الرأي
الحلقة (1): تعاريف وملحوظات

مقدّمة حركة القرآن المجيد في النّفس والمجتمع والتّاريخ

أبو جرة سلطاني
  • 907
  • 2

1 ـ ما القـــرآن: ما معنى قرآن؟ كيف نقرؤه؟ كيف نفهمه؟ كيف نتعامل معه؟ وهل أبقى السّابقون للاّحقين ما يُستدرك على ما ضَرب الأسلافُ في طلبه أكباد الإبل؟ أم إنّ لكلّ جيل حظَّه من الفهم وعطاءَه من كلام لا يخلُق من كثرة الردّ ولا تنقضي عجائبه؟ آمنتْ بسماعه الجنّ وكفر بتلاوته أناسيّ كثيرٌ: ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)) (الجنّ: 1- 2).

فالقرآن كلام الله؛ والله متكلّم بما يشاء وحيًا بخفاء لمن يشاء ليكون للعالمين نذيرا. والتّعامل مع كلام الله لا يتأتّى إلاّ لمن أحاط بأدواته وعاش في أفيائه حتّى أخذ بمجامع قلبه فصار رفيقه في حلّه وترحاله ونومه ويقظته وفرحه وحزنه ورضاه وسخطه وفقره وغناه وقوّته وضعفه.. بلجوء واثق إلى الله وبيقين قاطع أنّ ما يتلوه وما يتفكّر فيه هو كلام الله العليّ القدير. فيسأل من أنزله الاهتداء إليه به والعون منه والتّوفيق لفهم “شيء” من حركة كلامه الحيّ في النّفس والمجتمع والتّاريخ، فهْمًا يقرّبه مما أراده المتكلّم -جل جلاله- هداية للنّاس ورحمة وشفاءً لما في الصّدور، مدركًا أنّه ألقي على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قولاً ثقيلا، فكان المصطفى “محطّة استقبال” توارد إليها نُور الحقّ نجوما زواهر، ثمّ هو “محطّة إرسال” تبثّ من أنوار السّماء على أهل الأرض بلاغا يتلوه عليهم ويقرؤه قراءة بعد قراءة، حتّى صار هذا القرآن الكتاب الوحيد في الكون الذي يقرؤه النّاس ملايين المرّات دون سأم ولا كلل ولا ملل، ويقرؤه المسلمون ويتلونه ويعيدون قراءته كأنفاس الشّهيق والزّفير موقنين أنّ بكلّ حرف ينطقونه حسنة، وبكلّ آية يتلونها حسنة، وتفكّره وتدبّره عبادة. فكيف بتفسيره والعيش في خمائله عشر سنوات دأبا؟

أنزل الله هذا القرآن عهدا منه متجدّدا للنّاس وسدادا للرّأي وعصمة من الزّيغ وشريعة للمجتمع وموعظة للمتّقين وهداية للّتي هي أقوم.. فهو آخر كلامه لذريّة آدم -عليه السّلام- الذي وعدهم إيتاءه هُدًى ورحمة وشفاءً ونورا.. فمن أخذ به اهتدى في دنياه وفاز في أخراه، ومن تركه ضلّ في الأولى وخاب في الأخرى. فهو ميسّر للذّكر: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) (القمر: 17).

وعند الخلاف أو النّزاع يُردّ الأمر إلى الذين يستنبطون الحكم من النصّ متحرّكا مع أقضيّة النّاس وظروفهم وملابساتهم بما يتمّ به الواجب ويتحقّق به القصد. فالتّعامل مع القرآن المجيد عبادة لا تضاهيها عبادة أخرى إلاّ اليقين بأنّ العابد في معيّة المعبود يطرق باب تيسيره للدّخول على فهم كلامه بكلامه والأمل في توفيقه إلى أشواق تنزيله وإلى أدب السّياحة في بساتين سوّره وفي رياحين آياته وعبق ألفاظه ودفء كلماته وحلاوة معانيه.. طمعا في إضافة جهد مقلّ لرصيد جيل جديد صار الاقتصار على تلخيص الملخّص وسيلة لطرْق أبواب عقله. والتّدقيق في الألفاظ طريقة لإغرائه بالاطلاع على ما في هذا الكتاب من كنوز لا نفاد لها، وأسرار لم ييسّر الله فتح مغاليقها للسّابقين إلاّ بما يسّر لزمانهم، فلا تتخلّف هبات لله عن كلّ جيل يجتهد لزمانه بتراكم التّأويل المنضبط والتّفسير المتأدّب لكلامه -جل جلاله- مدركا أنّ فيه كلّ شيْء ولكنْ ليس كمثله شيء بشهادة من كان في اللّغة نابغة وفي بديع معانيها محيطا إحاطة سابغة.

2 ـ ملحوظات أولية: أوّل ما يلاحظه كلّ متدبّر للقرآن المجيد صفتان لا وجود لهما إلاّ في كلام الله العليّ القدير:

الأولى: الإدهاش أو “الإعجاز النّفسي” دون احتساب الإعجاز اللّغوي والبلاغي والعلمي، والتّمنّع عن المشاكلة والتّأبّي على الإتيان بمثله: ((وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) (البقرة: 23).

روى الحاكم في المستدرك عن عكرمة عن ابن عبّاس -رضي الله عنه- أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فقرأ عليه القرآن فكأنّه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ إنّ قومك يرون أنْ يجمعوا لك مالاً ليُعطوكَه، فإنّك أتيت محمّدا لتتعرض لما قبله. قال: لقد علمتْ قريش أنّي من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنّك منكر له، وأنّك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوَ الله ما فيكم رجل أعلم بالشّعر لا برجزه ولا بقصيده منّي، ولا بأشعار الجنّ منّي، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا. ووالله إنّ لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطّم ما تحته..  قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه، قال: فدعني حتّى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، أي يؤثره عن غيره، فنزلت: ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25))) (المدّثر: 11- 25). غلبه قومه على ما في نفسه فقال على الله شططا.

والثّانيّة: قدرة القرآن المجيد على أخذ من يتدبّره إلى أعمق أغوار النّفس، فيكتشف فيها ما لم يكن يعرفه ويبصر ما كان عنه عمٍ.

القرآن ليس كتاب طبّ، ولكنْ فيه إشارات لهذا العلم. وليس كتاب هندسة ولا جغرافيا ولا فلك ولا علم حشرات وأوبئة، ولكنّه تضمّن شيئا من كلّ هذه العلوم ليكون ميسّرا لكلّ باحث عن ضالّة. فهو كتاب هداية يرشد العقل إلى حسْن التّدبّر في ملكوت السّماوات والأرض وما فيهما. وعلماء الإسلام الأوائل إنما انطلقوا في أبحاثهم العلميّة الأولى لخدمة كلام الله بنيّة فهم كتابه وتيسيره للأمم التي اعتنقت الإسلام خلال القرون الثّلاثة الأولى.

فبدأ علم النّحو لتّقويم اللّسان الأعجمي من اللّحن في كلام الله فنشأت علوم اللّغة وتفرّع عنها علم البلاغة (البديع، والبيان، والمعاني)، فعلم القراءات والتّفسير، ومعها حركة تدوين السنّة النّبويّة الشّريفة وتقعيد الفقه وتوطئة الدّين للمؤمنين. فقاد البحث الفقهي -في باب الطّهارة- إلى بحث أنواع الدّماء في الحيض والنّفاس، فاكتشف ابن النّفيس الدّورةَ الدّمويّة الصّغرى. كما قاد البحث عن أهدى المسالك لبلوغ بيت الله الحرام لأداء فريضة الحجّ إلى وضع أوّليّات علم الخرائط على يديْ الإدريسي. وقاد البحث في مسألة التّركات والمواريث الخوارزمي إلى اكتشاف علم الجبر. وقاد رصد هلال الصّوم والفطر واللّيالي العشر إلى وضع بدايات علم الفلك على أنقاض ما كان يقول بطليموس.

وهكذا برزت قامات سامقة في شتّى أنواع العلوم والمعارف، كالسّكاكي والقزويني والزّمخشري وابن النّفيس وابن سينا والخوارزمي وبختيشوع والغزالي والفارابي.. ولا أتحدث عن علماء السنّة من أصحاب الصّحاح والسّنن والمسانيد. كلّ هؤلاء كانت نيّاتهم ومقاصدهم ومنطلقاتهم الأولى خدمة كتاب الله تعالى وتيسير فهم معانيه استجابة لدعوة الإسلام إلى التّفكّر في ملكوت السّماوات والأرض.

مع أنّ القـرآن المجيد نزل في بيئة أميّة إلاّ أنه عرض، في ثنايا سوره، إشارات مهمّة في مختلف العلوم والمعارف، فلما استقرّت حقيقة الإيمان في جذور قلوب الرّجال انبرى علماء الإسلام يُوطّئون الدّين للبشريّة، فقادتهم حركة البحث العلمي إلى اكتشاف مسائل كثيرة ذات صلة بالعبادة ساهمت في نهضة البشريّة ويسّرت على النّاس شؤون حياتهم. فهذه العلوم بدأت بنيّة خدمة كتاب الله تعالى وحسْن تدبّره وفهمه، لكنّها شجّعت الباحثين على الاستمرار في تقصّي أطرافها من منطلق أنها أصلٌ في خلافة الأرض وإقامة العمران والقيام بالواجب الشّرعي في إعداد المستطاع من القوّة ومن رباط الخيل. والواجب الشّرعي لا يتمّ إلاّ بالواجب العلمي والبحثي على قاعدة أنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب. ففقه المسلمون الأوائل أنّ فروض الكفايات تظلّ فروض أعيان حتّى تبلغ الأمّةُ كفايتها منها فتسقط عن بعض، وإلاّ كانت الأمّة كلّها آثمة حتّى تكتفي.

يتبع بإذن الله…

مقالات ذات صلة