، فمن كان له ضرسٌ يفري يُبرّأ ويصبح من الصالحين المبجلين، وشكيب خليل الخائن للأمانة خير دليل حتى الزوايا عمّدته وباركت خيانته، والتمست له ولغيره من المقربين الأعذار والأسباب، ومن لم يكن له ضرس يطحن ابتلعه التاريخ ورماه في مكباته من غير رحمة ولا شفقة ولا رحمة ولا عذر!

وقد أثارت شخصية مصالي الحاج وعلاقته بالجبهة والثورة، جدلا محتدما في كتابة التاريخ السياسي والثوري في الجزائر، بسبب نزعته الفردانية في تسيير الحزب والمناضلين ورأيه الانفرادي السلبي عن الثورة وجماعة  22 التاريخية التي أعلنت العمل الثوري المسلح، ولذلك اعتبره الكثير من المؤرخين وزعماء الثورة التحريرية وعموم الشعب الجزائري، “سائرا في طريق الخيانة”، بعد أن ابتعد عن الخط الثوري الذي تبناه غداة تأسيسه حزب الشعب، وقد وقع المؤرخون في حرج حيال الموقف التاريخي الذي يمكن أن يقفوه، حول هذه الشخصية المثيرة للجدل، وهل هو وطني ثوري قاوم الاستعمار بوسائله السياسية والنضالية؟ أم هو خائنٌ للثورة وجبهة التحرير الوطني والشعب الجزائري حينما أعلن حربه على جيش التحرير الوطني وقاتلهم بأنصاره في الجبال الجزائرية؟ وقد أطلق على مقاتليه كلمة “المصاليين”، ولم يفوِّت الاستعمار هذه الفرصة ليوقد نار الشقاق والفتنة بين الأشقاء الفرقاء،  ويعتقد ضباط جيش التحرير الوطني التاريخيون، أن المصاليين هم من مددوا آجال الثورة إلى سبع سنوات، ولولاهم لانتصرت الثورة في أقل من ذلك وبتكلفة بشرية قليلة.

وتعدّ هذه النقطة نقطة سوداء في التاريخ النضالي للرجل، رغم ما قدّمه من جهد ونضال في سبيل تنوير الشعب الجزائري، والنخبة السياسية ممن ترعرعوا في صفوف حزبه، ومنهم زعماء الثورة التحريرية.

كان مصالي الحاج يعظّم ذاته إلى درجة التقديس، ويرى بأنه زعيمٌ تاريخي له فضل كبير على الحركة الوطنية في الجزائر، (وفي هذا شيء كثير من الحق)، وهو من أذكى الروح النضالية في الشبيبة الجزائرية، ولذلك له الحق في اختيار الظروف الملائمة والتاريخ المناسب والوسائل المناسبة للنضال الثوري، ولكن الذين عاشروه وخبِروه وعرفوا طريقته في التفكير، يقولون: إنه كان مصابا بشعور العظمة، وهو الذي جعله يأبى خروج جماعة ممن تربوا في مدرسته، عن طاعته وأوامره ويقرروا ما شاءوا من أمور السياسة والثورة.

ومما يُؤخذ على مصالي الحاج أنه أسس حزب الحركة الوطنية الجزائرية، في السنة التي اندلعت فيها ثورة التحرير، فكانت جناحا موازيا لجبهة التحرير، فوقع بينهما انشقاق ثم صراع مباشر إلى يوم الاستقلال، غير أن بعض المؤرخين لا يستسيغون تهمة الخيانة على رجل كان له دور كبير في أسس بناء الثورة التحريرية، وهو من كان ينادي بالاستقلال في خطابه السياسي على الدوام، على حين كان فرحات عباس ينادي بالاندماج، وما إن انضمّ إلى صفوف الثورة حتى قُلد منصب رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، ولكن الفرق بينهما أن فرحات عباس انضم إلى الثورة مكرها في أغلب الظن،  ومصالي حارب الثورة لثقته الزائدة في نفسه، ولهذا قبلت الثورة توبة فرحات عباس وقلدته مسئولية رفيعة، بينما استمر مصالي في مخاصمة الثورة حتى الاستقلال من غير إعلان توبته، والشرائع كلها سماوية وأرضية، تقبل توبة التائب إن ثاب إلى رشده مهما كانت أفعاله وجرائمه، ولا تقبل من يُصرّ على الذنب ويكابر ويعاند، وهذه القاعدة هي المعمول بها في كل الشرائع.

ولكن المشكلة عندنا أن التاريخ يُكتب بالهوى، وليس بالمعايير التاريخية والمنهجية التي تقرها مبادئ الحق والعدل، فمن كان له ضرسٌ يفري يُبرّأ ويصبح من الصالحين المبجلين، وشكيب خليل الخائن للأمانة خير دليل حتى الزوايا عمّدته وباركت خيانته، والتمست له ولغيره من المقربين الأعذار والأسباب، ومن لم يكن له ضرس يطحن ابتلعه التاريخ ورماه في مكباته من غير رحمة ولا شفقة ولا رحمة ولا عذر!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!