-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مكانة التاريخ في الخطاب السياسي الجزائري (3)

الشروق أونلاين
  • 1600
  • 0
مكانة التاريخ في الخطاب السياسي الجزائري (3)

د‮/ ‬محمد‮ ‬العربي‮ ‬الزبيري

‭ ‬إن عدم تحميل رؤساء الأحزاب مسئولية الإفلاس العام الذي يطبع واقع البلاد اليوم، لا يعني أنهم يؤدون دورهم كاملا كقادة لتشكيلات سياسية »وجدت لإحداث القطيعة مع الأحادية الحزبية، ولتحرير الشعب من كابوس العمل الفردي« كما قيل للناس مباشرة بعد الإعلان عن قانون الجمعيات‮ ‬ذات‮ ‬الطابع‮ ‬السياسي‮ ‬التي‮ ‬سرعان‮ ‬ما‮ ‬تحولت‮ ‬إلى‮ ‬أحزاب‮ ‬من‮ ‬دون‮ ‬أدنى‮ ‬تحضير،‮ ‬ومن‮ ‬دون‮ ‬استشارة‮ ‬الجماهير‮ ‬الشعبية‮ ‬الواسعة‮.ولأن الأحزاب لم تؤسس على قواعد واضحة، ولم تعتمد منظومات أفكار بينة، بل وقعت فبركتها على عجل لتغطية فشل المؤامرة الكبرى التي تعرضت لها البلاد في الخامس من شهر أكتوبر 1988، فإن الشعب لم يتفاعل معها، واعتبرها مجرد أجهزة لا تنشط إلا بأمر وفي مواسم معينة. إنها،‮ ‬في‮ ‬نظر‮ ‬الأغلبية‮ ‬الساحقة‮ ‬من‮ ‬الجزائريات‮ ‬والجزائريين،‮ ‬تعيش‮ ‬في‮ ‬عزلة‮ ‬ولا‮ ‬تتحرك‮ ‬إلا‮ ‬لخدمة‮ ‬مصالح‮ ‬بعض‮ ‬أعضائها‮. ‬وهذا‮ ‬ما‮ ‬يفسر‮ ‬عزوف‮ ‬المواطنين‮ ‬عن‮ ‬المشاركة‮ ‬في‮ ‬الانتخابات‮ ‬بجميع‮ ‬أنواعها‮. ‬
ومما لا شك فيه أن قيادات معظم الأحزاب مدركة لهذه الأوضاع المزرية، وتعلم أنها »موظفة« لدى المصالح الإدارية التي تحتفظ بالكلمة الأخيرة في وضع قوائم أعضاء الهيئات المسئولة وفي الترشيح للانتخابات المحلية والجهوية والوطنية، لكنها لا تنتفض خوفا من استبدالها بأخرى،‮ ‬وتباعا،‮ ‬من‮ ‬فقدان‮ ‬الامتيازات‮ ‬والسلطة‮ ‬الشكلية‮. ‬أبعد‮ ‬كل‮ ‬هذا،‮ ‬يأتي‮ ‬الدكتور‮ ‬ويحملها‮ ‬مسئولية‮ ‬نكبة‮ ‬التعريب‮ ‬في‮ ‬الجزائر‮. ‬
إن قيادات الأحزاب، وخاصة ما يسمى بالأحزاب الفاعلة في بلادنا، تدير الظهر للقضايا الأساسية التي تثقل كواهل الجماهير الشعبية ربما لأنها تجهلها بسبب عدم احتكاكها الدائم والصادق بالطبقات المحرومة من الشعب، أو لأنها مقتنعة بأن واجبها يكمن، فقط، في انتظار الأوامر التي تأتي مع رنات الهاتف أو عن طريق الوسطاء وما أكثرهم. فهذه الحقيقة هي التي تفسر تزايد انعدام الثقة بينها وبين المواطنين الطاهرين الطيبين الذين صاروا يكتفون بالازدراء من الحركات البهلوانية التي تعرض عليهم قصرا كلما حان وقت الاستحقاقات بجميع أنواعها.
3 ـ قال الدكتور عميمور: إن الرئيس الراحل هواري بومدين كان يسعى لجعل الجزائر تقوم بدور لبنان الخاص بتقديم الثقافة العربية إلى فرنسا والثقافة الفرنسية إلى العرب. إن هذا الزعم لم نسمع به من قبل وهو ينقص من قيمة الرجل الثوري الذي يسعى ليكون في مستوى متطلبات الثورة الثقافية التي جاء في الميثاق الوطني الذي صادق عليه الشعب بأغلبية ساحقة: »إنها تهدف إلى التأكيد على الهوية الوطنية وتقويتها وإلى الرفع الدائم لمستوى التعليم المدرسي والكفاءة التقنية، وإلى اعتماد أسلوب في الحياة ينسجم مع مبادئ الثورة الاشتراكية«.
وهل يمكن لشعب همشه الاحتلال مدة مائة واثنتين وثلاثين سنة، مرت كلها تجهيل واجتثاث لمقومات الهوية الوطنية وإرساء لقواعد المسخ الثقافي وعمل، بلا هوادة، على تكوين إنسان إمّعي معمعي، فاقد للذاكرة أو بذاكرة مشوشة، أن يقوم بدور الوسيط بين الثقافتين العربية والفرنسية‮ ‬اللتين‮ ‬هو‮ ‬أبعد‮ ‬عنهما‮ ‬بعد‮ ‬السماء‮ ‬عن‮ ‬الأرض‮ ‬بفعل‮ ‬ظلم‮ ‬الإدارة‮ ‬الكولونيالية‮ ‬واستبدادها‮. ‬
فعودة الثقافة العربية إلى الجزائر تتطلب إتباع مسار شبيه بذلك الذي اتبعه منظرو الاحتلال لمحاربتها والقضاء عليها. ومن ثمة، فإذا كانت الإدارة الكولونيالية قد اختارت، منذ البداية، قتل المثقفين الجزائريين أو نفيهم أو مضايقتهم بجميع الوسائل، فإنه كان ينبغي على الجزائر، بعد وقف إطلاق النار مباشرة، أن تشرع في بعث التراث الوطني من خلال نشر إنتاج رجال الفكر والمعرفة الجزائريين سواء منهم الذين تعرضوا للنفي بكل أنواعه أو الذين ظلوا يقاومون السيطرة الأجنبية بجميع الوسائل.
لقد كانت تجارب أمثال محمد البدوي والدكتور محمد بن العربي الشرشالي والشيخ محمد بن رحال والأستاذين عمر راسم وعمر بن قدور والأئمة الشيوخ عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي والطيب العقبي ومحمد السعيد الزاهري والأستاذ مالك بن نبي والصحافي السياسي محمود بوزوزو والفيلسوف علي بن ساعي والشيوخ عبد العزيز الثعالبي وحسين الخضر والفضيل الورتلاني وغيرهم ممن يطول ذكرهم، كلها ثرية وضرورية لربط الأجيال الصاعدة بماضيها المجيد ولإرساء قواعد النهضة الثقافية الكفيلة بإعادة تكوين الإنسان الجزائري القادر على الاستجابة لمتطلبات‮ ‬ثورة‮ ‬نوفمبر‮ ‬العظيمة‮. ‬
صحيح أن الجزائر، في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، قد رفعت شعار الثورة الثقافية، وصحيح، كذلك، أنها ضمنت نصوصها الأساسية رغبة نظام الحكم في تمكين اللغة العربية من استعادة مكانتها الطبيعية، لكن الواقع كان عكس ذلك، لأن الثورة الثقافية ليست مجرد تذكير بضرورتها‮ ‬كما‮ ‬أن‮ ‬إعادة‮ ‬تأهيل‮ ‬اللغة‮ ‬الوطنية‮ ‬لا‮ ‬يكون‮ ‬بتعيين‮ ‬أعدائها‮ ‬على‮ ‬رأس‮ ‬مؤسسات‮ ‬التعليم‮ ‬وفي‮ ‬مناصب‮ ‬الحل‮ ‬والربط‮ ‬التي‮ ‬تتحكم‮ ‬في‮ ‬سير‮ ‬شؤون‮ ‬الدولة‮ ‬على‮ ‬جميع‮ ‬المستويات‮. ‬
وعلى الرغم من أن الرئيس هواري بومدين كان، دائما، يكرر أن اللغة العربية ليست لها ضرة وأن الدولة ستبذل كل ما في وسعها من جهد لإحلالها المكانة اللائقة بها، فإنه لم يصدر أدنى تعليمة أو أمرية أو مرسوم بهدف إنجاح التعريب في الجزائر، بل إنه كان يبدي موافقة مطلقة‮ ‬لإسناد‮ ‬المناصب‮ ‬الأساسية‮ ‬في‮ ‬سائر‮ ‬دواليب‮ ‬الدولة‮ ‬وكذلك‮ ‬مناصب‮ ‬الحل‮ ‬والربط‮ ‬إلى‮ ‬المتعلمين‮ ‬باللغة‮ ‬الفرنسية‮. ‬
ففي عهده كانت الدبلوماسية والداخلية والاقتصاد حكرا على المتفرنسين الذين كانوا، في معظمهم، مشدودين، بطريقة أو بأخرى، إلى ضفة البحر الأبيض المتوسط. وكان الأمر كذلك بالنسبة للحكومة إذا استثنينا وزير الشؤون الدينية. معنى ذلك أن الدولة بأكملها، ما عدا مؤسستي الحزب والجيش، كانت تسير مباشرة وبكيفية مطلقة في غياب المعربين الذين كانوا يعانون التهميش المقصود والاضطهاد الممقوت. ومن ثمة يمكن القول إن خطابات الرئيس لم تكن سوى حبر على ورق وقد ضرت التعريب أكثر مما نفعته.
وحتى عندما تقرر الشروع في تعريب المدرسة والثانوية، فإن العملية كانت مغشوشة، في أساسها، لأن الطواقم المسيرة كلها كانت متفرنسة، وكانت، أكثر من ذلك، لا تخاطب التلاميذ إلا باللغة الفرنسية وتجبرهم على استعمالها دون غيرها في ساعات الراحة خارج الأقسام وفي علاقاتهم مع الإدارة التي كانت كل وثائقها بالفرنسية. وكانت اللغة الفرنسية، أيضا، هي السائدة في جميع المصالح الإدارية بما في ذلك الحالة المدنية التي أدى استعمال الفرنسية فيها إلى تشويه الألقاب والأسماء وإلى فرض طريقة في التسمية ما أنزل الله بها من سلطان وهي غير مستعملة‮ ‬حتى‮ ‬في‮ ‬البلد‮ ‬المحتل‮ ‬سابقا‮. ‬وبالفعل،‮ ‬فإن‮ ‬الجزائر‮ ‬هي‮ ‬البلد‮ ‬الوحيد‮ ‬الذي‮ ‬تبدأ‮ ‬فيه‮ ‬الحالة‮ ‬المدنية‮ ‬باللقب‮. ‬
وفي مجال التعليم، مرة أخرى، تجدر الإشارة إلى القرار التعسفي الذي اتخذه رئيس مجلس الثورة بوحي من أعداء العروبة والتعريب والقاضي بإلغاء التعليم الأصلي الذي كان تحت إشراف العلامة نايت بلقاسم مولود قاسم والذي بدأ، فعلا، يثمر في مجال تكوين إطارات المستقبل الذين‮ ‬يمكن‮ ‬اعتمادهم‮ ‬في‮ ‬عملية‮ ‬إعادة‮ ‬بناء‮ ‬الشخصية‮ ‬الوطنية‮ ‬التي‮ ‬كان‮ ‬الاحتلال‮ ‬قد‮ ‬قضى‮ ‬على‮ ‬جل‮ ‬عناصرها‮. ‬وهنا‮ ‬نسأل،‮ ‬مرة‮ ‬أخرى،‮ ‬هل‮ ‬يستطيع‮ ‬بلد‮ ‬هذا‮ ‬وضعه‮ ‬أن‮ ‬يقوم‮ ‬بدور‮ ‬الوسيط‮ ‬بين‮ ‬ثقافتين‮ ‬؟‮ ‬وللحديث‮ ‬بقية‮. ‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!